أنغام السعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

أنغام السعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

أنغام السعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


أكتب لك هذه الرسالة تعليقا على رسالة نشرت في هذا الباب منذ فترة ورأيت من واجبي أن أسري عن صاحبها بعض آلامه براوية قصتي الشبيهة بقصته لكيلا يفقد الأمل في الخير والحياة.

 فأنا يا سيدي شاب کنت منذ سنوات طالبا في كلية الحقوق، وبين جدران الكلية عرفت زميلة لي لاحظت أنها تسعى إلى التعرف علي وتختلق الأسباب لذلك، ومع أني لم أفكر في التعرف إليها فإنني استجبت إلى توددها إلي وأرضاني ذلك، ثم توثقت علاقتنا ولم تلبث أن تحولت إلى حب جارف صهر روحينا معا، ودام حبنا كل سنوات الدراسة حتى تخرجنا معا، وكنت معفيا من أداء الخدمة الوطنية لأني وحيد، ففاتحت أبي وأمي برغبتي في الارتباط بزميلتي، وأعلنا موافقتهما على الفور، واصطحباني إلى بيت عمها الذي تقيم معه منذ وفاة والديها، ورحب بنا الرجل وتم عقد القران سريعا، وافتتحت أنا بعد عام من التدريب لدى أحد المحامين مكتبا خاصا لي، ووفر لي أبي شقة لتكون عش الزوجية، ولم يبخل علي بشيء، فأصبحت الشقة كالجنة، وطوال هذه الفترة كانت فتاتي تطير بأجنحة السعادة، لا تصدق ما يجري وسعيدة بكل شيء ثم تم زفافنا ونعمنا بالحب والحنان في عشنا الجميل كعصفورين يطاردان |بعضهما البعض في مرح وسعادة.

 

 ثم فجأة صدمت بوفاة أبي الحبيب رحمه الله وحزنت لرحيله، ووجدت نفسي مضطرا لإغلاق مكتبي للمحاماة لكي أدير عمله التجاري الذي تركه وراءه .. وكنت قد سجلت عقد شقة المكتب باسم زوجتي منذ البداية فأغلقته وانصرفت إلى العمل التجاري وتفرغت له.. ووفقني الله في الحفاظ عليه وزاد دخلي زيادة كبيرة، فلم أحرم زوجتي رفيقة الحب والدراسة من التمتع بثمار مما أفاء الله به علي.. فسارعت لتلبية كل رغباتها.. بل كنت لا أنتظر حتى تطلب مني شيئا، وإنما أبادرها دائما بتحقيق كل ما تهفو إليه.

 

وفي هذه الظروف عدت ذات يوم من عملي فزفت إلي زوجتي البشري بأنها حامل في الشهر الثاني فكانت فرحتي بالنبأ طاغية وكيف لا؟ وكل رجل يحب أن ينجب من زوجته التي يحبها وتحبه ولا "يدشن" العلاقة بينهما ويجعلها أبدية؟ وتضاعف اهتمامي بزوجتي، ورأت أمي أن تنتقل للإقامة معنا في الشقة في هذه الفترة بصفة مؤقتة لكي ترعى زوجتي طوال شهور الحمل.

وظلت موسيقى السعادة تعزف أنغامها العذبة في عش أحلامنا، وبعد عدة أسابيع من ذلك بدأت زوجتي تفقد أعصابها وتثور لأتفه الأشياء، ثم لم تلبث عصبيتها المفاجئة أن اقترنت بشيء من المرارة والتشكي من سوء الحظ .. وفسرت ذلك في البداية بأنه من تأثير الحمل الأول عليها، لكني لم أفهم حكاية الشكوى من الزمان والحظ هذه، فلجأت إلى صديقتها الوحيدة لأسألها تفسيرا لذلك فتهربت من الإجابة ولم تشف غليلي .. وانقطعت هذه الصديقة عن زيارة زوجتي بعد أن كان لا يمضي يوم لا تلتقيان فيه عندي أو عندها.

 

 ومضت الأيام على هذه الحال وزوجتي تتباعد عني بروحها يوما بعد يوم، حتى توقفت موسيقى السعادة عن العزف تماما وخيم على عش الزوجية صمت كئيب .. واقتضت ظروف عملي السفر لمدة ثلاثة أسابيع فودعت زوجتي طالبا منها أن تراجع نفسها فيما آلت إليه حالنا، لكي نعود إلى عهدنا السعيد، ووعدتني بذلك وهي ترجوني ألا أشغل بالي بها وأن أهتم بعملي، وسافرت وعدت بعد ثلاثة أسابيع على جناح الشوق إلى زوجتي فأحسست منذ اللحظة الأولى التي فتحت فيها باب الشقة بشيء ثقيل يخيم على جوها، فالنوافذ مغلقة والستائر مسدلة وأمي ليست في البيت، والشقة كلها تفوح منها رائحة الكآبة، هل للكآبة رائحة يا سيدي؟ لقد شممتها وأنا في الصالة، وقبل أن أخطو إلى داخل الشقة، وقد وجدت زوجة عمها التي استقبلتني بحذر كأنها تهم بإبلاغي بشيء ما وسألتها عن زوجتي فأشارت إلى غرفة النوم صامتة، ودخلت إليها فوجدتها راقدة في السرير شاحبة ضعيفة، وما إن رأتني حتى ألقت برأسها على صدري وسالت دموعها غزيرة وعرفت أنها فقدت حملها وهي في الشهر الخامس وأنها تعرضت لخطر كبير .. فاکتأبت وحزنت لذلك، لكني لم أستسلم للحزن وآمنت بأنها إرادة الله عز وجل، وهو قادر على أن يعوضنا غيره وهدأت روعها.. وعلمت بعد ذلك أن أمي غادرت البيت غاضبة من تهور زوجتي عليها أكثر من مرة، وبعد أن صبرت عليها طويلا، فاصطحبت زوجتي لزيارتها ومصالحتها، واستجابت زوجتي لذلك وأرضت أمي واستسمحتها وعدنا للبيت، وقد تخلصت من هم ثقيل.

 

ولاحظت بعد هذا أن زوجتي قد بدأت تعود إلى طبيعتها الأولى، وأنها تقترب مني رويدا رويدا.. وبدأت تعود راضية سعيدة كما كنا قبل الحمل، وإن لم تعد تماما إلى عذوبتها السابقة.

وذات يوم لا ينسی عدت إلى بيتي في الظهيرة فلم أجد زوجتي، وتعجبت لذلك كثيرا لأنها لم تتعود الخروج دون إذني، وأسرعت أتصل ببيت عمها فلم أجدها فيه، ثم بصديقتها الوحيدة فوجدتها تدعوني لمقابلتها وفي صوتها نبرة غريبة توجس لها قلبي، وذهبت لمقابلتها فإذا بها تقص علي والدموع في عينيها أقصى ما يمكن أن يسمعه رجل وزوج، فقد طلبت مني أن أطلق زوجتي مؤكدة لي أن زوجتي الحبيبة التي ارتبطت بها منذ السنة الثانية بكلية الحقوق، كانت قبل أن تدخل الكلية مرتبطة عاطفيا بشاب كان جارا لها، لكنه سافر للعمل في الخارج وتركها فلم تجد بدا من التعرف إلى إنسان آخر لكي ترتبط به في المستقبل، وكان الإنسان الذي وقع اختيارها عليه هو أنا، فتوددت إلي ونسجت حولي شباكها وتزوجتني، ثم نجح الطائر المهاجر في مهجره واستقرت أوضاعه بعد خمس سنوات من سفره، فتطلع إلى الحب القديم فراسلها على بيت عمها وأكد لها أنه مازال على الحب مقيما ويريد الزواج منها، وراسلته الزوجة المصون وهي زوجة وحامل، وأخفت عنه أنها زوجة أو صارحته به الله أعلم، المهم أنها نسجت المؤامرة وأحكمت خيوطها، ولم يقف الحمل عقبة في طريقها فتخلصت منه رغم تحذير الأطباء لها، وتنقلت من طبيب إلى آخر حتى وجدت طبيبا منعدم الضمير قبل أن يجري لها عملية الإجهاض وهي في الشهر الخامس مقابل مبلغ كبير، وكادت تذهب ضحيتها لولا أن الله يمهل أحيانا للخاطئين لكي يعاقبهم بما فعلوا فيما بعد .. وباعت شقة المكتب التي كتبتها باسمها في السر .. ثم انتظرت اللحظة المناسبة ورحلت إلى أين؟ لا أعلم؟ كيف سافرت وهي زوجة ودون موافقة زوجها لا أعلم؟

 

وسمعت كل ذلك من فم الصديقة وأحشائي تتمزق ثم نهضت من أمامها محطما وعدت لمسكني فاعتزلت الناس فترة لا أريد أن أرى أحدا، ولا أن يراني أحد، وفي داخلي إحساس کریه بالعار.

 ورغم أحزاني فلقد حمدت الله على أني لم أنجب من مثل هذه الزوجة ابنا يتعذب بيننا ويربطني بها إلى الأبد.

وبقيت على هذه الحال زمنا حتى هداني الله إلى الطريق السليم فوجدت ملاذي في العبادة .. وأحسست أني أغسل آلامي في بحر من النور الإلهي يغمر روحي فخرجت من عزلتي وعدت إلى حياتي وعملي وطلقت هذه الشريكة الغادرة غيابيا، وأحسست بالراحة بعد أن تخلصت من آخر ما كان يربطني بها وهو الورقة البيضاء، وتركتها لضميرها ولحساب ربها عما فعلت، وطهرت الشقة من كل ما يذكرني بها.

 


ولكاتب هذه الرسالة أقول:

صدقت يا سيدي فيما قلت وفيما رويت عن نفسك، مدفوعا بأنبل الرغبات في تخفيف آلام الآخرين، والحق أني قد ترددت طويلا في نشر رسالتك بعد أن لمست من خطابات بعض القراء الشبان أن مثل هذه القصص تثير شكوكهم في وفاء شريكات المستقبل، وتخيفهم من الإقدام على مشروع الزواج، وهي قضية خاسرة ناقشتها من قبل، وسأناقشها مرة أخرى، بعد أن كتب إلي أب فاضل رسالة يحملني فيها المسئولية الأدبية عن «عنوسة» ابنه الذي تخطى الثلاثين ومازال مترددا أمام مشروع الزواج، وحجته في ذلك هو ما يقرأه من بعض قصص الغدر في بريد الجمعة ! ثم يختتم الأب المشفق على ابنه رسالته طالبا مني أن أستقبل ابنه وأناقشه وأقنعه بفساد رأيه، وأن أترجم ذلك عمليا بأن أرشح له للزواج من تثبت له خطأ ظنونه، وتؤكد له أن الدنيا بخير وأن الفضليات هن الأغلبية الصامتة في كل زمان ومكان، ورغم أن الأمر لا يحتاج إلى إقناع لأنه سنة الحياة وليس لسنة الحياة تبدیل، فإنني أقبل المسئولية وأطالبه بزيارتي عقب عودتي من السفر إن شاء الله، لأبحث معه الأمر من كل جوانبه.

 

 وأنت يا صديقي رغم ما تعرضت له من غدر خسيس، وما طعنت به من خنجر مسموم، قد ساعدتني برسالتك هذه التي تنبض بالإيمان بالله وبقضائه وقدره وبالخير الإنساني، لأنك تقدم لهذا الشاب وأمثاله إلى جوار محنة الغدر الخسيس الإيمان الصحيح بسلامة فطرة الحياة الإنسانية واستقامتها، وتكفي في هذا المجال كلماتك الصادقة المصهورة

بلهيب التجربة أن ما صادفنا في حياتنا من حظ عاثر لا يعني أن قانون الحياة هو الغدر وانعدام الوفاء، وإنما يعني فقط كما قلت أنت إننا لسوء الحظ لم نصادف من الحياة سوى وجهها القبيح ومن الناس سوی شرارهم .. لكن هذا الوجه الخادع ليس وجهها الحقيقي، وهؤلاء الغادرون ليسوا هم البشر وإنما حثالتهم التي لا تخلو منها حياة ولا مجتمع في كل العصور، والذين لا يمثلون في النهاية سوی بقع سوداء متناثرة في ثوب الطبيعة الإنسانية الخيرة، هذه هي الرؤية الصحيحة التي ينبغي أن ننظر من خلالها دائما إلى كل هموم الحياة، فلست من القائلين مع المتنبي: «أذم إلي هذا الزمان أهیله» الذي اختار فيه كلمة «أهيل» تصغيرا «للأهل» وتحقيرا لشأنهم، ولست أحترم كثيرا من يسيء الظن بالحياة وبالناس جميعا كأنه لا يرى فيها فاضلا سواه، مع أن هذا الاعتقاد نفسه هو أول دليل على سوء طوية الإنسان وانحراف تفكيره واستشعاره التميز الكاذب عن الآخرين، لأنه لو كان فاضلا بحق فلماذا يستكثر على البشر أن يكون بينهم من يماثله فضلا وخلقا؟

 

لقد أعجبني في رسالتك أنك لم تفقد ثقتك بالحياة وبالخير الإنساني في محنتك، وأنك سلمت بأن ما تعرضت له هو "حكم جرى للمليك فينا" كما يقول أبو العلاء المعري، واتجهت إلى الله بقلبك ومشاعرك فهداك سواء السبيل، ووضع في طريقك من ضمد جراحك.. فبدأت أنغام السعادة الحقيقية مقرونة بأنغام الوفاء تعزف في عشك الجميل.. وشاءت إرادة "المليك" أن يعوضك عن الثمرة الضائعة بنتا جميلة هي ثمرة الحب والوفاء والكرامة والأمان، فكان حقا على الحياة أن تقدم لك كل ذلك وأنت من لم يفقد احترامه لها في أحلك الظروف.

وكان حقا علي أيضا أن أشكرك على رسالتك هذه وأن أهديها لكل من أزعجتهم بعض قصص انهزام الحب وانعدام الوفاء من الجانبين.

رابط رسالة الخنجر المسموم

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات