الرغبة القديمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003




الرغبة القديمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003 

الرغبة القديمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

 ليس من الحكمة أن ترهن الفتاة سعادتها الشخصية على تحقيق حلم شبيه بأحلام اليقظة دون غيره‏,‏ ذلك أن الحب في النهاية ليس أمرا إراديا أو قرارا يصدره المرء بكامل وعيه وإرادته‏..‏ وإنما هو تراكم بطئ للمشاعر‏,‏ يبدأ تلقائيا ويتفاعل ذاتيا في أعماق الإنسان .‏.‏ فإذا صادف أن وقع اختيار قلبها على طرف يكرر حلم اليقظة التي تتمناه فلا بأس بذلك‏,‏ أما أن ترفض كل فرص السعادة والزواج التي تعرض لها انتظارا لتحقيق هذا الحلم وحده‏,‏ فهذا ما لا أوافقها عليه‏.‏
عبد الوهاب مطاوع

قرأت رسالة النظرة الضيقة للشاب المحاسب الذي كلما تقدم لفتاة‏,‏ رفضه أهلها لأنه يستعمل الكرسي المتحرك .. وذكرتني رسالته هذه برسالة أخرى قرأتها في بريدك منذ عامين تقريبا‏,‏ وكانت لشاب ناجح يجيد أكثر من لغة وله العديد من المؤلفات والترجمات ولديه شقة وسيارة ويستعمل كرسيا متحركا‏,‏ وكان قد أرسلها أحد معارفه يخبرك فيها عن رأي هذا الشاب في الزواج وكيف أنه لم يتزوج لأنه لم يجد بعد من يحبها‏.‏
فأشفقت على مثل هذه النماذج الناجحة وصعوبة حصولهم على سعادتهم المشروعة على الرغم من تحديهم لظروفهم وإعاقتهم‏.‏

كما أشفقت على نفسي التي تيقظت بها رغبة قديمة كنت أحاول أن أخمدها نتيجة لما أمر به من ظروف‏..‏ فقررت أن أكتب لك عسى أن يجد هؤلاء وأمثالهم بعض المواساة في رسالتي‏,‏ ويعلموا أن هناك من الفتيات من لا يرضين بهم فقط‏..‏ بل ويسعدن بهم أيضا‏ ..‏ ولكن عليهم فقط الصبر وحسن الاختيار‏.‏

فأنا فتاة في السابعة والعشرين من العمر‏,‏ من أسرة متوسطة الحال‏,‏ كما أني متوسطة الجمال وقد أنهيت دراستي الجامعية وأمضي في دراستي العليا بنجاح والحمد لله‏ ..‏ وكنت منذ الصغر لا أعرف لي متعة إلا القراءة التي عشقتها فأصبحت عالمي الخاص‏,‏ ولا أدري السبب في تعلقي الشديد بكتابات طه حسين وتلك التي كتبت عنه والتي وجدت في نفسي صدى عميقا جعلني أطمح في زوج مثله أشاركه كل صغيرة وكبيرة ـ بدءا من الحذاء والجورب اللذين أخلعهما عند عودته وحتى مساعدته في دراسته وبحوثه ـ وشجع على ذلك رومانسيتي  الشديدة‏,‏ خاصة أنني قرأتها في مرحلة حرجة من العمر‏,‏ فأدى ذلك إلى أن تستقر تلك الفكرة في وجداني‏..‏ فوجدتني أتقدم في العمر وأنتقل إلى الجامعة وأنا أعرض تماما عن جميع الشباب من حولي ممن لا يعدون شيئا بجانب هذا النموذج في ذهني للأستاذ الجامعي الكفيف الذي لا يملك من في حضرته إلا أن يغض الطرف أمامه حياء وإجلالا‏.‏

ورحت أقرأ عن عالم المكفوفين وخصائصهم ومشاعرهم وانفعالاتهم وقصص نجاحاتهم في حياتهم والتي كان أغلبها ـ أو على الأصح‏,‏ تلك التي استوقفتني واسترعت انتباهي داخل الجامعة‏..‏ حيث الطالب أو الأستاذ الكفيف يرتبط بإحدى زميلاته أو تلميذاته ليكملا معا مسيرة النجاح في العلم والحياة‏.‏

وصدقني إنني كثيرا ما تمنيت مثل هذا الإنسان الذي أفخر به أبا لأبنائي وأستاذا وزميلا لقصة كفاح العمر والنجاح المشترك‏ ..‏ ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يناله‏..‏ فقصة الحب التي تمنيت أن أعيشها أصبحت ـ لعدم وجود البطل الأول فيها ـ مجرد حلم علي أن أتخلى عنه أمام رغبة أسرتي في زواجي وإلحاحهم علي للقبول بقريب لي تقدم يطلب يدي ولا ترى فيه أسرتي أي عيب يمكن أن أحتج به‏,‏ فهو في رأيهم أنسب من تقدموا لي من حيث تعليمه وقرابته لنا‏.‏

وليس لهذا القريب من مطلب سوى أن أصرف نظرا عن دراساتي وطموحاتي وآمالي ومستقبلي‏,‏ وهذا هو المستحيل بعينه بالنسبة لي‏.‏ وذلك بغض النظر عن شخصيته التي لم يستطع خلال زياراته لنا أن يقنعني بها والتي شبهتها بالماء الفاتر الذي لا يترك أثرا يذكر خاصة بالمقارنة مع تلك الشخصية القوية ذات الحضور والتأثير الطاغي التي رسمتها في مخيلتي وتعايشت معها‏.

 

‏ إنني أثق في رأيك‏,‏ لذا أريدك أن تخبرني هل تتزوج الفتاة لمجرد تحقيق رغبة أسرتها في الاطمئنان عليها؟ وهل هناك فرصة نجاح لارتباط بين من  لا تجمعهما أي ميول مشتركة؟ وهل الحب رفاهية ليس من حق البسطاء أن يطمحوا إليه؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

الحب حق مشروع للجميع بسطاء وعظماء‏,‏ ومن حقك أن تتزوجي ممن تشعرين بالميل العاطفي تجاهه‏..‏ أو بإمكان التفاهم والتقارب معه‏..‏ لكنه ليس من الحكمة أن ترهني سعادتك الشخصية على تحقيق حلم شبيه بأحلام اليقظة دون غيره‏,‏ ذلك أن الحب في النهاية ليس أمرا إراديا أو قرارا يصدره المرء بكامل وعيه وإرادته‏..‏ وإنما هو تراكم بطئ للمشاعر‏,‏ يبدأ تلقائيا ويتفاعل ذاتيا في أعماق الإنسان .‏.‏ فإذا صادف أن وقع اختيار قلبك على طرف يكرر حلم اليقظة التي تتحدثين عنه فلا بأس بذلك‏,‏ أما أن ترفضي كل فرص السعادة والزواج التي تعرض لك انتظارا لتحقيق هذا الحلم وحده‏,‏ فهذا ما لا أوافقك عليه‏.‏

إنك في النهاية تملكين حياتك فإذا كنت تستشعرين النفور من قريبك الذي ترشحه لك أسرتك الآن فإنك تستطيعين الاعتذار عن عدم قبوله بلا حرج‏..‏ وتستطيعين الانتظار إلى أن تضع الأقدار في طريقك من تستشعرين القبول العاطفي والنفسي له‏..‏ وتقارب الأفكار والمشارب معه‏..‏ سواء توافق مع المثال الذي تشيرين إليه أو لم يتوافق‏.‏
رابط رسالة النظرة الضيقة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات