الأمنية المستحيلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

 

الأمنية المستحيلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

                    الأمنية المستحيلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

أرجو أن أذكرك بنفسي‏..‏ فأنا صاحبة رسالة الأيام السعيدة التي نشرت منذ أربع سنوات‏..‏ وكنت أشكو لك فيها قسوة أبي وإهانته الدائمة لي‏,‏ على الرغم من أنني وحيدته وتقصيره في الإنفاق علي‏..‏ وضربه المستمر لي حتى اضطررت لدخول المستشفى عدة مرات من جراء ضربه لي‏..‏ ورويت لك في رسالتي كيف تحملت أمي كل هذه الصعاب وخرجت إلى العمل لكي تعينني وتعين نفسها على استكمال مشوار الحياة وتصل بي إلي بر الأمان‏..‏ وقبل أن تنتهي دراستي الجامعية طردني أبي أنا وأمي حتى يتسنى له الزواج وإنجاب الطفل الذكر الذي كثيرا ما حلم به‏..‏ وعاقبني من أجله على مجيئي للحياة فتاة ولست ولدا‏..‏ ولقد طلبت منك في رسالتي تلك أن تجد لأمي زوجا يكون لي أبا بديلا للأب الذي عشت عمري كله دون أن أجده أو أتذوق حنانه ذات يوم‏,‏ وكم كان ردك علي جميلا وتفاءلت به في حياتي‏..‏ وإن كانت الظروف لم تسعدني بإيجاد هذا الأب البديل‏,‏ لكني تأقلمت مع حياتي وفوضت أمري إلى الله عز وجل ومضت بي الحياة‏..‏ ومنذ ثلاث سنوات وكانت قد مضي أحد عشر عاما منذ طردنا أبي وابتعد عنا نهائيا‏..‏ شعرت باشتياق شديد إليه‏..‏ وأصبح شغلي الشاغل هو أن أراه عن قرب أو أطمئن عليه بالرغم من أنه قد نسيني تماما كأنني لم أكن ابنته‏.‏


وكم بت من ليال عديدة وأنا أناجيه وأتمنى رؤيته وأشعر بالرثاء لنفسي حين أراني غير عزيزة عليه ولا يشتاق إلي‏,‏ وفكرت طويلا في السعي إليه والالتقاء به‏,‏ لكن خوفي منه ومن قسوته دفعاني لأن أذهب إليه في مكان عمله لأراه من بعيد ودون أن يراني‏..‏ وفعلت ذلك أكثر من مرة‏..‏ ودمعت عيناي وأنا أدعو الله أن يغرس في قلبه الشوق إلي فيحن إلى رؤيتي ويطلب مقابلتي ولو لمرة واحدة لكي أشعر بذاتي وبعزتي وبنوتي له‏,‏ ودون أن يكلفه ذلك شيئا ماديا‏..‏ فالابنة يا سيدي تحتاج إلى أبيها معنويا ونفسيا وإنسانيا وعاطفيا‏,‏ وليس ماديا فقط‏,‏ كما يتصور البعض‏,‏ لكن الله سبحانه وتعالى لم يستجب لدعائي بهذا الشأن أبدا وطال انتظاري لمجئ أي إشارة من جانب أبي بلا جدوى‏,‏ فإذا بشوقي الشديد إليه ينقلب إلى نوبة غضب عارمة حتى دعوت الله ألا ألقاه بعد ذلك أبدا إلا أمام الله العادل ليأخذ لي منه حقي‏.‏


وبعد إجازة عيد الأضحى منذ ثلاث سنوات رجعت إلي العمل فإذا بجرس التليفون يرن‏..‏ ويحمل لي نبأ وفاة أبي بعد معاناة من المرض‏,‏ وأبلغني من نقل الخبر إلي أن أبي كان في أيامه الأخيرة يتذكرني كثيرا ويطلب أن يراني‏,‏ لكني كنت في زيارة لأحد أخوالي بالإسكندرية لعدة أيام فلم يجدني أحد من أهل أبي في العمل‏.‏
يا ربي لقد تحققت الأمنية الحسيرة التي تمنيتها طوال أحد عشر عاما وطلب أبي أن يراني كما تمنيت‏..‏ لكن أحدا لم يستطع أن يتوصل إلي لإبلاغي بدعوته لي‏..‏ وشاءت إرادة الله أن يرحل أبي عن الحياة وهو يحلم بلقاء ابنته التي ابتعد عنها‏ 11 سنة كاملة‏..‏ وأنا أحلم في نفس الوقت بأن أراه وأشعر بأبوته وسافرت مع أمي وأخوالي إلى بلدة أبي للعزاء فيه‏,‏ وذهلنا لحرارة الترحاب الذي استقبلنا به أنا وأمي من كل أهل أبي‏..‏ حتى تجددت الأحزان وسال الدمع‏..‏ وجاء كل الأقارب ليشهدوا أمام الله بأن أبي قد اعترف بخطئه في حق أمي وحقي أمامهم‏,‏ وأنه روي لهم نادما كيف أذاقنا العذاب سنوات طوالا وقصر في الإنفاق علي‏,‏ وكيف جري وراء وهم إنجاب الطفل الذكر لكي يحمل اسمه‏,‏ وأقر حين علم بأنني قد حصلت على الماجستير وبدأت الإعداد للدكتوراه بأنني أفضل من ألف ولد‏,‏ كما اعترف بأن كل ما جمعه من مال مقابل حرماني من الإنفاق على طعامي وشرابي وملبسي وتعليمي قد ضاع سدى في محاولات إنجاب الطفل الذي لم يرزق به‏,‏ وبعد أن فشلت آخر محاولة للإنجاب عن طريق طفل الأنابيب‏,‏ مرض حزنا وقهرا فإذا بزوجته تتركه لأهله في أيامه الأخيرة‏..‏ لأنها لا تصبر علي رعايته في مرضه‏..‏ فيمضي أيامه الأخيرة نادما على ظلمه لأمي وابتعاده عني وحرمانه لي من حنانه ورعايته وماله سنوات طويلة‏.‏


واستعدت كل ذلك في خاطري وأنا أقف أمام قبره‏..‏ فانهرت باكية وتمنيت لو كان قد عرف كل ذلك قبل فوات الأوان لكي يعوضني عن كل ما مضي‏..‏ ولكي أعيش تحت أقدامه كخادمة له في مرضه‏..‏ لكن إرادة الله قد نفذت وانتقل أبي إلى جوار ربه‏,‏ ودعوت الله أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأن يسكنه رياض جنته‏.‏
ورجعت إلى حياتي وعملي‏..‏ ومضت الأيام وتحسنت أحوالنا كثيرا بعد الحرمان والمعاناة‏..‏ وانتقلت أنا وأمي إلى مسكن جديد جميل‏..‏ وتقدمت في عملي وفي دراستي للدكتوراه حتى أصبحت الآن على أبواب مناقشة رسالتي الجامعية‏..‏ 




ولكاتبه هذه الرسالة أقول‏:‏

من يرحمه ربه‏..‏ فإنه يرفع الغشاوة عن عينيه ويرده إلى جادة الحق والعدل‏..‏ وفي العمر متسع لإصلاح الأخطاء ورد الحقوق واستبراء الذمة‏..‏ أما الحسرة الحقيقية فهي ألا يفيق المرء من غيه ويندم على ما كان من أمره إلا وهو يتسمع أنغام الرحيل ويتحسس حفيف ملاك الموت وهو يحوم حوله‏..‏ فيتمنى لو كان الله سبحانه وتعالى قد وهبه قطعة أخرى من الحياة على حد التعبير المؤلم الذي أطلقه الأديب الكولومبي العظيم جارسيا ماركيز في رسالته الوداعية عقب علمه بمرضه الخطير‏,‏ لكي يصحح الأخطاء ويتبرأ من كل الخطايا‏..‏ ويحقق العدل المهدر من حياته الشخصية‏..‏ ولأنها أمنية مستحيلة في أغلب الأحوال‏..‏ فإن الوقت لا يسعف صاحبه لكي يفعل شيئا من ذلك‏..‏ ويرحل عن الحياة مثقلا بالخوف من عقاب السماء وعذاب الضمير ولوم النفس‏.‏
والأجدى دائما هو أن يرعى الإنسان حدود ربه في رحلته مع الحياة‏..‏ وأن يتوقف كل حين ليراجع حياته وأعماله‏..‏ ويعترف بأخطائه ويعتذر عنها ويبادر بإصلاحها وفي العمر بقية لمثل ذلك‏..‏ وبذلك تكون له أكثر من حياة‏..‏ ويتعلم على الدوام من أخطائه في حيواته السابقة ويستفيد بدروسها ويحسن استثمار الفرصة المتاحة له من العمر‏,‏ ويزداد مع تكرار التوقف والمراجعة وتصفية الأخطاء أولا بأول خبرة بالتعامل السليم مع الحياة في تجربته الجديدة معها كل حين‏,‏ حتى ليكاد بهذه المراجعة يحقق الحلم الذي صاغه أحد الأدباء حين قال إنه ينبغي للإنسان أن يحيا حياته مرتين‏..‏ فيتعلم في المرة الأولى من التجربة والخطأ‏..‏ ويستفيد في الثانية بدروس تجربته الأولى في التعامل على نحو أفضل مع البشر والحياة‏.‏


وإني لأعجب يا آنستي لما يمثله والدك الراحل من نموذج غريب لبعض الآباء الذين يختارون لأنفسهم بإرادتهم ألا يكون لحياتهم أي معنى أو أثر إيجابي أو قيمة في حياة أبنائهم‏,‏ حتى إذا حانت لحظة رحيلهم لم يشعر الأبناء بأية خسارة حقيقية لغيابهم عن مسرح الحياة‏,‏ فإن كان ثمة حزن في مثل تلك المناسبة فهو على أنهم لم يكونوا آباء صالحين لهم‏,‏ وقد كان بمقدورهم أن يفعلوا ذلك‏..‏ وليس على أشخاصهم أو على فراقهم للأسف‏!‏
كما أعجب أيضا لمن يختارون لأنفسهم أن يكونوا كمن قال عنهم أمير الشعراء أحمد شوقي‏:‏
إنما الميت من مشي
ميت الخير والخبر
من إذا عاش لم يفد
وإذا مات لم يضر


فأي هوان يرتضيه المرء لنفسه حين يختار بإرادته أن يستوي وجوده على قيد الحياة مع غيابه عنها بالنسبة لأبنائه وأعزائه وأقرب الناس إليه‏,‏ فلا يفيدهم سعيه على ظهر الأرض‏..‏ ولا يضرهم استقراره تحت الثرى ‏..‏ وماذا يفيد الندم الحسير في اللحظات الأخيرة على ظلم ذوي القربى والتقصير في حقوقهم وإعناتهم‏..‏ بعد فوات الأوان‏..‏
إن رسالتك يا آنستي تحمل لنا الكثير والكثير من المعاني والدلالات وأجراس الإنذار لمن يكررون خطيئة محاسبة الأبناء على جنسهم الذي جاءوا به إلى الحياة‏,‏ وخطايا ظلم شركاء الحياة بلا ذنب جنوه‏,‏ وكبائر التخلي عن الأبناء الذين يحتاجون إلى عطف الآباء ورعايتهم وحمايتهم‏..‏ وجرائم مباعدتهم وحرمانهم من حقوقهم المشروعة على آبائهم‏..‏ فعسى أن يتفهم مغزاها بعض السادرين في غيهم قبل أن يفوت أوان إصلاح الأوضاع‏.‏
وعسى أن تعوضك السماء عن كل ما حرمت منه وأن يرعى الله سبحانه وتعالى خطواتك في الحياة ويقودك بإذن الله إلى النجاح والسعادة والأمان‏.‏

رابط رسالة النظرات الغريبة تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات