النظرات الغريبة .. رسالة من بريد الجمغة سنة 2003

النظرات الغريبة .. رسالة من بريد الجمغة سنة 2003 

النظرات الغريبة .. رسالة من بريد الجمغة سنة 2003

أثارت رسالة الأمنية المستحيلة شجوني فرأيت أن أشركك معي في مشكلتي لعلي أجد لديك ما يريح صدري ويساعدني على اتخاذ القرار الصحيح، فأنا طبيبة ابلغ من العمر 39 عاما .. يشغل أبي وأمي منصبين مرموقين في المجتمع‏,‏ ولي أخ أكبر وأخت تصغرني ‏..‏ وقد تمتعت بحياة مستقرة يرفرف عليها الحب في بيت أبي والتقيت وأنا في سنة الامتياز بطبيب كان وقتها مدرسا مساعدا‏,‏ وبالرغم من أنه قد تقدم إلي كثيرون من الزملاء فإنني وجدت قلبي يميل إلى هذا الطبيب بالذات ‏..‏ وارتبطت به وتم زواجنا‏..‏ وطلب مني زوجي تأجيل دراساتي العليا لأنه يريدني إلى جواره عند سفره لنيل الدكتوراه ‏..‏ فاستجبت له وسافرت معه وعشت معه أحلى سنوات عمري وكنت له كل شيء .. الزوجة والمساعدة والسكرتيرة وعملت أيضا لأساعده براتبي على ظروف الحياة في الغربة‏,‏ وأنجبت طفلة‏..‏ فبدأ مع ولادتها تغير زوجي بعض الشيء وأصبح يتسم بالحدة ويجرحني‏,‏ وعللت ذلك بضغوط الغربة وانشغاله بإنهاء رسالته‏..‏ وجاءت اللحظة الموعودة وحصل على الدكتوراه وعدنا إلى مصر وزوجي يعدني بأن يعوضني عن جفاف الحياة خلال مرحلة الدكتوراه‏,‏ وأن نعيش معا حياة رغدة نتمتع خلالها بجني ثمار الشقاء وانتظرت هذه الحياة الرغدة فلم تأت وإنما بدأ زوجي يشعر بتميزه علي بدرجة الدكتوراه التي نالها‏,‏ فدفعني ذلك لأن أبدأ دراساتي العليا وحصلت على الماجستير وبعدها على الفور رزقت بطفلة ثانية‏..‏ وفوجئت بعدم مبادرة أحد من أهل زوجي بزيارتي للتهنئة بالمولودة‏,‏ وبدلا من ذلك اتصلت بي أخته تنعي لي حظ شقيقها الذي لا يطيق إنجاب البنات‏..‏ وشكوتها لزوجي فانهال علي سبا وتقريعا واتهمني بمحاولة التفريق بينه وبين أهله‏.‏

 

ومضت الأيام وأنا أحاول بكل الطرق أن أرضي زوجي لأنني أحبه بالرغم من كل عيوبه‏ ..‏ وهو يزداد عصبية يوما بعد يوم‏..‏ إلى أن حملت للمرة الثالثة وقررت هذه المرة ألا أتعجل معرفة نوع الجنين‏..‏ وأن أترك ذلك إلى موعده الطبيعي‏,‏ ولأمر ما اعتقدنا أنه لابد أن يكون ولدا هذه المرة فكان زوجي يذوب معي رقة وعذوبة‏..‏ وعشت أجمل فترات حملي إلى أن جاء يوم الولادة فإذا بها طفلة ثالثة فعرفت على الفور أن طبول الحرب ستدق في حياتنا الزوجية‏..‏ وحدث ما توقعته‏..‏ وبدأ زوجي الذي أصبح شديد العصبية يفتعل المشاكل معي وأصبحت أبسط كلمة تصدر عني أو عن أحد من أهلي وأخوتي كافية لإثارة مشكلة كبرى ‏..‏ وامتنع زوجي عن زيارة أختي مهنئا حين أنجبت طفلا وبدأ يثير المشاكل مع أخي الأكبر ثم مع والدتي ثم مع أبي وأنا حائرة بين الجميع أحاول ترضيتهم والتقريب بين وجهات النظر والحفاظ على سفينة حياتي الزوجية طافية فوق الماء‏.


ومرض والدا زوجي فرعيتهما حق الرعاية حتى دعا لي والده دعاء صادقا قبل وفاته‏,‏ واعتقدت أن زوجي سيرى الجانب المضيء في حياته وهو أن له أسرة تتمنى رضاه‏..‏ لكنه لم يفعل وإنما حدث شيء أدركت معه أن شمس حياتنا معا تتجه إلى المغيب‏..‏ فلقد بدأ في الافتراء علي وراح يشكو مني للجميع شكاوى ليست صحيحة ويروي عني أحداثا ليست حقيقية ويتهمني بإساءة معاملته وكأنما يرتب لادعاء أسباب قوية للانفصال بعيدة عن السبب الحقيقي الذي لا يريد التصريح به لأنه يعرضه للانتقاد وهو إنجاب الولد‏.‏

وبعد أن فضحني زوجي في كل مكان سلمت أمري فيه لله واحتسبت حبي له عند الله .. ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى اتصلت بي سيدة تبلغني بأن زوجي قد تزوج صديقتها التي تعمل سكرتيرة بأحد المستشفيات‏..‏ فطلبت من زوجي الطلاق وقلت له إنه لن يطول الوقت حتى يدرك حجم النعمة التي كانت بين يديه وتبطر عليها‏..‏ وحصلت على الطلاق‏..‏ ولملمت شتات نفسي واحتضنت بناتي الثلاث وبدأت أواجه حياتي وأقداري‏..‏ وبعد عامين اتصلت أخت زوجي السابق على غير عادتها ببناتي وبشرتهن بأن زوجة أبيهن حامل في ولد وأنه قريبا سوف يصبح لهن أخ ذكر‏..‏ وطلبت منهن إبلاغي بالخبر السعيد كي أستعد له بإعداد المغات‏!‏ وأبلغتني بناتي بما قالت عمتهن فشعرت بغصة شديدة في حلقي لنغمة الشماتة البادية في حديثها‏..‏ ورفعت رأسي إلي السماء شاكية‏,‏ ولم يقتصر الأمر على ذلك وحده فلقد بدأ زوجي السابق حين يجيء لزيارة بناته يتحدث بلهجة المنتصر الذي أنصفه زمانه‏,‏ عن هذا الولد المنتظر وكيف ينبغي أن يجئن جميعا يوم الولادة لرؤية المولود السعيد إلخ‏.

 

 وتحملت ذلك أيضا صابرة وفي الموعد المحدد أرسل زوجي السابق من يحضر بناته لرؤية المولود عند ولادته وذهبن إليه‏..‏ وفي المساء اتصل بي شقيق زوجي يطلب مني التوجه للمستشفى لاصطحاب البنات إلى البيت‏..‏ وبالرغم من أنني كنت أستطيع أن أطالبه بإعادتهن بنفس الطريقة التي أخذهن والدهن بها فإنني ذهبت للمستشفى ‏..‏ فإذا بالجميع صامتون وينظرون لي نظرات غريبة‏..‏ فأخذت بناتي في صمت وانصرفت وركبنا سيارتي عائدين إلى البيت وفي الطريق سألتني ابنتي‏:‏ يعني أيه طفل مغولي يا ماما هل يعني ذلك أنه ليس مصريا‏!‏
فتوقفت بالسيارة على الفور‏..‏ وأدركت سر صمت أهل زوجي ونظراتهم الغريبة لي حين دخلت عليهم في ممر المستشفى ‏..‏ وبعد أن تمالكت نفسي عدت لقيادة السيارة إلى البيت وأنا أتعجب من تصاريف القدر‏,‏ هذا إذن هو المولود الذكر الذي باعنا وباع بناته من أجله‏!‏ وتوالت الأحداث بعد ذلك سريعة ومتلاحقة فلقد طلبت زوجة زوجي السابق منه أن يكتب كل ممتلكاته باسم مولودها لأنه أحوج من أخواته إلى المال وراحت تضغط عليه بشدة ليفعل ذلك وتتقدم إليه كل يوم بطلب جديد فلم يتحمل كل هذه الضغوط وارتفع ضغطه بشدة وأصيب بجلطة في المخ وغيبوبة‏..‏ ودعوت الله أن يفيق وأن ألتقي به لأعاتبه عما فعل بي ثم أسامحه‏..‏ فلم يتسع العمر لتحقيق هذه الأمنية ومات حبيب عمري وأول وآخر من نبض له قلبي قبل أن يحدث ذلك‏..‏ وتتابعت الأحداث فواصلت السكرتيرة الشابة إيجاد المشاكل وأعلنت أنها لا تريد رعاية هذا الطفل لظروفه الخاصة‏,‏ وراحت تعلل ظروف طفلها بكثرة تعرض والده للأشعة‏..‏ مع أن الله سبحانه وتعالى قد حمي بناته الثلاث من هذا الأثر‏..‏ كما راحت تتحدث أيضا عن أنه كان مريضا ولا يقوم بواجباته الزوجية كما ينبغي‏,‏ ولهذا فهي تريد أن تتزوج مرة أخرى ‏..‏ فتذكرت ما فعله سامحه الله حين أراد أن يمهد لزواجه منها من تشويه صورتي وإذاعة الافتراءات عني وازددت تعجبا‏.‏


والآن يا سيدي فإني أريد أن أستشيرك في أمر مهم‏,‏ فلقد تزوجت السكرتيرة الشابة مرة ثانية وأصبحت إقامة طفلها موزعة بين بيوت أعمامه‏,‏ وحين يجيء لقضاء يوم أو يومين لدينا أجده في حالة يرثى لها‏,‏ فأهتم به أنا وبناتي حتى تعلقت به البنات كثيرا وتعلق هو بنا بشدة وأصبح موعد مغادرته بيتنا يبكيه بشدة‏..‏ وبناتي يطلبن مني الآن أن يعيش معنا أخوهن على الدوام‏..‏ وأمي تقول لي أنه كنز يريد الله سبحانه وتعالى أن يفتحه في بيتي‏..‏ وتحذرني من رفض الهدية‏.‏ وأنا موزعة الفكر وحائرة‏,‏ فوجود الطفل يذكرني بغدر زوجي بي‏,‏ ولقد سامحته عن زواجه بغيري لكني لم أسامحه بعد على الطريقة التي اتبعها في التمهيد له بالافتراء علي وتشويه صورتي ولن أسامحه إلا حين ألقاه أمام رب العرش العظيم‏..‏ فبماذا تنصحني؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

يقول بعض أهل المعرفة إن الرغبة العارمة في الأشياء قد تبعدها عن المرء بدلا من أن تقربها منه‏,‏ وأن من واجب الإنسان أن يعتدل دائما في رغائبه وألا يغالي في التدبير لنيل ما يتطلع إليه لكيلا يجحد نعمة ربه عليه‏,‏ أو تغيب عنه الحقيقة الأزلية وهي أن من يتوكل على الله فهو حسبه أي كافيه وحاميه وراعيه وناصره ومحقق أمنياته ورغائبه‏,‏ وليس أحدا سواه‏,‏ فإن كان له من حظه ما يرضيه سعد به وشكر ربه عليه‏,‏ وإن كان له من أقداره ما يترك مجالا للتمني صبر عليه ورضي به وأمل في تعويض ربه له‏..‏ بلا مغالاة في السخط والتمرد ولا في التدبير لتحقيق ما يتطلع إليه‏,‏ ومتذكرا على الدوام قول الحق سبحانه وتعالى لنبيه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه "واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا" .. إذ كيف لا يصبر على حكم ربه وهو ليس حكم أحد آخر فيشق عليه احتماله‏,‏ وإنما هو كما يقول الإمام العارف ابن عطاء الله السكندري‏:‏ حكم سيدك القائم بإحسانه إليك ويقول أيضا‏:‏ إن من حسن التدبير أن يسقط المرء التدبير مع خالقه ويرضى بأحكامه‏!‏


ثم ما هذا الذي استدعى من زوجك الراحل كل هذا التدبير والسخط والتمرد على أقداره؟
هل إنجاب ثلاث زهرات جميلات‏..‏ يشعن حولهن الحب والعطف والحنان ابتلاء يبرر له خيانة العهد‏..‏ والارتباط بأخرى لكي ينجب منها الولد‏,‏ وهو الطبيب الذي يعرف أكثر من غيره أن نوع الجنين يحدده الأب بأكثر ما تفعل الأم‏,‏ ولو كان قد رضي عن حياته وعطايا السماء له لربما كان قد أنجبه من زوجته الأولى وأم بناته؟
ولأن القدر كما يقول لنا‏,‏ بن عطاء الله لا يجري حسب تدبيرك وإنما أكثر ما يكون ما لا تدبر وأقل ما يكون ما أنت له مدبر‏,‏ فقد شاءت إرادة السماء أن يكون الولد الذي تطلع إليه ودبر للفوز به هو مأساته‏..‏ والمعجل له بأقداره‏,‏ غفر الله له جحوده نعمة ربه وافتراءه على زوجته الأولى بالباطل لكي يبرر لنفسه وللآخرين ما أقدم عليه‏..‏ والآن يا سيدتي فلقد دارت دورة الأيام وأصبح السؤال الذي تواجهينه الآن هو‏:‏ هل تستجيبين لرغبة بناتك في احتضان هذا الطفل المعذب وإيوائه وتنشئته بين أخواته وفي رعايتهن ورعايتك‏..‏ أم هل تستجيبين لمشاعرك الجريحة وترفضين هذا الطفل البريء لأنه يذكرك بغدر أبيه بك‏..‏ وإساءته إليك وطعنته لقلبك الذي لم ينبض بالحب لغيره حتى الآن؟‏!‏

وجوابي على هذا السؤال المحير هو أن هذا الطفل المعذب هو مسئولية أمه قبل أي طرف آخر‏,‏ وهي التي قبلت بأبيه زوجا لها وهي تعلم أنه زوج لأخرى وأب لثلاث بنات صغيرات فإذا كانت قد تخلت عن مسئوليته خلال وقت قصير وتزوجت وانصرفت إلى حياتها الجديدة بلا تردد‏,‏ فإنه يصبح من بعدها مسئولية أعمامه وعماته الذين لم يبذلوا الجهد الكافي مع شقيقهم لكي يحفظ عليه زوجته الأولى وأسرته‏..‏ وربما يكونون قد أيدوه أو أيده بعضهم في موقفه منك بدليل موقف أخته الشامت منك عند حمل زوجته الجديدة وبشراها لبناتك بالاستعداد لاستقبال أخيهن الموعود‏.‏
وهذا هو الجانب المظلم من القصة‏..‏ أما إذا شئت أن تنظري إلى جانبها الآخر المضيء فلعلك ترينه في أن هذا الطفل المعذب بأقداره‏,‏ لم يجد بعد طول التدبير من أبيه الراحل وأعمامه وعماته ملاذا رحيما به وآمنا له إلا في كنفك وبين أحضانك وفي رعاية هؤلاء الزهرات الثلاث اللاتي تمرد أبوهن على أقداره معهن‏,‏ وتطلع إلى الولد بعيدا عنهن‏,‏ فكأنما يرد الله سبحانه وتعالى إليك اعتبارك به‏..‏ وباحتياجه إليك وإلى أخواته ويمحو كل ما افتراه عليك والده‏..‏ وهو إذن نصر من الله وفتح قريب‏,‏ وليس أي شيء آخر‏..‏ وتكريم من الله سبحانه وتعالى لك يشهد على سماحتك وأصالتك وكريم خلقك وحسن رعايتك لبناتك وتنشئتك لهن على الرحمة والعطف والقيم الدينية والأخلاقية‏,‏ بدليل عطفهن عليه وتحمسهن لضمه إلى أسرتكن وحرصهن علي الرفق به وصلة رحمه‏,‏ فإن اتسعت له رحمتك فلقد رحمت في النهاية أخا لبناتك لا يعلم إلا الله ما سوف يجزيك به عنه أنت وبناتك من خير وفضل عميم بإذن الله وعلى قدر الكرام تكون المكارم كما يقول لنا المتنبي‏.‏ وإن عجزت عن التجاوز عن مشاعرك الجريحة وما يذكرك به هذا الطفل المعذب من غدر أبيه وافترائه عليك‏..‏ فلا لوم عليك في الاعتذار عما تطالبك به بناتك وتشجعك عليه والدتك الفاضلة‏,‏ إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏..‏ في النهاية‏..‏ ففكري في أمرك وافعلي ما تمليه عليك قيمك الدينية والأخلاقية وتسمح لك به طبيعتك بلا قهر ولا إلزام‏..‏ والله فعال لما يريد‏.‏

رابط رسالة الأمنية المستحيلة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003


راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات