رنين الذكريات .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

رنين الذكريات .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987 

رنين الذكريات .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

الزمن كفيل بمداواة الجراح .. فمن نعم الله أنه أنعم علينا بالنسيان ، نداوى به جراحنا .. ونستعين به على شدائدنا ولولاه لتوقفت الحياة وتسمر كل إنسان عند أحزانه وآلامه ومشاكله وخلافاته وصراعاته والسهام التى أصابته من الآخرين.

عبد الوهاب مطاوع


سيدي لا أكتب إليك لأروى لك قصة حبي وزواجي من شريكة حياتي ..

ولا أحكى لك كما يفعل بعض قرائك كيف تعرفنا ووجد كل منا في الآخر نصفه الغائب ، ولا كيف كافحنا لنبني عشنا وذكرياتنا السعيدة ونحن نبنيه طوبة طوبة .. ولا كيف اكتملت سعادتنا حين وجدنا نفسينا أخيراً في عش صغير تظلله بسمة زوجتي وإقبالها على الحياة وحبها للناس جميعاً.

ولا أكتب إليك لأروى لك ذكريات سعادتنا الصغيرة .. ولا رحلاتنا إلى القناطر الخيرية ، والأهرام .. إلخ .. ولا كيف استقبلنا مولودتنا الوحيدة واختارت لها شريكة حياتي اسم "هدير" ليكون متوافقا مع اسمي ومثيرا للبسمة عند من يسمعه مقترنا باسمي ، ولا كيف وثقت هذه الطفلة الجميلة من روابطنا فأصبحت محور حياتنا ، وأصبحت كلماتها طرائف نضحك عليها ونسعد بها .. خصوصا زوجتي التي فطرها الله بفطرة غريبة وهى أنها تحاول إسعاد غيرها بكل الطرق ولو على حساب نفسها .

 

ولا أكتب إليك يا سيدي لأحكى لك الفصل الحزين من قصتنا .. وكيف تسلل المرض إلى زوجتي الملائكية بغير أن ندرى ، ثم نما واستفحل بغير أن نستطيع السيطرة عليه حتى وصلت القصة إلى نهايتها الحزينة منذ عامين ، ووجدت نفسي وحيداً مع طفلتي التي لم تبلغ سبع سنوات من عمرها في ذلك الوقت ، واضطررت آسفا إلى تركها في رعاية أسرة زوجتي ، وعدت أنا إلى الإقامة مع أهلي وأصبحت سعادتنا ذكريات تطاردني في نومي وفى صحوي ..أغمض عيني فأرى وجه زوجتي الملائكي يبتسم في عتاب .. كأنها تلومني على إفراطي في الحزن عليها .. وهى من كانت لا تحب الأحزان حتى في أشد لحظات الألم .. ومن كانت تدفئ حياتنا وهى ترتجف من وطأة المرض .. وتضحكنا وهى تتلوى من الألم ، وترسم البسمة على وجهينا وهي تنزف دماً ، وتنير بصيرتنا وهى تفقد بصرها يوما بعد يوم ، وأسمع أحيانا صدى صوتها يرن في أذني فيغمر نفسي بالحنين إلى رنين ذكريات الماضي الجميل .

 

ومع ذلك فإني لا أكتب إليك يا سيدي لأشكو من ذلك – لأني رجل مؤمن بقضاء الله وقدره – وقد رضيت بنصيبي من الدنيا وتقبلته كما رضيت من قبل عن سعادتي ونعمت بها .. واعتبرت ما حدث هو حزني الخاص الذي لا أحب أن أطلع أحداً عليه .

لكني أكتب لأشكو لك من شىء آخر ..هو أنه بالرغم من مرور عامين على رحيل شريكتي فإن طفلتي التي تقترب الآن من التاسعة مازالت تعيش وجود أمها الراحلة كحقيقة تخصها وحدها ، وترفض الاعتراف بالواقع المر الذي تعرفه جيداً ، فهي تتكلم عن أمها دائماً بصيغة المضارع .. فتقول ماما تفعل كذا أو تقول كذا ولا تحب كذا ، وترفض دائماً أن تقول كانت تقول كذا ولا تحب كذا ، وقد حاولت مراراً أن أجعلها تتعود أن تلحق أسم أمها بعبارة الله يرحمها ففشلت في ذلك فشلاً ذريعاً .

 

واستخدمت قراءاتي في الدين والفقه والعلوم الإنسانية لإقناعها بقبول فكرة الرحيل النهائي ، بما يتماشى مع عمرها وتكونيها النفسي والعقلي ففشلت أيضاً ، ويزيد من متاعبنا أن بعض زملائها في المدرسة يتمسكن بتعريفها بأمهاتهن فتتصرف بطبيعة وتضاحك زميلاتها وأمهاتهن لكنها حين تعود إلى البيت لابد أن تجد سببا ظاهريا للبكاء ثم تنساب دموعها بما لا يتناسب أبداً مع السبب ، ولو فعلنا المستحيل لتجنب إغضابها فإنها تندفع في البكاء بلا سبب ، واليوم الحزين حقا هو اليوم الذي تتطلب فيه بإصرار لا تنجح معه أي محاولات أن تتصفح ألبوم صورنا العائلية ، فتشاهد الصور التي تجمعنا مع أمها متهللة سعيدة وتحكي عن كل صورة ذكريات مناسبتها .. ثم تشكرني وتقبلني لأني سمحت لها بمشاهدة الصور ، ونحاول جميعا شغلها وإلهاءها بأي شىء لكي لا تنفرد مع نفسها لكنها لابد أن تجد فرصة لكي تنساب دموعها فتنساب معها دموعي ودموع من معي ويكون يوما حزينا آخر !!

 



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 

لا يا سيدي لست كما تظن ولن تكون إن شاء الله ، بل أنت إنسان ناضج مثقف تعرف الكثير عن حقائق الحياة ، لذلك فقد رضيت بما اختارته لك الأقدار وسلمت به واعتبرته حزنك الخاص بك الذي لا تحب أن تطلع أحداً عليه ، ومن منا من ليست له أحزانه الخاصة التي لا يحب أن يطلع عليها غيره .. ومن منا من ليس بواحد من جرحى الحياة بشكل أو بآخر ، وما أكثرهم وما أحفل الحياة بهم .

لذلك فإني أعتبر أنه ليس هناك مشكلة فيما يتعلق بك لكن المشكلة الحقيقية هي مشكلة ابنتك الصغيرة ، فلأنها ليست مثلك ناضجة ومثقفة وتعرف الكثير عن حقائق الحياة ، فلقد تمسكت فى خيالها بالماضي الجميل ورغبت أن تعايشه كرد فعل هروبي تلقائي للحاضر المؤلم الذي تعيشه ، وهى ليست فريدة فى ذلك ، فنحن أيضا نمارس هذا الهروب بشكل مختلف مما يؤلمنا في حاضرنا إلى ما سبق أن أسعدنا في ماضينا .. لكننا نمارسه بشكل أخف وخلال ومضات سريعة تخطف في داخلنا ونسترجع خلالها ذكرياتنا السعيدة وأيامنا الخالية ثم نعود سريعا إلى واقعنا ونواصل حياتنا .

 

ومع ذلك فنحن لا نواجه مشكلة نفسية في ذلك ، لأننا نسترجع ذكرياتنا السعيدة ونحن نعي أنها ذكريات ، ونستروح الماضي الجميل ونحن نعرف تماما أن الماضي لن يعود ،أما هي فإن برائتها لا تسمح لها أن تعي كل ذلك ، وإنما ستعيه تدريجياً .. وستقل لحظات هروبها إلى الماضي  مع تقبلها التدريجي للواقع الذي ترفضه الآن ، والزمن كفيل بمداواة الجراح يا صديقي .. فلا تقلق عليها ولا تخف فمن نعم الله أنه أنعم علينا بالنسيان ، نداوى به جراحنا .. ونستعين به على شدائدنا ولولاه لتوقفت الحياة وتسمر كل إنسان عند أحزانه وآلامه ومشاكله وخلافاته وصراعاته والسهام التي أصابته من الآخرين ، وللأطفال أيضاً حكمتهم الفطرية التي تسهل عليهم تقبل هذه الحقائق الأليمة .. ولهم أيضاً واقعيتهم الخاصة التي  نعجز أحيانا عن فهمها ، ولعل هذا ما يفسر هذا السلوك الذي يبدو لنا صادما لمشاعرنا عند الغربيين حين يصرون على مكاشفة الأطفال الصغار بالحقائق الأليمة فور وقوعها ، ويرغمونهم على حضور المراسم الحزينة كلها لكي يتقبلوا الواقع من البداية مهما كان مؤلما .

 

وإن كنا لا نستطيع أن نتعامل مع هذه الحقائق بمثل هذه الواقعية الصعبة ، فإننا نستطيع على الأقل أن نسربها إليهم بجرعات محسوبة تتوافق مع أعمارهم .. وأن نزيد من اقترابنا منهم لكي نساعدهم على تخطى هذه المرحلة الحرجة بغير خسائر نفسية بقدر الإمكان ، فواصل رعايتك لها ومحاولة شغلها بالنافع والمفيد من أوجه النشاط الفني والثقافي والاجتماعي ، ولا تنزعج من دموعها فهي ضرورية ومفيدة إذ : ( لم يخلق  الدمع لامرئ عبثا .. الله أدرى بلوعة الحزن ) كما يقول ابن الرومي ، ولأن الله أدرى فعلا بلوعة الحزن .. فلا تخف من دموعها فسوف تجف تدريجيا إن شاء الله ، إلى أن تنسى أحزانها مع الأيام ، وفكر في مستقبلك وحياتك لأن الوحدة أشق على الإنسان أحيانا من أي شىء آخر ، ولأن الإنسان الوحيد يعايش أحزانه أطول كثيراً مما يعايشها غيره .. وأنت شاب في مقتبل العمر وقد يكون الأوان قد آن في أن تفكر أن تبدأ حياتك من جديد حاملا في داخلك أجمل الذكريات .. وأنبل المشاعر لشريكة حياتك الملائكية الغائبة .

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

شارك في إعداد النص / ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

  


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات