الانتقام الإيجابي .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000
أكتب
لك هذه الرسالة تعليقا علي رسالة الانتقام الوهمي, للفتاة التي روت لك عن قسوة
أمها عليها, وكيف أرادت أن تنتقم منها.. فانطلقت تتعرف على الشبان.. وتنتقل
بينهم وفي ظنها أنها تفعل ذلك انتقاما من شدة أمها عليها إلى أن ثابت إلى رشدها
وأدركت كما قلت لها في ردك عليها أنها إنما كانت تنتقم من نفسها بهذا السلوك
الخاطئ وليس من أي أحد آخر.
أنا
سيدة في الثامنة والعشرين من عمري, وقد شاء لي القدر أن أفقد والدي الحبيب وأنا
في العاشرة من عمري, فقد مرض مرضا شديدا ولم يصمد إلا بضعة شهور, وقد كان طيب
القلب ويتدفق منه الحب والحنان علي أنا وشقيقتي الكبرى, فرحل عن الحياة وتركنا
مع والدتنا, وهي سيدة جافة وضعيفة تشعر بالحرج من التعبير عن حبها لأحد حتى
لابنتيها, وتثور لأتفه الأسباب, ولا تعطي نصيحة واحدة صائبة.
وبعد
وفاة والدي تزوجت شقيقتي في غضون عام واحد وتركتني مع أمي, وأنا في الحادية عشرة,
وبذلك خلا علي البيت من أكثر شخصين أحببتهما في حياتي, وبدأت أواجه الحياة معها
وأنا في سن أحتاج فيها إلى الحب والحنان والمشورة والرأي الراجح, فكانت دائمة
العصبية وصوتها عاليا وتبخل علي بأي نقود بالرغم من أن والدي ترك لنا الكثير, حتى
أنني أتذكر أنها لم تشتر لي قطعة ملابس واحدة جديدة خلال ثلاث سنوات ولا حتى زيا
مدرسيا بدلا من الزي القديم إلى أن جاءت لي زميلة في المدرسة تسألني: ألن
تبدلي هذا الزي القديم ؟؟, ثم بدأت مرحلة المراهقة الحرجة وبدأت شخصيتي تتغير
وأصاب بتقلبات المزاج الطبيعية التي تنتابنا في هذه السن, إلا أن أمي لم تتفهم
ذلك وكأنها لم تمر بنفس المرحلة, وراحت تضربني بالرغم من أني لم أسئ لها أبدا
بأي لفظ خارج أو أسلوب غير لائق في المعاملة, وأتذكر يوما ضربتني فيه ونزعت
سلسلة من حول رقبتي فسببت لي جرحا ظل أثره في عنقي لفترة طويلة, وعندما بلغت سن
الثامنة عشرة قبلت بأول رجل تقدم لي لأتخلص من حياتي معها, إلا أن التجربة باءت
بالفشل وكان من أسبابه بالطبع عدم نجاحها في إفهامي حال الدنيا وواجبات الزوج
وطباع الرجال والكثير والكثير من شئون الحياة, وعدت لقفصها مرة أخرى, ودخلت
الجامعة وبدأت مرة أخرى أعاني من الحياة معها ومن مرارة الطلاق التي كانت لم تزل
في حلقي, وعاد الضرب مرة أخرى.
وبالرغم
من ذلك فلقد كنت طوال دراستي وحتى تخرجت في الجامعة الأولى على دفعتي, وأتممت
دراستي بتفوق وعملت بوظيفة مرموقة.. ولم أفكر أبدا في حل مشكلتي معها بالاتجاه
إلى الرجال أو الانحراف, كما فعلت كاتبة الرسالة.
وبالرغم
من الإهانات الكثيرة التي عانيت منها فإنني لم أفقد عزة نفسي أبدا ولا كبريائي
الذي كان ومازال أهم ما أملك, فقد كنت أقرأ وأكتب وأسمع الموسيقى وأسمو بروحي ونفسي
عن كل ما يحدث لي, وبالرغم مما كانت تفعله بي فقد كنت دائما أشعر بغريزتي كم هي
ضعيفة في غضبها وكم أنا قوية وقادرة على التحمل.
ولم
أخطئ في حقها أبدا لأنني أخاف الله, وحتى بعد أن اكتشفت فيما بعد أنها قد استولت
على جميع الأموال التي تركها والدي لي ولشقيقتي وبددتها عندما كانت وصية علينا!
والآن
يا سيدي فإني أركز كل جهدي وتفكيري في عملي الذي أتاح لي أيضا فرصة السفر إلى بلاد
كثيرة حول العالم, فسافرت وتعلمت الاعتماد على نفسي, وأنا حاليا أحظى بإعجاب
كل من يتعامل معي في عملي من المصريين والأجانب وأحضر لرسالة
الماجستير وأنتظر اليوم الذي يأتيني فيه الرجل الذي أتمناه, لكن إلى أن يأتي هذا
اليوم فأنا أعيش مع أمي وأتعامل معها الآن بقوة هادئة تعلمتها من عملي, ولا يوجد
رجل في مصر يستطيع أن يقول إنه مس شعرة واحدة مني غير زوجي السابق, وهكذا فإن
انتقامي كان لنفسي وليس ضد نفسي وكان انتقاما إيجابيا وليس سلبيا, لأنه صدر عن
غيرتي على نفسي وتمثل في ارتقائي بمستواي من خلال الثقافة والعلم والعمل الجاد..
وبالرغم من أن هناك جراحا بداخلي لن تلتئم أبدا, فإنني أبذل كل ما يستطيعه أي
إنسان في ظروفي. والله يوفقني .. وشكرا..
لكاتبة هذه الرسالة أقول :
ولماذا تعتبرينه انتقاما من الأصل سواء أكان إيجابيا أو سلبيا؟ إنه فهم صحيح لحقائق الأمور وإدراك حكيم لأن الخروج عن الالتزام الخلقي لا يسئ لأحد بقدر ما يسئ إلى صاحبه قبل الآخرين كما أنه بكل تأكيد صبر على المكاره.. وتمسك بالأمل في غد أفضل يجييء دائما إلى من يعتصمون بالصبر والكفاح والقيم الأخلاقية, والمثل العليا في الحياة لقد جعلت من قسوة والدتك عليك قوة دافعة لك لإحراز التقدم في حياتك الدراسية والعملية.. ولم تستسلمي للظروف غير المواتية أو تتلمسي لنفسك فيها الأعذار لوهن الإرادة أو التعثر الدراسي, أو التحرر من الالتزام الخلقي.
ولاشك
في أن كل ذلك يرشحك للسعادة والنجاح في الحياة الشخصية والعملية على السواء
فانتظري جوائز السماء مكافأة لك على ترفقك بوالدتك وإحسانك لعشرتها بالرغم من
إساءتها إليك وقصورها الواضح في إدارة حياة أسرتها عقب رحيل والدك عن الدنيا,
مما أصابك أنت وشقيقتك بالضرر, وانتظريها كذلك مكافأة لك علي التزامك بالنهج
القويم في الحياة.. وتمسكك به إلي النهاية بإذن الله.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر