العودة إلى الجحيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

العودة إلى الجحيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

العودة إلى الجحيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

أنا سيدة أبلغ من العمر سبعة وثلاثين عاما أعمل بوظيفة مرموقة ومتزوجة من زوج يشغل وظيفة ممتازة ولي ثلاثة أطفال وأنا واحدة من خمسة أبناء ذكور وإناث, عشنا حياتنا بين أبوين لم يعرفا الوئام معظم سنوات حياتهما فكان الأب حاد الطباع لا يعرف العطف لكنه رغم ذلك لم يقصر في واجباته تجاهنا, وكانت الأم ضعيفة لا حول لها ولا قوة, فنشأنا في جو متوتر كريه وأصبح هم كل منا هو أن ينهي تعليمه ويعمل أو يتزوج لكي ينجو بجلده من هذا البيت الكئيب .. وكان أول الناجين منا هو شقيقنا الأكبر الذي تخرج وسافر للعمل بالخارج .. واستقرت أحواله المادية هناك فغمر أمي بالنقود والملابس والهدايا حتى أصبح لها مدخرات ومجوهرات من وراء أبي ثم توالى الناجون من الجحيم واحدا وراء الآخر فتزوجت البنات الثلاث واستقل الأبنان بحياتهما وبسبب جفاء طبع أبي وشراسته بدأت أمي تهجره لفترات طويلة وهو الرجل القوي الذي مازال يتمتع بصحته, فراح يشكوها لطوب الأرض, وهي لا تبالي بشكواه وتتحين الفرص لهجر البيت وتركه وحيدا فيه بلا رفيق ولا أنيس, فتارة تهجره للإقامة عند شقيقتي الصغرى شهورا بحجة ولادتها وحاجتها للرعاية وتارة تتركه شهورا أخرى للإقامة مع شقيقي الذي يعمل بالخارج بحجة رعاية أولاده وأنه صاحب فضل عليها وهكذا.

ويئسنا من الإصلاح فانشغل كل منا بأحواله وشئونه .. وفي خلال ذلك أحيل أبي إلى المعاش وثقلت عليه الوحدة .. وبدلا من أن تقدر أمي ظروفه النفسية في هذه المرحلة الحرجة من العمر قررت أن تهجر بيته نهائيا وتسافر إلى ابنها المقيم في الخارج .. وسافرت بالفعل وطالت إقامتها عنده وإزداد إحساس أبي بالوحدة وازدادت حدته وشراسته وساءت حالته النفسية حتى أنه كان يبكي كلما تحدثنا إليه.

 وحان أخيرا موعد عودة أمي من الخارج لكنها ماطلت في العودة وتعللت أكثر من مرة بأعذار واهية وضاق أبي بحاله فجمعنا نحن بناته الثلاث المتزوجات بعد سفر شقيقنا الآخر إلى دولة أوروبية وأبلغنا بأنه قد قرر الزواج وصارحنا بأنه إذا كان زواجه سيضر بموقفنا أمام أزواجنا فإنه سوف يتراجع عنه راضيا وصابرا لكنه يطالبنا بإخطار أمنا برغبته في الزواج, وحثها على العودة وعقدنا أكثر من مجلس للأعمام والأخوال .. واتصلنا بأمنا تليفونيا أكثر من مرة لإقناعها بالعودة .. وأعطاها خالنا مهلة أخيرة للعودة يصبح من حق أبي بعدها أن يفعل بحياته ما يشاء .. ورغم كل ذلك لم تعد أمي ولم يفلح أحد في إقناعها بالعودة.

 وإزاء هذا الموقف وافق الجميع على زواج أبي, ووقع اختياره على عروس له, ولأنني الابنة الوسطى التي تجمع اخواتها في كل شئ دائما فلقد استجبت لرجاء أبي وذهبت مع أختي الصغرى لرؤية العروس مرة ثم مع شقيقتي الكبرى مرة أخرى وتم زواج أبي .. فإذا بأمي التي ظلت ترفض توسلاتنا لها بالعودة شهورا طويلة تثور ثورة هائلة وتفتح علينا نيران الجحيم والغضب وتخصني دون إخوتي بغضبها ولعناتها .. للجريمة الكبرى التي ارتكبتها وهي أني قد ذهبت لرؤية العروس قبل الزواج, وأني أعامل أبي وزوجته بعد الزواج المعاملة الطيبة التي أمرنا بها الله, مع أنها لا تتجاوز السؤال عنه من حين إلى آخر بالتليفون.

 

وفي لحظة مشئومة أصبحت أنا في نظر أمي المسئولة عن زواج أبي .. وتراجع الجميع وانسحبوا من الساحة وتخلوا عني .. فأنكرت من زارت العروس أنها زارتها وأنكرت من وافقت أنها وافقت وقاطعت أمي خالي وعمي وكل إنسان جرؤ على أن يقول لها كلمة الحق وهي أنها هي التي دفعت أبي للزواج وليس أي إنسان آخر .. واتقاء لنيران الجحيم خافت أختي الصغرى وقاطعت أباها .. وأساء زوجها معاملته كأنما ارتكب جريمة الخيانة العظمى مع أن عشرة أبي لأمي كانت سلسلة متصلة من المشاجرات والخلافات والتعاسة والمآسي, وبعد فقد صنعت منه أمي بعد زواجه الكونت دي مونت كريستو وراحت ترفع يديها بالدعاء عليّ في كل حين .. وتتوعدني بأن ابنتي سوف تفعل بي ما فعلت بها وتكرر العبارات المثيرة للانقباض من أن الحياة ديون .. وأنني سوف أدفع ديني لها في يوم قريب .. ولم أعد أجتمع معها في مكان إلا وأسمع منها الكلمات الجارحة والوعد والوعيد بأني سأشرب من نفس الكأس إلخ .. وقد فرضت على إخوتي مقاطعة بيت أبي حتى أن شقيقي الأصغر حين عاد من السفر لم يستطع مقابلة أبيه إلا في بيتي, وكل مبررها في هذه الثورة العارمة "كما تقول" هو كرامتنا نحن كزوجات أمام أزواجنا وأصهارنا .. أي أنها غاضبة لنا وليس لنفسها, مع أن الجميع وافقوا على زواجه بلا استثناء أو لم يستطع أحد على الأقل أن يلومه فيما فعل بعد رفضها العودة.

 إنني أعيش مع زوجي حياة هادئة جميلة حاولت أن أعوض ما عانيته من تعاسة في بيت أسرتي وأركز كل حياتي لزوجي الطيب الحنون وأولادي, لكن أمي أحالت حياتي إلى جحيم .. وصنعت لديّ عقدة إحساس رهيب بالذنب تجاهها باتهامها لي بأنني قمت بتزويج أبي .. وكدرت أيامي بكلامها الجارح ووعيدها الدائم لي بأنني سوف ألقى من ابنتي نفس المصير .. مع أني لم أفعل شيئا والله العظيم سوى أني استجبت لرجاء أبي في الذهاب لرؤية العروس قبل الزواج .. وأريد منك أن تريح ضميري وترشدني للصواب .. هل أجرمت حقا جرما فظيعا في حق أمي بذهابي لرؤية عروس أبي ؟ وماذا أفعل لأتخلص من عذاب ضميري وعقدة الذنب التي صنعتها لي أمي ومن الصور البشعة التي تضعني فيها أمي الآن .. ومن غضبها ووعيدها ودعائها بالشر علي؟

إن أمي تعيش حياة كريمة في شقة تمليك بحي راق مجهزة بكل شئ ونحن نشملها جميعا بالحب على العكس من أبي الذي لا ينال منا إلا السؤال عنه بالتليفون من حين إلى آخر وهي لا يشغلها في الأمر كله سوى كرامتها الشخصية .. فماذا أفعل لكي أتخلص من هذه المشاكل التي فاجأتني على غير انتظار .. وأفسدت علي هدوء حياتي وراحة بالي ؟

 جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com


ولـكــاتــبة هـــذه الــرســـالــة أقـــول :

 

أنت في موقف عصيب حقا يا سيدتي, ولكني أريد أن أطمئنك في البداية إلى أنك لم ترتكبي إثما بزيارتك لعروس أبيك إستجابة لرجائه, لكنه كان من الأفضل أن يجنبك أبوك هذا الحرج الإنساني مع والدتك في البداية مراعاة لشعورها وحرصا على نقاء العلاقة بينك وبينها .. وأن يكتفي بأسرة شقيقه في أداء الواجبات الاجتماعية التي تطلبها زواجه .. ذلك أن أسوأ ما يفعله أحد الأبوين بأبنائه هو أن يمزقهم بين الاستجابة لحقه عليهم وبين إغضاب الطرف الآخر وجرح مشاعره واستثارة أوهام الجحود لديه .. أما أبشع ما يفعله بهم أحدهما فهو أن يضعهم بتسلطة ولا عقلانيته أمام الخيار الظالم بين إرضائه هو وإغضاب الله سبحانه وتعالى كما تفعل والدتك الآن بكل أسف, فلأبيك حق عليك في أن تصلي رحمه وتبري به كما تصلينها وتبرينها لكن أداءك لهذا الحق يغضب والدتك ويثير حنقها عليك .. وحين يتعارض إرضاء بشر أيا كان قدره مع إرضاء الله جل شأنه ومراعاة حدوده فلا خيار لأحد ولا اختيار .. وإنما عليه أن يرضى أولا من تعنو له السماء والأرض .. ويتحمل صابرا وممتثلا غضب من لا يرضيهم إرضاء الله في بعض الأحيان .. ويأمل أن يتفهموا موقفه ولو بعد حين فإن لم يفعلوا ولم ينصفوا فالله أحق بارضائه واتقاء غضبه من أي إنسان مهما علا قدره أو عظم حقه عليه.

 

 وزيارتك لعروس أبيك استجابة لرجائه لا شئ فيها في النهاية إلا ما توحى به للأم خطأ من "خيانة" لحقها عليكم ومعاملتك الطيبة له بعد الزوج أمر لا يجوز محاسبتك عليه .. بل إن العكس ما ينبغي محاسبتك عليه من المنصفين .. والحق أنه لو كانت شقيقتاك قد وجدتا  في نفسيهما الجرأة لمناقشة أمك في الأمر كله ودافعتا عن نفسيهما وعنك أنهما ما كانت تستطيعان رفض رجاء أبيكم لزيارتها حرصا منه وبرا به, وبأنه لا أحد مسئول عن زواجه حقا وصدقا سوى الأم نفسها .. لما انفردت أنت وحدك بهذا الغضب الظالم ولخف وقعه عليك .. ولراجعت الأم نفسها موقفها منك .. وأدركت أنه لم يدفعه إلى الزواج سواها بإصرارها على رفض العودة إليه .. إذ ماذا كانت تنتظر منه أن يفعل وهي ترفض الاستجابة بإصرار لنداء الجميع لها بالعودة .. هل كانت تطالبه بأن يترهب في محراب وحدته وعزلته إلى نهاية العمر .. أم أن يلجأ إلى العبث كالمنحرفين لإشباع احتياجاته الإنسانية والبيولوجية.

 

 إن الكارثة الحقيقية هي أن بعض الإخوة قد يلتزمون موقف الصمت الأناني إتقاء لغضب أحد الابوين فيسهمون بذلك في تعقيد المشاكل بدلا من الإسهام في حلها .. وكتمان الشهادة إذا ترتب عليه ظلم أحد, كفر وخيانة للأمانة والإنسان يستطيع أن يلتزم بكلمة الحق في حياته الخاصة بغير أن يتعارض ذلك مع حقوق أعزائه عليه أو واجباته تجاههم, بل إن ما يترتب على الالتزام بالحق المر في حياة الإنسان أهون كثيرا مما يترتب على النكوص عنه, ولقد كان الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري  يقول : "لقد عاهدني خليلي على أن أقول الحق مهما يكن مرا" .. ولسنا نطالب أفراد الأسرة بجرح مشاعر أحد الأبوين ومجابهته بخطأ موقفه بإستمرار إلتزاما بهذا الحق المر .. وإنما فقط بألا يرضى بظلم أحد أفرادها وهو قادر على إنصافه .. وبألا يسكت عن  الحق كالشيطان الأخرس وفي مقدوره أن يلفت نظر أحد الأبوين أو الإخوة إليه برفق واحترام.

ولهذا كله فإن على إخوتك جميعا واجب إنساني في الدفاع عنك لدى أمك وإلتماس العذر لك فيما فعلت, وطلب عفوها عما لم يكن لك حيلة فيه.

أما وعيد أمك لك بأن تشربي من نفس الكأس ودعواتها غير الصالحات عليك .. فالأبوان رغم حقهما المعلوم على أبنائهما لا يملكان إصدار قرارات الحرمان من رحمة الله على أحد الأبناء, لأن الأمر كله مرجعه إلى الله سبحانه وتعالى وهو الحكم العدل بين الجميع والمطلع على السرائر وهو يجزي كل إنسان بما كسبت يداه وليس بما يتصوره أحد فيه أو يتمناه له ولو كان أحد أبويه, والله سبحانه وتعالى لا يستجيب وحاشاه أن يفعل لدعاء مائل عن الحق أو عاد على الآخرين فإذا كنت تعرفين جيدا أنك لست المسئولة عن زواج أبيك فلا تخشي من هذا الوعيد شيئا .. ولكن لا تكفي من ناحية أخرى عن محاولة إقناع أمك ببراءتك من هذا الاتهمام .. ولا عن طلب عون إخوتك في ذلك .. ولا عن الاستمرار في محاولات ارضائها والصبر على جفائها وكلماتها الجارحة إلى أن تسحب الأيام ذيول العادة والتعود على الأمر كله مع الاستمرار في نفس الوقت فى أداء واجبك الإنساني تجاه أبيك حتى ولو اضطررت للتخفي به عن أمك ومع التحفظ في علاقتك بزوجته مراعاة لشعور أمك وأداء لحقها عليك .. ولابد أن يجئ يوم قريب تعترف فيه والدتك لنفسها على الأقل بأنه ما من مسئول عن زواج أبيكم سواها .. فتعفيك من هذه المسئولية الظالمة وتكف عن أذاها المعنوي لك وترحمك وترحمكم جميعا من العودة إلى جحيم التعاسة الخاصة التي تصورتم أنكم قد نجوتم منها بمغادرة بيت الأسرة الذي لم يعرف سواها .. وكل شئ يأتي في النهاية لمن صبر واحتمل واحتسب أذاه ممن لم يقدم له الأذى عند رب العالمين.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يونيو 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات