الانتقام الوهمي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

 الانتقام الوهمي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

الانتقام الوهمي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

أنا سيدة في العقد الثالث من عمري‏،‏ متزوجة منذ عدة سنوات من شاب طيب متدين من أسرة طيبة‏، ولست أكتب لك اليوم لأشكو من مشكلة أعاني منها الآن وإنما لأحدثك عن مشكلة كنت أعاني منها في الماضي‏,‏ وأرجو أن تفيد رسالتي هذه غيري ممن يقرأوها حتى لا يقعوا فيما وقعت فيه من أخطاء جسيمة‏.‏

فلقد نشأت في أسرة صغيرة متوسطة الدخل مكونة من الأب والأم وبنات أنا أكبرهن‏,‏ واني أعترف بأن أمي قد كافحت كثيرا إلى جوار أبي لكي نحصل على أفضل تعليم وأحسن مستوى معيشة ممكن‏.‏

 أما المشكلة التي كنت أعاني منها فكانت في الأسلوب التي اتبعته أمنا في تربيتنا نحن البنات .‏.‏ فقد اتسم دائماً بالصرامة والحدة والأوامر القاطعة‏,‏ وأظن أن ذلك كان لأنها لم يكن لديها متسع من الوقت لتدليلنا أو لسماع رأينا في أي موضوع‏,‏ حتى ولو كان يخصنا إذ كانت تعتبر أي محاولة منا للمناقشة مجرد ثرثرة لا جدوى منها‏,‏ لأننا في النهاية سننفذ أمرها فلا داعي إذن لوجع الدماغ وقد كنت أحس دائما بالكبت والرغبة في التمرد على هذا الوضع مع شعوري الشديد بضعف شخصيتي وهواني فكنت ألجأ في سن مبكرة جدا لكتابة خواطري المليئة بالغل والكراهية لهذه السيدة التي تظن أنها سلبتني إرادتي ولا تقيم أي وزن لمشاعري واحتياجي للعطف والحنان‏ ..‏ فما أن بدأت أخطو سنوات المراهقة الأولى حتى ازدادت رغبتي في أن أثبت لنفسي أنني قادرة على الخروج من أسر سيطرتها المحكمة هذه وعلى إشباع احتياجاتي العاطفية‏ ..‏ وما أن التقيت بأول شاب حتى بدأت أخرج معه واستمتع بكلامه لي وأشعر معه أنني إنسان له كيان وأني أحظى بحب واهتمام شخص ما‏,‏ ولم يكن هذا الشاب بالطبع يحبني ولم يتعد هو أيضا الشعور بالاستمتاع بالخروج مع فتاة متعطشة للعواطف والحنان‏,‏ وقد ملني وتركني بعد فترة أو تركته أنا‏,‏ لا أذكر‏,‏ ثم تكررت علاقاتي بعد ذلك بنفس الطريقة‏,‏ وكنت أتلذذ بالشعور بأن أمي لا تدري شيئا عن هذه العلاقات‏,‏ وما أن اقتربت من سن العشرين حتى بدأت أشعر بالذنب وأحاول أن استميلها إلي لأستدر عطفها وحنانها‏,‏ وأن أشعرها أني قد كبرت وأني من الممكن أن تكون لي رغبات وحياة أخرى لا تعلمها‏.

 

‏ إلا أنني لم أجد سوى السخرية مني ومازلت أذكر حتى الآن ردها علي بأن تصرفاتي ليست نابعة من إرادتي وإنما من تربيتها لي التي كونت شخصيتي وإني لا أملك سوى أن أكون ما أرادتني هي أن أكونه‏.‏ مما أثار تمردي مرة أخرى وبصورة أشد فتورطت في علاقات مع زملائي في الجامعة وساعدني على ذلك أنني أتمتع بقدر كبير من الجمال‏,‏ ولولا أن الله قد أراد لي الهداية فيما بعد لكنت قد فقدت أعز ما تملك الفتاة واستسلمت للضياع .‏.‏ لكن ضميري استيقظ في النهاية والحمد لله وبدأت أشعر أني أمتهن نفسي وأنتقم منها وليس من أمي‏,‏ فبدأ فكري يتجه اتجاها دينيا وأدركت أن الزواج هو الذي سينقذني من هذا السقوط‏,‏ فوافقت على أول رجل تقدم لي وتوسمت فيه أنه شخص نبيل‏,‏ وعلى خلق ودين‏,‏ وتزوجته وعاهدت الله أن أحافظ على زوجي وأحرص عليه وأن أبعد عن كل ما يمكن أن يؤذيه أو يؤذي مشاعره‏,‏ وكان فضل الله علي كبيرا إذ أحببت زوجي حبا شديدا وحظيت بحبه وحنانه‏,‏ مما عوضني عن سنوات الحرمان التي قضيتها في بيت أبي‏.‏

 


وإني أكتب لك هذه الرسالة لأني أعلم أن أمي ليست نموذجا منفردا في مجتمعنا وإنما هناك أمهات لم يتعلمن كيف يبذلن من وقتهن ومشاعرهن وعطفهن لأبنائهن ما يبذلن مثله للعمل داخل المنزل وخارجه‏,‏ وأرجو من كل فتاة أن تحافظ على سلوكها وألا تجعل أي سبب يدفعها للقيام بأي تصرف قد تندم عليه فيما بعد أشد الندم لأن كل تصرف تقوم به دون علم أهلها يعتبر خيانة للأمانة سيحاسبها الله عليها‏.‏ كما أكتب لك هذه الرسالة لأني بدأت ألاحظ على أختي الصغيرة نفس المشاعر التي كنت أشعر بها وأنا في مثل سنها‏,‏ وأمي بالطبع مازالت تتعامل معها بنفس الأسلوب القديم‏.‏ والأمر الذي يثير الأسى والسخرية في نفس الوقت هو أن أمي تذكر دائما لكل من يشكو لها من صعوبة تربية الأولاد‏,‏ أننا لم نكن أبدا مصدر تعب أو قلق لها على مدى فترة تربيتنا‏ !‏ فربما تكون رسالتي هذه جرس تنبيه لأمي التي لا أستطيع مواجهتها بالحقيقة حتى الآن ليس لأني أخاف منها حيث لم يعد لها سلطان علي بالطبع‏,‏ ولكن لأني أخاف أن أصدمها بما قد لا تتحمله من حقائق قاسية فالحق أنني مازلت على ثقة بالرغم من جفافها معي من أنها لم تكن تقصد أي إساءة لي أو لأخواتي ولهذا فهي لا تستحق مني أن أؤذي مشاعرها

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:

رسالتك يا سيدتي تكشف لنا عن حقائق مفزعة عما يمكن أن تؤدي إليه العلاقة غير السوية بين الأم وابنتها إذا افتقدت الدفء العاطفي والصداقة الراشدة والمساحة الطبيعية للتفاهم والحوار بينهما‏.‏
وبالرغم من ذلك فاني لم أشعر بالارتياح لتبرير إقدامك على خوض تجربة العبث والاندفاع خلال فترة معينة من حياتك‏,‏ بأنك إنما قد فعلت ذلك كرد فعل طبيعي لجفاء العلاقة بينك وبين والدتك‏,‏ أو بزعم الانتقام المعنوي من تسلطها عليك‏..‏ أو بحجة إشباع رغبتك في الإحساس بالجدارة واجتذاب اهتمام الآخرين وحبهم‏.‏ فكل هذه المبررات وبالرغم من واقعية بعضها لا تبرر أبدا الاقتراب من دائرة الخطر والتحرر من القيود الأخلاقية‏,‏ حتى ولو ساعدتنا على فهم بعض الدوافع‏,‏ فإذا كان أسلوب والدتك في التربية الجافة القائمة على السيطرة الكاملة على حياة الأبناء وقهر  إرادتهم وإملاء الرغبات عليهم دون إقناع ولا حوار‏,‏ أسلوبا خاطئا وهو كذلك بكل تأكيد‏,‏ فإن الاحتجاج عليه لا يكون بالعبث والاندفاع إلى الطريق الخاطئ‏,‏ لأن الخطأ لا يبرر الخطأ‏..‏ولأنه شتان بين خطأ أم اعتمدت أسلوبا جافا في التربية يعتمد على القهر ويفتقد إلى الدفء والصداقة بينها وبين بناتها‏,‏ وبين خطأ ابنه انتقمت منها في نفسها حتى أوشكت أن تمضي في طريق الغواية حتى نهايته المظلمة لولا أن رحمها ربها واستيقظ ضميرها وهي على شفا حفرة من الضياع‏.‏


فأسلوب والدتك في النهاية وبالرغم من إدانتي له واختلافي معه هو اجتهاد خاطيء في التربية قد يشفع لها فيه‏,‏ أو يخفف من بعض وزره حسن النية وسلامة المقصد بدليل أنك أنت نفسك قد أدركت ذلك بعد فوات الأوان وأشفقت عليها من إيلام مشاعرها أما احتجاجك على هذا الأسلوب بما فعلت بنفسك خلال فترة جاهليتك الأولي‏..‏ فلا شفاعة فيه ولا أعذار اللهم إلا صغر السن وقلة الخبرة وسوء الفهم‏..‏ وضعف الوازع الديني وبعض هذه الأعذار أقبح من الذنب نفسه كضعف القيم الدينية‏..‏ وسوء فهم مقصد الأم من أسلوبها الخاطيء في التربية‏.‏
لكن لأنه لا يلام المرء على أمر قد رجع عنه وندم عليه فلن أطيل الحديث كثيرا في هذه الناحية‏..‏ وإنما سأقول لك فقط انك وقد خضت تجربة الخطأ ودفعت ثمنها غاليا من وخز الضمير‏,‏ مطالبة الآن بحماية شقيقتك الصغرى من ملامسة مياه هذه البحيرة السامة‏,‏ قبل أن تجرفها تخوض فيها وتجرفها تياراتها‏,‏ ومن حقها عليك الآن أن تجنيبها نفس المحنة ونفس الضياع وان ترشديها إلى ما فيه صلاح أمرها‏..‏ والأفضل هو ان توجهي بعض اهتمامك لها وان تنبهي والدتك الي ضرورة تصحيح نمط علاقتها بها وتوجيه الوقت الكافي لاكتساب صداقتها‏..‏ واشباع احتياجاتها من العاطفة والحنان والاحساس بالجدارة لكيلا تطلب كل ذلك من الطريق الآخر فالحق إنني توقفت متأملا أمام عبارة خطيرة في رسالتك تقولين فيها ان والدتك ليست نموذجا منفردا بين الأمهات‏,‏ وان منهن من لا يوجهن للعلاقة الإنسانية بينهن وبين بناتهن بعض ما يوجهنه من وقت لأعمال البيت أولعملهن خارجه‏,‏ وليس أدل على الخلل الجسيم في ترتيب الأولويات الجديرة باهتمام الآباء والأمهات من مثل هذا الخلل‏..‏ فالأبناء ينبغي لهم أن يكونوا فوق قمة هرم اهتمامات الآباء والأمهات ومن بعدهم تأتي أعمال البيت وعمل الأمهات في الخارج وكل شيء آخر في الحياة‏.‏


فلتكن إذن رسالتك هذه كما تقولين جرس الخطر لبعض من تشغلهن شئون الحياة المادية من بعث الدفء في علاقتهن ببناتهن وأبنائهن ولتكن كذلك تنبيها صارخا إلى حاجة الأبناء وخاصة البنات منهم إلى صداقة الأمهات والآباء واهتمامهم‏..‏ ووقتهم لكيلا يضلوا الطريق ويلتمسوا كل ذلك من المورد الخاطيء‏!

رابط رسالة الانتقام الإيجابي تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة الذكريات الأليمة تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات