مشكلة صغيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

 

مشكلة صغيرة .. رسالة منبريد الجمعة عام 1984

مشكلة صغيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

سیدی.. أكتب إليك رسالتي هذه بعد أن نفد صبري، ولم يعد أمامنا حل سواها عسى أن تصل رسالتنا إلى من بيدهم إنصافنا فنحن أسرة مكافحة.. مكونة من أب يحمل شهادة عالمية ويعمل موظفا في الحكومة وابنتين وولد. أما أنا كبری إخوتي فأنا طالبة في نهائي الطب ومتفوقة في دراستي والحمد الله وأنجح بتقديرات عالية..

وأختي طالبة في كلية عملية ومتفوقة جدا في دراستها وتنجح بتقدير جيد جدا كل سنة.

 وأما شقيقي فهو طالب في المدارس ومتفوق جدا في دراسته، وجميعنا حصلنا على شهادات تفوق خلال دراستنا وعلى خطابات شكر لتفوقنا واجتهادنا في الدراسة.. ولقد كانت حياتنا تمضي هادئة بين رعاية الأب لنا وبين حرصنا على دروسنا.. وبين جهودنا لتنظيم حياتنا في حدود إمكانياتنا والحمد لله فلسنا نشكو شيئا من هذه الناحية.. فبالتدبير والتنظيم واستعداد کل منا للتضحية من أجل الآخر.. كانت تمضي بغير صعوبة كبيرة! يعني يوم عسل.. ويوم بصل كما يقولون، لكن القافلة تسير ونحن راضون عن حياتنا وعن أنفسنا وعن تفوقنا.. ونتطلع دائما إلى غد أفضل .. إلى جانب أننا جميعا نحب بعضنا البعض ونحترم بعضنا البعض.. نحب جيراننا ونحترمهم ويبادلنا جيراننا نفس المشاعر، ونلقى الود والاحترام ممن نتعامل معهم في حياتنا اليومية من اللبان.. إلى بائع الصحف.. إلى البقال إلخ.

 

 والحق أن تفوقنا في الدراسة قد أكسبنا "مكانة" نعتز بها ونشكر الله عليها لدى أصدقائنا وجيراننا ولكن!.. وآه من لكن هذه فلقد شاء حظنا العاثر أن يسكن فوقنا جيران جدد اشتروا الشقة العلوية بمبلغ كبير من المال لأنها شقة واسعة والعمارة التي نقيم فيها بإيجار قديم عمارة جيدة وموقعها ممتاز والبيت كله هادئ وجميل، لكن منذ انتقال هؤلاء السكان الجدد إلى عمارتنا.. خرج الهدوء من بيتنا.. ولم يعد مرة أخرى حتى الآن! فجيراننا یا سیدي من أثرياء الانفتاح الذين يملكون الملايين - ونحن لا نحسدهم والله العظيم - بل نرجو لهم ملايين أخرى على ملايينهم.. لكننا فقط ندعو الله أن يكف عنا أذاهم وإزعاجهم المستمر لنا.

 

 فهم یا سیدي یعیشون الحياة بطريقة مختلفة تماما عن ما عرفناه وألفناه .. فهم يعيشون حياتهم "بصوت عال " دائما زوارهم وأقاربهم بالعشرات و عزوماتهم لا تنتهي وأصواتهم عالية دائما وضحكاتهم عالية دائما ومشاجرات أولادهم عالية باستمرار.. ولعب الصغار منهم بأصوات تزلزل الجيران.. وليلهم نهار ونهارهم ليل.. فلا تعرف متى ينامون ولا متى يذاكر أبناؤهم الصغار ولا كيف ينجحون في المدارس.. ففي عز الليل نسمع ضجيج لعب الصغار بالألعاب الإليكترونية!.. وألعاب التليفزيون! ونسمع صخب وضجيج الكبار وهم وزوارهم يتحدثون ويتبادلون الأحاديث السمجة والضحكات.. وكأنهم يجلسون معنا في صالون شقتنا وليسوا في مسکن آخر.. وهؤلاء القوم یا سیدی فيما يبدو لا يعرفون الأسرار.. فكل شئون حياتهم تطرح في الكلام علنا وبصوت عال.. وبلا خجل.. ونحن نستطيع أن نقول لك لماذا غضبت " فلانة من زوجها "فلان" وتركت له بيت الزوجية وهما من أقاربهم.. لأننا نسمع رغما عنا أحاديثهم بالكامل.. وأستطيع أن أقول لك كل أخبار بور سعيد التي يتبادلونها.. وماذا اشترى فلان.. وكم "بلاطة" دفع فيها.. ولا أعرف معنى الكلمة "لكن لابد" أنها مبلغ من المال فكل شيء في حياتهم صوته عال!

 

 والتليفزيون الذي نراه ونسمعه بغير أن يحس بنا أحد "يدوي" في شقتهم من بدء الإرسال حتى نهايته.. ثم تبدأ المسرحيات الكوميدية بالفيديو حتى الفجر والستريو لديهم يهز الجدران طوال النهار بالموسيقى الصاخبة وبالأغاني الشعبية السمجة.

أما سياراتهم الفارهة.. فلا تعرف من أين جاءوا بهذه السرينة التي توقظ الشارع بأكمله في عز الليل.. إذا أطلقوها.. أو أطلقها زوارهم..

ولا أعرف أيضا من أين جاءوا بهذا الستريو الضخم المركب في السيارة والذي يحولها إلى محطة للموسيقى الصاخبة تطلق عواءها في كل وقت .. ولا مانع بعد كل ذلك من تغير أماكن قطع الأثاث في عز الليل.. والمعترض يلجأ للقضاء.. والمهم هو راحتهم وليس مهما أي شئ آخر!.. فإذا شكونا من الإزعاج .. وناشدناهم وتوسلنا لهم وبالدموع أن يدعو لنا فرصة 3 ساعات فقط كل يوم لكي نذاكر فيها دروسنا نهرونا.. وقالوا لنا إننا نحسدهم على ما هم فيه! وإذا وسطنا الجيران بيننا وبينهم قالوا لهم.. يا ناس یا شر بطلوا قر!! وإذا شكونا للشرطة هذا الإزعاج المستمر واصلوا إزعاجهم لنا بلا مبالاة.. بل واستلمونا بعدها بالمضايقات والتهديدات وإلقاء القاذورات من "شرفاتهم العالية على ملابسنا المغسولة على الحبال"!

 

وقد أصبحنا نذاكر دروسنا في بيوت الأقارب.. أو نستذكرها تحت ضغط عصبي لا يطاق في بيتنا.. ولا نستطيع أن نركز على ما نقرأه لأكثر من دقائق ثم ينفجر صوت جديد قادم من جيراننا الجدد! وكلما شکا جار آخر منهم بطشوا به وصبوا عليه مضايقاتهم ووجد نفسه بلا حماية فيضطر للسكوت.



 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

هذه هي الرسالة التي تلقيتها من طالبة في نهائي طب بإحدى الجامعات وقد نشرتها رغم ما قد يبدو في ظاهرها من أنها تعرض لمشكلة صغيرة.. لأني أرى فيها صورة لمشكلة أكبر وأخطر من مشکلات مجتمعنا. فهي ليست مشكلة "إزعاج" يمكن أن يسويها محضر في قسم شرطة.. لكنها مشكلة أسلوب حياة لدى فئات عريضة أصبح يهدد العلاقات الاجتماعية والقيم والمثل العليا بخطر عظيم.. إنها مشكلة "أنا وبعدى الطوفان" التي تحكم تصرفات كثيرين الآن في مقدمتهم معظم أبناء هذه الفئة الجديدة.. وهؤلاء بالذات يعيشون الحياة بأسلوب "زاعق" يعلن عن وجودهم بطريقة استفزازية ومقززة في كل لحظة وفي أي مكان يوجدون فيه.. ولا بأس في ذلك رغم فجاجته إذا كان لا يمثل اعتداء على حريات الآخرين وراحتهم وحقوقهم ومن هنا يدخل دائرة الجريمة الجنائية والاجتماعية أيضا، ولا أتصور أن سلوكيات أفراد هذه الفئة سوف تتغير إلى الأفضل خلال وقت قصير، فالإنجليز يقولون يا آنستي في أمثالهم "إنك تحتاج إلى ثلاثة أجيال لكي يصنع المال من إنسان ما جنتلمانا" ! أي إنسانا متحضرا بالسلوك والقيم.. لا بالمال والملابس و"نواعير" السيارات ثم إن هذه الطبقة في تصوري ليست لها مثل عليا تحتذيها وتهذب من سلوكها، وليست لها أيضا قدوة تقلدها وتنال عنها سلوكياتها المتحضرة لأنها أصلا طبقة شيطانية بلا جذور، وقد تولد لدى معظم أبنائها للأسف بسبب نجاحهم في صنع ثروات ضخمة في خلال عدد محدود من السنوات - اعتقاد عجيب بأنه ليس في الوجود كله من هو أذكى منهم ولا أحسن ولا أفضل، وبالتالي فإن ما يصنعونه هو الصواب دائما والآخرون على خطأ، وهذا غباء وعمى للقلب والبصيرة!.

 

وهم بتصرفاتهم كأنهم يسائلون أنفسهم: ماذا صنع الأثرياء القدامى بنوا المصانع؟ طز !.. كونوا ثرواتهم في 30 و40 عاما؟ هذه خيبة منهم! أنشاؤا الجامعة المصرية القديمة وتبرعوا للمدارس والمعاهد ورعوا الثقافة والفنون والعلوم.. قطيعة!.

فلا أمل إذن في أن تنقل هذه الطبقة الجديدة السلوكيات السليمة والمثل والقيم عن الطبقة القديمة.. ولا أمل أيضا في أن تنقل عن طبقة المثقفين و "الانتلجنسيا" سلوكياتها وأن تقلدها.. فهم يکنون لها إحساسا غريبا هو مزيج من الشعور بالنقص تجاهها والشعور بالتعالي الكاذب عليها.. لعدم إيمانهم بجدوى العلم والشهادات إلخ، فإذا أضيف لذلك ما تكنه الطبقة المثقفة أصلا لأفراد هذه الفئة من احتقار باطني عظیم لها! فإن الأمل يبدو ضئيلا للغاية في أن تتفاعل هذه الطبقة الجديدة معهم، وفي أن تنقل عنهم فلا يصبح باقيا في النهاية سوی المثل والسلوكيات المكتسبة من عالم الشطارة والعالم السفلي وهذه كارثة أخرى.. لأنها تتعامل مع الآخرين بهذا السلوكيات وتزید من صعوبات حياتهم بها.

 

والحق أن كل ذلك لا يعنيني بقدر ما تعنيني هذه النتيجة المفزعة التي توصلت إليها كاتبة الرسالة وشقيقاتها بعد أول مواجهة مع عينة من هذه الشريحة الاجتماعية.. وهي أن "الحل الوحيد" لكي تحميا نفسيهما من إزعاج هذه الشريحة لحياتها هو أن تنتسبا بشكل أو بأخر إلى سلطة ما ممثلة في الزواج من ضابط شرطة أو وكيل نيابة !! إن هذه هي كارثة أشد وأفظع من كارثة سلوكيات غير متحضرة لبعض الأفراد، ففي ذلك تسليم "مرير" بأن العلم والتفوق والأخلاق الطيبة والقيم لا تكفي كلها للحياة في أمان، وهذا هو ما يخيف أكثر من أي شئ أخر.. فهل لدى المهتمين بدراسة أحوال مجتمعنا تفسير لذلك ؟.

 

أما رسالتك يا آنستي فلن أحرقها وإنما سأحتفظ بها کشهادة عصرية على مشكلة جديدة من مشاكل حياتنا ولا تخشي شيئا فلن أسلمها لأحد ولو كان من أصحاب البلايين لا الملايين إن شاء الله !.

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات