الجائزة الذهبية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998
لا أعرف ما إذا كنت
سوف تتذكرني أم لا ؟ .. لكني على أية حال واحد ممن كتبوا إليك بهمومهم ذات
يوم ونشرت رسالتي ورددت عليها بما مازلت أذكره حتى الآن وبعد 9 سنوات من
نشرها .. فأما رسالتي الأولى لك فلقد اخترت أنت لها عنوانا معبرا هو لهيب التجربة وقد كتبتها لك وأنا
طريح الفراش لما يقرب من العامين بعد تعرضي لحادث ترام أليم في مدينتي
الإسكندرية , وكنت وقتها في الثامنة عشرة من عمري , وطالبا
بالمرحلة الثانوية , وقد أجريت لي عدة عمليات جراحية خرجت منها وساقي
اليمني أقصر من ساقي اليسرى, وبدا لي وقتها أن الدنيا قد أظلمت في وجهي ,
وأصبحت واحدا من المعاقين بعد أن كنت شابا ممتلئا بالصحة والحيوية وحب الحياة
, وشكوت لك في رسالتي من خوفي من المستقبل .. بعدما تعرضت له من أحداث
.. ورددت علي بما يدعوني إلى التفاؤل والتمسك بالأمل في الغد.. وقلت لي
إنني شاب والحياة ممتدة أمامي , وسوف تتسع لتحقيق كل آمالي فيها , وإننا
كبشر لا نملك أن نعترض على حكم القضاء فينا , لكننا نملك ألا نسمح لما حكمت
علينا به المقادير بأن يحطم إرادة الحياة فينا .. أو يحرمنا مما نستطيع
تحقيقه لأنفسنا إذا نحن غالبنا ظروفنا , وتحملنا أقدارنا بشجاعة ,
وتواءمنا مع المتغيرات الجديدة في حياتنا.
ومع إنني لن أفقد إيماني
بربي أبدا حتى في أتون المحنة نفسها , إلا أن كلماتك الحانية قد زادتني
إيمانا وشجعتني على التمسك بالأمل أكثر وأكثر .. ونظرت فوجدت أمي وشقيقاتي
الثلاث يلتففن حولي ويحطنني بحبهن وحنانهن ورعايتهن ووجدت أهلي وأصدقائي
يحيطون بي من كل جانب, ويتطوعون لتلبية رغباتي واحتياجاتي, فسألت نفسي:
وماذا ينقصني لكي أستكمل مشوار الحياة وأتجاوز هذه المحنة ؟ ..
ووجدت الجواب حاضرا فقررت التقدم لامتحان الثانوية العامة من المستشفى وأقبلت
على مذاكرة دروسي بكل همة وعاونني أصدقائي في ذلك بكل شهامة وتقدمت
للامتحان, فوفقني الله سبحانه وتعالى في الحصول على الشهادة , وسعدت
أسرتي بنجاحي سعادة طاغية وبكت أمي وشقيقاتي بدموع الفرح .. وشاركهن الأهل
والأحباء الفرحة الطاغية .. وكأنني الطالب الوحيد الذي حصل على الشهادة ذلك
العام .. وغادرت المستشفى الذي دخلته حطاما من الناحية الجسدية والنفسية
, وأنا حاصل على الثانوية العامة والتحقت بكلية التجارة , واجتزت سنوات
الدراسة كلها بنجاح .. ولم يشعرني أحد بأنني إنسان مختلف عن غيري من الطلبة
رغم أن مشيتي غير طبيعية , وتخرجت في كليتي .. وبدأت رحلة البحث عن عمل
ملائم لي .. وبسبب إصابتي التي ظننت حين وقعت أنها قد أنهت كل آمالي ,
حصلت على فرصة عمل بشركة النيل للكبريت ضمن نسبة الـ 5% من المعاقين التي
تعينهم الشركات العامة في وظائفها.
وسعدت بعملي وحياتي ورضيت
عنهما , غير أنني منذ فترة قصيرة وجدت أمامي فرصة متاحة للهجرة إلى
أمريكا, وترددت في الإقدام على التجربة في البداية خوفا من أن يحزن ذلك أمي
الغالية وشقيقاتي الحبيبات .. لكني وجدت تشجيعا منهن على عدم التردد وسافرت
لأمريكا وعانيت صعوبات البداية الكثيرة .. وتحملت عناء كبيرا حتى كدت بعد
بضعة شهور أسلم باليأس من النجاح وأرجع لبلادي , فإذا بالإصابة التي اعتبرت
يوم تعرضي لها أسود الأيام في حياتي , تتدخل لإنقاذي من ظلام اليأس
والفشل, وأتاحت لي هذه الإصابة الالتحاق بإحدى مدارس تأهيل المعاقين هناك
, حيث قمت بدراسة الكمبيوتر فيها لمدة ستة أشهر , وبعدها تمكنت بفضل الله
وتوفيقه من العمل كموظف حسابات بالشركة التي مازلت أعمل بها حتى الآن.
ولم يكن كل ذلك سوى جزء
ضئيل من جوائز السماء التي بشرتني بها إذا أنا صمدت لمحنتي وتمسكت بإيماني بربي
ونفسي وحقي في الحياة , فلقد كانت أمي تلح علي دائما في رسائلها إلي
واتصالاتي بها بأن أتزوج لكي أجد من ترافقني في رحلة الحياة .. وكانت رغبتي
دائما هي أن أتزوج من مصرية مثلي , لكن المشكلة هي أنني إذا أردت أن أفعل
ذلك فلن يكون أمامي خيار سوى الزواج العائلي الذي لا يسبقه حب يعمق الروابط
بين الطرفين, ولم أكن أفضل هذا النوع من الزواج .. لكني قبلت بما لم يكن
متاحا لي غيره .. ورشحت لي أسرتي زميلة لزوج شقيقتي كان والدها أستاذا
بجامعة الإسكندرية , ورجعت إلى مصر في زيارة قصيرة لكي أرى أمي وشقيقاتي
وأهلي وأرى العروس المرشحة لي منهم , وذهبت إلى اللقاء الأول معها في مكان
عملها .. وأنا أتساءل كيف يمكن أن يؤدي مثل هذا اللقاء العابر إلى بدء
علاقة ارتباط عاطفي بين شخصين لم يتعارفا من قبل لكي يتشاركا في رحلة الحياة
.. وتم اللقاء فإذا بي أشعر من اللحظة الأولى بانجذاب شديد لهذه الفتاة
التي أراها لأول مرة وبغير أن أعرف سببا واضحا لهذا الانجذاب , ووجدتني
أبلغ أسرتي بموافقتي عليها وابتهاجي باختيارها لي وذهبت مع أمي وزوج شقيقتي
وصديق للأسرتين لمقابلة والدتها وشقيقها , والاتفاق على الأمور المادية ,
فلم نختلف على شيء وتم الاتفاق سريعا على إتمام الخطبة خلال أيام , وشعرت
بالارتياح الشديد لذلك ورجعت إلى أمريكا, وقضيت بها احد عشر شهرا ثم عدت
للإسكندرية لإتمام الزواج والزفاف , وتم الزواج وقضيت فترة العسل القصيرة
ثم ودعت عروسي ورجعت لأمريكا لكي أبدأ محاولاتي لاستقدامها إلى هناك فلم تمض
عشرة شهور أخرى حتى كنت قد حصلت على الجنسية الأمريكية وأصبح ميسورا لي أن
أستقدم زوجتي للإقامة معي وقمت بالإجراءات وبعد شهرين لحقت بي زوجتي
في أمريكا وبدأنا الحياة الفعلية المشتركة بيننا , وفهمت حينذاك فقط سر
هذا الانجذاب الغامض الذي شعرت به تجاهها في اللقاء الأول.
نعم يا سيدي..
صحيح أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف,
لكنه صحيح أيضا أن لهذا الائتلاف أسبابه في شخصية كل طرف .. ولقد عرفت
بالعشرة والسكن أسباب ائتلاف روحي مع روح هذه الفتاة التي رأيتها لأول مرة في
مكان عملها منذ ثلاث سنوات , فهي إنسانة مخلصة بكل معنى الكلمة وحيية
ومنبسطة الأسارير على الدوام , ولم أرها منذ جمعتنا الحياة المشتركة يوما
متبرمة من شيء أو ساخطة على شيء وتخاف علي وتتقي الله في وفي بيتي وتصبر على
عصبية مزاجي التي لا حيلة لي فيها في بعض الأحيان حتى لتشعرني بالخجل من
نفسي .. وأحس أحيانا إنني لا أستحقها, أما أنا فاني أحبها وسوف أظل أحبها
إلى النهاية بإذن ربي , وأسعى لإسعادها بشتى الطرق, وأرجو من الله أن
تكون عشرتي لها طيبة بحيث تظل تحمل لي مشاعر المودة والرحمة حتى نهاية العمر
وما بعدها أيضا!
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
الإنسان المؤمن بربه ..
لا تحطمه النوازل والمحن .. وإنما يتقبلها بصبر واحتساب ويتطلع إلى تعويض
السماء له عما فقده خلال معركة الحياة .. ويعين نفسه على تقبل حياته بعد ما
شهدته من متغيرات .. ويعيد تثمين ما أتيح له من عطايا الحياة ويتعزى بها
عما فقد خلال الطريق ولا يسمح لحزنه على ما فقد بأن يسلبه القدرة على الإحساس
بما أتيح له من نعم وعطايا .. وإنما يلتمس العزاء والسلوى في هذه الجوانب
الأخرى المضيئة في حياته .. ويسعد بها رغم أحزانه الصادقة ويستمد منها
القدرة على مواصلة الحياة والتغلب على الصعوبات والأحزان, وتحقيق آماله
وآمال من يسعدون بسعادته ويشقون بشقائه من الأعزاء.. وهذا هو مغزى الرضا
بالأقدار والقبول بها وهو أمر يختلف عن الاستسلام السلبي العاجز لهذه الأقدار.
فالرضا بالأقدار حالة إيمانية ومعنوية لا
تعوق تواصل الإنسان مع الحياة, ولا تحرمه من الأمل فيها والسعي
لتحقيق أهدافه فيها.. والابتهاج بما يحققه من نجاحات على الطريق الطويل
إليها.. أما الاستسلام العاجز للأقدار فهو حالة سلبية ومرضية ولا تعني سوى
الحزن حتى الموت وعجز الإنسان عن اجتياز المحن والشدائد التي تعترض طريقه,
والهزيمة المطلقة أمامها, والموت المعنوي لكل الآمال والأمنيات في
الحياة.
ولهذا فأنا من المعجبين
بكلمة الموسيقار العبقري بيتهوفن التي أطلقها حين أصيب بالصمم وهو في أوج
مجده فقال:
ـ إنني أتقبل أقداري..
لكني لا أحني هامتي لها!!
أي أنه يتقبل راضيا حكم
القضاء عليه بفقد السمع, مع ما يعنيه ذلك من حسرة بالغة لمن كانت الموسيقى
كل حياته, لكنه لن يقف عاجزا أمامه, ولن يستسلم للعجز واليأس والأسى ..
وإنما سيواصل العمل والإبداع مستعيضا عن السمع , بالبصر وبقراءة النوتة
الموسيقية.. ونحن كما قلت لك في ردي على رسالتك السابقة, لا نملك حق
الاعتراض على حكم القضاء فينا, لكننا في المقابل نملك أنفسنا وإرادتنا
وقدرتنا على الصمود لما ترتب على هذا الحكم من آثار في حياتنا, كما نملك
أيضا أن نستعين بحكمتنا على التواؤم مع ظروفنا غير المواتية وأن نتمسك بحقنا
في الحياة, ونيل ما تصبو إليه نفوسنا, ثم نتعلق بعد ذلك بالأمل في
التعويض الإلهي لنا عما حرمنا منه أو فقدناه خلال الطريق, ونثق في حسن
اختيار الله لنا, ونرجو أن يكون ما شهدته حياتنا من أحزان, من قبيل
الألطاف الإلهية التي تأتينا في بعض الأحيان بما لا نحب, لكي تغمرنا فيما
بعد بأجمل ما نحب لأنفسنا.. وبأكثر أحيانا مما قد رجوناه لنا ونحن في أشد
لحظات المحنة ظلاما.
وهذه هي جوائز السماء
الثمينة التي هطلت عليك يا صديقي الشاب بعد صمودك للمحنة الأولى وأنت في
مقتبل الحياة, وتمسكك بإيمانك بربك وأملك فيه في عدالة السماء, بل لعل ما
حدث لك قد شحذ فيك إرادتك وهمتك فغالبت ظروفك وحققت من النجاح الدراسي ما لم
تكن لتحققه بنفس اليسر لو لم تكن هذه المحنة قد اعترضت طريق حياتك, فكأنما
قد رضيت بأقدارك لكنك لم تستسلم لها استسلام العاجزين واليائسين من كل نجاة
ولم تحن لها هامتك, كما ينبغي لإنسان مؤمن بربه وبنفسه وبحقه العادل في
الحياة مثلك, فلا عجب إذن أن تمطرك السماء بجوائزها الثمينة.. ولا عجب في
أن تتوجها بالجائزة الذهبية وهي التوفيق الإلهي في اختيار شريكة الحياة
والسعادة معها.. فاشكر ربك كثيرا.. وقل مع
الفائزين برضوان ربهم:
وَقَالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
وعسى الله العلي القدير أن يتم عليك نعمته ويرزقك بالجائزة الماسية كذلك وهي الذرية الصالحة التي تهفو إليها نفسك ونفس زوجتك الشابة الطيبة.. وشكرا لك على إشراكك لي في هذه التطورات السعيدة الموفقة في حياتك.. والسلام.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر