لهيب التجربة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

لهيب التجربة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

لهيب التجربة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

إن الإنسان لا تنبع سعادته إلا من أعماقه الداخلية.. وأثمن الجوائز التي ينالها هي أن يعيش في سلام داخلي مع نفسه ومع الآخرين .. ولكنها جائزة صعبة المنال لا يفوز بها إلا من كان صبورا واسع الإدراك عظيم الاعتماد على خالقه .

عبد الوهاب مطاوع


أكتب رسالتي هذه بعد أن قرأت رسالة "الحقيبة الزرقاء" التي روت فيها كاتبتها قصه كفاحها مع زوجها حتى بدأت الحياة تبتسم لها.. فإذا بالزوج الشاب يعاني من المرض ويستسلم لألامه وتساؤلاته الحائرة عن معنى الكفاح إذا كنا لا نجني ثمراته.. ولقد تألمت لهذه الرسالة وأردت أن أروي لزوج كاتبتها قصتي لعله يجد فيها بعض الأمل من الخروج من محنته بأمر ربه.

 

فأنا يا سيدي شاب من أهل الإسكندرية كنت منذ سنوات طالبا في الثانوية العامة أحيا حياة عادية ولا أحمل للدنيا هما ولا أبذل جهدا في الاستذكار ولا استجيب لمحاولات أسرتي لحثي على الاجتهاد والنجاح .. بل وأضيق بها ثم أديت امتحان الثانوية العامة وظهرت النتيجة فكنت من الراسبين بشدة إذ كان مجموع درجاتي لا يزيد على 52 درجة فقط من مجموع الدرجات في كل المواد.

وهو مجموع مزر قال لي أساتذتي عنه أنه لا يحصل عليه طالب استمع مجرد استماع لدروسه ولم يبذل أي جهد أكثر من ذلك وأحسست بالخجل وأمضيت شهور الصيف مكتئبا حتى بدأت الدراسة ودخلت مدرستي من جديد لأعيد السنة الدراسية ووزعت المدرسة الطلبة على الفصول فوجدت نفسي في نفس الفصل القديم وعلى نفس المقعد الذي جلست عليه في العام الماضي وسط طلبة جدد يملؤهم الأمل والحماس فضاقت نفسي بذلك.. وقررت الانتقال من هذه المدرسة رغم قربها لبيتي إلى مدرسة أخرى وسحبت أوراقي من مدرستي القديمة والتحقت بمدرسة أخرى تبعد عن بيتي خمس محطات بالترام رغم معارضة أسرتي لذلك.. حتى لا أتحمل مشقة المواصلات إلى المدرسة الجديدة.

 

لكني رضيت بأن أتحملها.. على ألا أتحمل وجودي في نفس الفصل الذي شهد فشلي الذريع .. وأصبحت أركب الترام كل صباح إلى مدرستي وانتظمت في الدراسة .. وذات صباح كنت أحمل كتبي وأهم بركوب الترام.. فإذا بي اسقط تحته ثم أفيق فأجد نفسي في مستشفى الطلبة وحولي أهلي والأطباء.. وبعد فترة من العلاج قرر الأطباء بتر ذراعي وساقي اليمنيين اللتين تهشمت عظامهما تحت الترام.. واجمعوا على ذلك ما عدا طبيبا واحدا أبدى عطفا خاصا تجاهي .. وعز عليه أن تبتر ساق وذراع شاب في الثامنة عشرة من عمره ولعله وضع نفسه موضع الأب فعز عليه ذلك, وطلب الطبيب من زملائه امهالي أسبوعا واحدا لعلي أستجيب خلاله للعلاج .. فإن لم استجب خلاله للعلاج  فلينفذوا قرارهم بالبتر مهما كان ذلك قاسيا.

 

 ووافق الأطباء مترددين وتعلقت آمالي بهذا الأسبوع .. وشكرت الطبيب المشفق بدمعي وتوجهت لله بقلبي وصلاتي الصامتة ومضت الأيام كأنها دهور .. فإذا بذراعي تستجيب للعلاج بأمر من صورها وخلقها من العدم وإذا بمراكز الإحساس بها سليمة.. فبدأ الأطباء في علاج ساقي فإذا بها تستجيب أيضا للعلاج فأبلغني الأطباء بأن علاجي سيطول وأنه يتوقف في جزء كبير منه على حالتي النفسية وعلى صبري , ولم أكن في حاجه إلى من ينبهني إلى ذلك.. لأن الله أنزل عليّ السكينة من عنده.. فرضيت بكل شئ وقبلت كل شئ واستسلمت بقضائه وقدره.. وانتظمت في العلاج وأطعت أوامر الأطباء بدقة.. ولم أفقد صبري ولا إيماني لحظة .. وبين حين وآخر ينبئني الأطباء بأنهم سيجرون لي جراحة في عظامي المهشمة.. فأستخير الله وأتهيأ لها ويجي الممرضون لاصطحابي لغرفة العمليات فيجدونني متوضئا ومصليا لربي ومبتسما فأدخل الغرفة مترنما بآيات القرآن الكريم في سري ومرددا دعاء سيدنا أيوب عليه السلام .. "ربي إني مسني الضر.. وأنت أرحم الراحمين".

فأخرج منها مبشرا بنجاح الجراحة بحمد الله .. ثم أنفذ بدقة ما يطلبه مني الأطباء من علاج طبيعي وأمضي أوقاتي بلا عمل سوى قراءة الصحف وسماع أشرطة القرآن الكريم وهكذا حتى أكتمل عدد الجراحات التي أجريتها ثماني عشرة جراحة تحملتها بصبر الصابرين حتى استغرق علاجي عامين كاملين خرجت بعدهما بقصر في الساق اليمني قدره 5 سنتيمترات فقط.. وعدت لأحيا حياة طبيعية وأحاول أن أعوض ما فاتني وقد أكسبتني المحنة نظرة جديدة للحياة فأصبحت أكثر جدية وتعجبت من الوقت الذي ضاع وأنا صحيح البدن ولم أحسن الاستفادة به, فأديت امتحان الثانوية العامة واجتزته بنجاح ثم التحقت بكلية التجارة واجتزت كل سنواتها وحصلت على البكالوريوس .

 



 

ولــكـاتـب هـذه الـرسـالة أقـول:

بعض المؤرخين يعتقدون إن الصعاب الشخصية التي واجهت بعض العباقرة والمشاهير كانت السبب الأساسي في نبوغهم وفي شحذ إرادتهم لتحقيق ما أرادوه لأنفسهم .. بل إن بعضهم يعتقد عن إيمان بأنه لو لم يكن الشاعر الإنجليزي ميلتون أعمى لما كتب قصائده وأنه لو لم يولد الفيلسوف الفرنسي ديكارت عليلا مهددا بمرض السل الذي ماتت به أمه لما قضي ساعات طويلة في الفراش متأملا ومفكرا وقارئا مما أهله فيما بعد لوضع أسس فلسفته التي يعتبره بها المؤرخون أبا للفلسفة الحديثة .. ونفس الاعتقاد ينطبق على الموسيقار العبقري بيتهوفن الذي أصيب بالصمم .. وعلى العالم الانجليزي تشارلس داروين الذي لو لم يكن مريضا طريح الفراش لما أنجز ما أنجز من اعمال كما كتب هو عن نفسه .. وعلى عشرات وعشرات من العباقرة والمفكرين وعلي آلاف وملايين من أبطال الحياة الصامتين الذين تقبلوا اختباراتهم برضا واجتازوها بسلاح الصبر والإيمان والسعي إلى تحويل الخسائر الشخصية إلى أرباح .. بعد أن صهرتهم المحن في بوتقة الاختبار فخلصت نفوسهم من شوائبها وأكسبتهم نظرة أعمق للحياة .. وإرادة أقوى.

 

إن الإنسان يا صديقي لا تنبع سعادته إلا من أعماقه الداخلية.. وأثمن الجوائز التي ينالها هي أن يعيش في سلام داخلي مع نفسه ومع الآخرين.. ولكنها جائزة صعبة المنال لا يفوز بها إلا من كان صبورا واسع الإدراك عظيم الاعتماد على خالقه .

ولقد اهتديت أنت بحكمتك وايمانك ونظرتك السليمة إلى الطريق الصحيح فنلت جائزتك وينتظرك المزيد منها بإذن الله ولسوف يهتدي إليه بطل رسالة "الحقيبة الزرقاء" فليصمد للاختبار ويحول خسارته إلى أرباح ويبتسم للحياة من جديد إن شاء الله ..

وشكرا لك على رسالتك الجميلة.

رابط رسالة الحقيبة الزرقاء

رابط رسالة الجائزة الذهبية من الكاتب عام 1998

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات