الذكريات الأليمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الذكريات الأليمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000 

الذكريات الأليمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000


إذا كان الصحيح هو أن من عاش طفولة طبيعية سعيدة وحظي بعطف الأبوين وحسن رعايتهما له‏,‏ يكون مرشحا غالبا لمواجهة الحياة بنفسية سليمة وقدرة أكبر علي التواصل الصحيح مع الآخرين‏,‏ ويميل في أغلب الأحيان لأن يكرر تجربة أبويه اللذين رحماه صغيرا مع أبنائه،‏ فإنه ليس من المستغرب كذلك أن يصهر الألم من حرمته أقداره من مثل هذه النشأة السليمة فيرحم صغاره ويشفق عليهم من تكرار تجربته المؤلمة‏..‏ ويحرص علي أن يعوض نفسه فيهم عما حرم منه من سعادة واستقرار وأمان‏.‏

عبد الوهاب مطاوع


قرأت رسالة الانتقام الوهمي للفتاة التي روت عن قسوة أمها وكيف تفيق ذهنها المشوش عن رغبتها في الانتقام من الأم بسوء سلوكها مع الشبان خارج نطاق الأسرة وكيف كانت تشعر بالتشفي في أمها حين تخطيء كأنما تنتقم من سوء معاملتها وجفائها لها‏..‏ وقرأت رسالة الانتقام الإيجابي للقارئة التي روت أنها عانت من ظروف مماثلة‏،‏ فكان رد فعلها لقسوة الأم عليها هو التفوق والالتزام الخلقي وتحرر الإرادة دون خروج على الأعراف والتقاليد‏..‏ ولقد أثارت الرسالتان تأملاتي واستدعتا ذكرياتي الأليمة‏..‏ فلقد نشأت في أسرة محدودة الموارد بين عدد من الشقيقات والأشقاء‏..‏ وكنت الابنة الوسطى وأقل البنات جمالا وأكثرهن هدوءا‏..‏ فمن بعدي كانت الابنة الصغرى الجميلة المدللة التي أتلقى نيابة عنها السب والضرب والتعنيف إذا أخطأت هي بدعوى أنني كان ينبغي لي أن أحميها وأمنعها من الخطأ‏..‏ ومن قبلي كانت الأخت الكبرى التي ينبغي لي احترامها‏..‏ والتي يتفادى الأب الاحتكاك بها أحيانا وإن لم تنج بالرغم من ذلك من قسوته‏,‏ ولأمر ما لم يستوعبه عقلي الصغير وقتها كان علي وحدي أن احترم الجميع وأن أخشاهم وأهرول لتلبية طلباتهم‏..‏ فإن تقاعست عن ذلك أو أخطأت كان عقابي الحبس في الحمام أو الضرب بالخرطوم أو تكتيف الأيدي والأرجل وضربي ضربا مبرحا‏.

 

ولم يكن نصيب أخوتي من قسوة أبي علينا قليلا‏,‏ لكني كنت دائما صاحبة القدر الأكبر منها‏..‏ فلقد حطم فينا أبي سامحه الله كل معاني الكرامة الإنسانية وجعل منظرنا حين نذهب إلى مدارسنا مثيرا لدهشة من يرانا‏..‏ فالعيون تحيطها الهالات السوداء والوجوه متورمة وبها آثار للجروح‏..‏ والأذرع بها كدمات‏.‏
وفي كل يوم يختار أبي أحدنا ليكون ضحيته التي يحطم عليها أثاث البيت ويشعر بالانتصار حين يتناثر دمها ويضع قدمه على عنقها وهي ملقاة على الأرض في شبه إغماء‏..‏ كأنما يقول لنا أنا ربكم الأعلى‏,‏ حتى صرنا نخاف يده ونظرة عينيه ووقع قدميه على الأرض‏,‏ أما أمي فكانت تقف مما يصيب أبناءها على يدي أبيهم موقف المتفرج‏,‏ وبعد كل علقة ساخنة ينالها أحدنا تدخل عليه الغرفة تقول له في شماتة لم أستطع حتى الآن أن أفهم دواعيها‏:‏ هل ارتحت الآن ؟‏,‏ وعدا ذلك فلقد كانت ترفض غسل ملابسي أو مساعدتي وأنا طفلة في تمشيط شعري وتكره أن تراني نائمة مستريحة فتفتعل لي عملا أؤديه ويرهقني وتمزق لي كتبي الدينية التي كنت أشتريها من مصروفي‏,‏ وتمنعني من الخروج من البيت إلى أي مكان ولو إلى الطبيب لأن هناك دائما عملا ينبغي لي أن أقوم به دونها ودون أخوتي‏,‏ كما كانت تسافر مع أخوتي وتتركني وحدي مع شقيق لي لديه امتحان لأخدمه‏,‏ أو مع أبي المرتبط بعمله لكي أرعاه وأتعرض لأكبر قدر من أذاه وعقابه‏.‏
ولم يكن أبي وأمي جاهلين بالرغم من هذه القسوة الشديدة منهما علينا بل كانا متعلمين‏,‏ ولقد شغل أبي عدة مناصب قبل أن يترك الوظائف ويصبح تاجرا‏.‏


ومضت بنا الأعوام وانطويت على نفسي‏..‏ وركزت كل جهدي وتفكيري في دراستي‏..‏ تقدمت فيها بالرغم من قسوة الظروف المحيطة بي من كل جانب‏..‏ وحصلت على شهادتي الجامعية بتفوق‏..‏ وارتديت الحجاب على غير إرادة أمي التي أشبعتني سخرية ولوما لذلك‏..‏ وحصلت على شهادة في الكمبيوتر‏..‏ وكبر الإخوة‏..‏ وتمردوا على الأب القاسي‏..‏ والأم الجافة وبعد أن  كان الإخوة يرتجفون رعبا من أبي ولا يجسرون على معارضة أمي في شيء خوفا من أن تشكوهم للأب‏..‏ أصبحت هذه الأخت تكيل السباب لأمي إذا أغضبتها فتتجنبها الأم خوفا من سلاطة لسانها وتتكتم سوء أدبها معها عن أبي حتى لا تزداد الابنة تمردا‏..‏ وأصبحت تلك الأخت شديدة العصبية تثور وتحطم الأشياء وتتولاها نوبات من الهياج الهستيري حتى ليأتي الجيران على صوت صياحها‏.‏

 

وأصبح هذا الأخ يهرب من البيت ويشوه صورة أبيه في أعين الآخرين وذلك بتمرده على إرادة الأب والأم ويصر على الزواج من فتاة يرفض الأبوان اقترانه بها لعدم ملاءمتها له من الناحية العائلية والاجتماعية‏..‏ وذاك يرهق أباه بمطالبه المادية لكي ينفق على ملذاته وأصدقاء السوء إلخ‏.‏
وهكذا ثار الجميع على الأبوين حتى أصيب بالسكر وأصيبت أمي بالضغط ومضت السنون وتزوج الأبناء جميعا ماعداي وانصرفوا إلى حياتهم الخاصة بعد أن مارسوا مع الأب كل وسائل الابتزاز والإجبار لينفق على زواجهم كما أرادوا‏.‏
وبقيت مع أبي وأمي عدة سنوات أخدمهما‏..‏ ولا حديث لهما إلا عن جحود الأبناء وتنكرهم وسوء طويتهم ونسيا خلال ذلك أنني أحتاج إلى ملابس ومطالب أساسية لا يوفرانها لي حتى أصبح مظهري كالشغالة‏..‏ ولا لشيء إلا لأنني لم أتمرد عليهما ولم أقف في وجهيهما صارخة ومهددة كما فعل كل إخوتي إلى أن جاء الفرج من السماء التي طالما ابتهلت لها‏,‏ والتقيت بإنسان على خلق ودين أحبني بصدق وأحببته بإخلاص‏,‏ ولم أتوقف أمام رزقه القليل وإمكاناته المحدودة‏..‏ وإنما قررت أن أعمل معه يدا بيد وأن أساعده على بناء حياتنا المشتركة‏.‏
ولا يتسع المجال هنا لكي أروي لك ما لقيت من أمي وأبي قبل أن يقبلا كارهين بزواجي منه‏..‏ ولكن يكفي أن أقول لك أن أمي قد قالت لي يوم الخطبة أنها لم توافق عليه إلا لأنه لن يأتيني من هو أفضل منه‏!‏
وأن يوم شراء أثاث عش الزوجية كان يوما حزينا اعتصرت قلبي  فيه الحسرة لأنها اشترت لي من الأثاث ما قل وذل بالرغم من قدرة أبي المالية على شراء ما هو أفضل منه‏..‏ وحتى شعرت بالحرج من زوجي‏..‏ وطأطأت رأسي خجلا ونحن نضع الأثاث في المسكن‏.

 



ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

من النظرة السليمة أن يحاول المرء دائما أن يجنب أعزاءه ما عانى منه من آلام وأحزان تجرع كؤوسها في حياته الشخصية وخبر مرارة قسوتها من قبل‏.‏
فإذا كان الصحيح هو أن من عاش طفولة طبيعية سعيدة وحظي بعطف الأبوين وحسن رعايتهما له‏,‏ يكون مرشحا غالبا لمواجهة الحياة بنفسية سليمة وقدرة أكبر على التواصل الصحيح مع  الآخرين‏,‏ ويميل في أغلب الأحيان لأن يكرر تجربة أبويه اللذين رحماه صغيرا مع أبنائه‏,‏ فإنه ليس من المستغرب كذلك أن يصهر الألم من حرمته أقداره من مثل هذه النشأة السليمة فيرحم صغاره ويشفق عليهم من تكرار تجربته المؤلمة‏..‏ ويحرص على أن يعوض نفسه فيهم عما حرم منه من سعادة واستقرار وأمان‏.‏


غير أن ذلك لا ينفي له أن يصرفنا عن التحذير دائما من أضرار القسوة العقلية والبدنية على الأبناء في طفولتهم وصباهم‏,‏ لأن العائد الأكبر لهما هو تشويه القيم والمعايير لدى الأبناء‏..‏ واختلال الشخصية والترشيح للعجز عن التواصل السليم مع الحياة‏,‏ ويكفي لتأكيد ذلك أن من يكابد مثل القسوة المفرطة في طفولته وصباه‏..‏ قد يظل طوال العمر يعاني من بصماتها غير المرئية على نفسيته وشخصيته ونظرته للحياة والآخرين‏,‏ وقد يرشحه ذلك إذا تضافرت معه عوامل أخري للانحراف النفسي والخلقي‏..‏ فإن نجا من هذه المضاعفات بقيت له الذكريات الأليمة تطارده من حين لآخر وتجدد أحزانه إذا تلقت مثيرات جديدة تستدعيها من غياهب النسيان‏,‏ كما يكون الحال معك يا سيدتي حين تقرئين عن تجربة ابن أو ابنة مع قسوة أحد الأبوين‏.‏


و الحق هو أن خير ما يقدمه الآباء والأمهات لأبنائهم هو طفولة سعيدة وتربية رشيدة تستهدي بالقيم الدينية والأخلاقية في تنشئتهم وترشيحهم لأن يكونوا بشرا أسوياء في المستقبل‏.‏
وهذه الطفولة السعيدة الآمنة والتربية الرشيدة ليستا هبة يتفضل بها الآباء والأمهات علي الأبناء‏,‏ وإنما هي واجب ديني وأخلاقي عليهم تجاههم ماداموا قد جاءوا بهم إلي الحياة من عالم الغيب والشهادة‏.‏
والمؤسف حقا هو ألا يستوعب بعض الآباء والأمهات جسامة هذه المسئولية غافلين عن أن الأبناء هم ودائع ثمينة استودعهم الله سبحانه وتعالي إياها ولسوف يسألون أمامه هل حفظوها أم ضيعوها‏..‏ ففي الحديث الشريف الذي رواه الإمامان أن الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته و المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها‏.‏
وفي الحديث الشريف الذي رواه ابن حبان أن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتي يسأل الرجل عن أهل بيته‏.‏
ولقد روي الرواة أن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه قد شهد احتضار حفيد له من فاطمة رضي الله عنها ففاضت عيناه بالدمع‏,‏ وتعجب لذلك سعد بن عبادة وقال له‏:‏ ما هذا يا رسول الله؟‏!.‏
فأجابه‏:‏ هذه رحمة جعلها الله في قلوب من يشاء من عباده‏,‏ وإنما يرحم الله من عباده الرحماء‏.‏


فكيف يحق إذن لأب ألا يتعامل مع بناته الضعيفات وأبنائه الصغار سوي بالضرب والجرم والإذلال ووطء الأعناق وإسالة دمائهم حتى لتلطخ ثيابهم ويمضون إلى مدارسهم ووجوههم متورمة ودامية ؟ وماذا ينتظر مثل هذا الأب المفرط في قسوته علي أبنائه قسوة تكاد تكون سادية ومرضية من هؤلاء الأبناء حين يشبون عن الطوق ويتحررون من أسر الخوف ؟
لقد قال لنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم وليس من إكرام الأبناء القسوة المفرطة عليهم ولا التلذذ برؤية دمائهم تسيل على أجسامهم‏.‏
وهذه القصة تؤكد لنا ما نؤمن به دائما من أدب المقهور من قاهره ليس أدبا حقيقيا وإنما هو تقيه لاتقاء أذاه وكظم للغيط والمشاعر السلبية إلي أن تجيء اللحظة الملائمة للانفجار وشق عصا الطاعة‏.‏
كما أن رسالتك هذه يا سيدتي تلفت أنظارنا إلى مشكلة أخرى حقيقية من المشاكل الأسرية التي لا تحظى بكثير من الفهم والدراسة‏,‏ وهي مشكلة الابن الأوسط بين عدد من الأبناء‏.‏ ووجوب فهم نفسيته وتفادي أخطاء التعامل معه التي تورثه غالبًا الشعور بالنقص وقلة نصيبه من رعاية الأبوين واهتمامهم‏,‏ فهذا الابن يشعر في كثير من الأحيان بأنه الابن المهمل من بين أبناء الأسرة لأنه لا يحظي بالتدليل الذي يناله الأبن الأصغر بحكم سنه ولا بالاحترام الذي يفوز به الابن الأكبر بحكم وضعه في الأسرة‏.‏ فيصبح من جراء ذلك أكثر حساسية من أخوته وأكثر شعورا بالنبذ وعدم الاعتبار‏..وأكثر شكوى من قلة نصيبه من الرعاية والاهتمام‏,‏ والعدل كل العدل هو أن يشعر الأبناء جميعا بحظوتهم المتساوية لدي آبائهم وأمهاتهم أيا كان ترتيبهم في الأسرة‏.‏
وفي النهاية فإني أقول لك يا سيدتي ‏:‏ إنه كما تكون ذكرياتنا السعيدة زادا لنا نستمد منه العون علي الصمود أمام آلام الحياة حين تجيء‏..‏ فإن ذكرياتنا المريرة قد تكون كذلك دافعا لنا لأن نحرص على السعادة المتاحة لنا‏..‏ وحمايتها من الانهيار ما جعل من ذكرياتنا المؤلمة دافعا إيجابيا لك للاستمساك بسعادتك الحالية والحرص عليها ودافعا أكثر نبلا وإنسانيا للحرص علي الرفق بطفلك وحسن رعايته وتجنيبه كل ما عانيت منه وخبرت مرارته من قبل‏.‏

رابط رسالة الانتقام الوهمي

رابط رسالة الانتقام الإيجابي


·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات