صفاء النهر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
إنني أؤمن دائماً بالبشر والخير الكامن فى
أعماقهم، وأردد لنفسي دائما كلمة للكاتب الأمريكي ديفيد لوث "قد تكون معلومات
بعض البشر خاطئة وقد يكون تفكيرهم سيئاً لكن مشاعر الأغلبية العظمى منهم سليمة
وطيبة" .. وأرى من صور ذلك فى تعاملي مع حالات بريد الجمعة الإنسانية الكثير.
عبد الوهاب مطاوع
أنا الطبيب الشاب بمستشفى
إيتاي البارود الذي كتب إليك منذ عام رسالة نشرتها بعنوان "فاتورة
الألم" عن الفتاة "ابتسام" نزيلة مستشفى إيتاي البارود التي فقدت
فى حادث قطار مؤلم ذراعاً وكف الذراع الأخرى وساقاً, ولم يتبق لها من أطرافها سوى
ساق وحيدة مع عجز تام عن الحركة, وقد كتبت لك وقتها عن قوة إيمان هذه الفتاة ذات
السبعة عشر ربيعاً ورضائها بما جرى لها وابتسامتها التي لا تفارق شفتيها رغم هول
الإصابة والألم.
وبعد النشر في بريد الجمعة حدث ما تعرفه وما
ذهلت له أنا وزملائي بالمستشفى حين تعاملنا مع هذا النبع من الخير الكامن في نفوس
المصريين ينتظر الإشارة لكي يتدفق كالنهر, إذا مازلت أذكر بعد أكثر من عام أنه في
اليوم التالي للنشر مباشرة فوجئنا بزيارة عشرات من القراء والأصدقاء المجهولين من
كل مكان جاءوا لزيارة ابتسام والتخفيف عنها.. ومازلت أذكر أول زائر وصل إلى
المستشفى وكان محاسباً جاء من الإسكندرية قاطعاً هذه المسافة الطويلة في شهر رمضان
يزورها ويخفف عنها.
وهزني بشدة ذلك المهندس
الكيميائي الذي كان قد أجرى عملية جراحية بالعمود الفقري قبل وقت قصير وغادر
مستشفى المواساة بالإسكندرية حيث أجريت له الجراحة .. متوجهاً منه إلى مستشفى
إيتاي البارود راقداً على ظهره في عربة إسعاف طوال هذه المسافة الطويلة في رمضان,
كما مازلت أذكر عشرات الزوار من أطباء مستشفى رأس التين العام ومن المصلين بمسجد
بكرى بالإسكندرية وزيارات السيدات الفضليات من القاهرة ومنهن السيدة العظيمة التي
تعرفها والتي شملت ابتسام برعايتها طوال العام الماضي خلال فترة إقامتها بالقاهرة
للعلاج الطبيعي, وزيارات الشباب والطلبة الجامعيين, والرسائل التي كانت تصل إليها
كل يوم على المستشفى من مصر والدولة العربية ومن شاب مصري يعمل بهولندا, كما
مازلنا نعجب لرسائل ذلك المجهول الذي كان يرسل لابتسام كل يوم بانتظام قصيدة شعر
يحدثها فيها عن الأمل والإيمان وجمال الحياة رغم كل شئ.
وأذكر أن كل من زاروا ابتسام قد تألموا كثيراً
لصعوبة حالتها, لكن إعجابهم بقوة إيمانهم وابتسامتها الدائمة ورضائها بقضائها
وقدره كان أكبر وأعظم.
وقد دفع كل هؤلاء الزوار
فاتورة " الأمل " لها بكرم وحب وفاء.
لقد عشنا أياماً حافلة في
مستشفى إيتاي البارود وكانت تجربة عظيمة لنا عرفنا منها أن نهر الحياة يتدفق
دائماً ويجرف أمامه جميع الآلام فلا يبقى بعد ذلك إلا صفاء النهر .. وها أنا ذا
أكتب لك هذه الرسالة لأبلغك أنه بعد عام طويل من العلاج الطبيعي, استطاعت ابتسام
منذ أيام فقط وبمساعدة الأطراف التعويضية التي تكلفت بها وزارة التعليم أن تسير
على قدميها وأن تستخدم إحدى يديها للمرة الأولى منذ وقع لها الحادث, ولم يبق
والحمد لله إلا البحث عن مركز تأهيلي متقدم يناسب حالتها لاستكمال العلاج فيه.
وأخيراً فإن بلسان ابتسام
أشكركم جميعاً وأشكر بريد الجمعة وقراءه وهذا الشعب العظيم الذي ليس صامتاً ولا
سلبياً كما يقولون عنه, لكنه فقط يريد هدفاً يلتف حوله لكي يصنع المعجزات والسلام.
ولــكاتـب هـــذه الرسـالة أقـــول:
هذا خبر عظيم سيسعد له قراء
هذا الباب الذين مازالوا يذكرون قصة هذه الفتاة الشجاعة الصابرة كما سعدت له حين
قرأته.
إن الإيمان بالله وبالحياة
والبشر وبالخير الكامن في النفوس هو خير زاد يعين الإنسان على تحمل المصاعب والتطلع
دائماً بقلب يخفق بالأمل في رحمة الله إلى غد أفضل تزول فيه الآلام .. وهو الطريق ولا
طريق غيره لمواصلة الحياة والتكيف معها.
ولقد أوتيت هذه الفتاة قوة
روحية كبيرة أعانتها على تحمل أقدارها بنفس راضية وابتسامة دائمة .. فجرفت الحياة
آلامها, وصفا_ ونرجو أن يصفو لها دائما_ نهر حياتها من كل الأوشاب بإذن الله.
إنني أعرف الكثير مما رويت لي
عما فعل قراء بريد الجمعة الأفاضل مع هذه الفتاة .. وأعرف أيضاً عن قرب ما قدمته
تلك السيدة العظيمة بحق من رعاية لها خلال فترة العلاج الطبيعي التي حملت خلالها
عن بريد الجمعة مسئولية متابعة هذا العلاج بمراحله المختلفة, لكنى لم أكن أعرف قصة
هذا المهندس الكيميائي الذي غادر مستشفاه بالإسكندرية رقداً على ظهره في عربة
إسعاف إلى مستشفاكم ليزور فتاة صابرة لا يعرفها, ولعله قرأ قصتها وهو في فراش
المرض,فوعد نفسه بأن يزورها حين يأذن الله له بمغادرة المستشفى . يا إلهي إنني
أؤمن دائماً بالبشر والخير الكامن في أعماقهم, وأردد لنفسي دائما كلمة للكاتب
الأمريكي ديفيد لوث "قد تكون معلومات بعض البشر خاطئة وقد يكون تفكيرهم سيئاً
لكن مشاعر الأغلبية العظمى منهم سليمة وطيبة وأرى من صور ذلك فى تعاملي مع حالات
بريد الجمعة الإنسانية الكثير, لكنى لم أتأثر منذ فترة بمثل ما تأثرت لهذه اللفتة
الإنسانية الكريمة من هذا الكيميائي الفاضل.
نعم .. نعم .. يا صديقي إن
هذا الشعب عظيم حقاً .. ونبع الخير في أعماقه لا ينضب وهيهات أن ينضب أو يجف رغم
جفاف الحياة حول الكثيرين من أبنائه .. ولعلك تعرف بعض الجوانب الأخرى من مبادرات
هذا الشعب العظيم للتخفيف عن أسرة ابتسام المكافحة في محنتها التي تمت عن طريق
بريد الأهرام مباشرة.
فهنيئاً لابتسام استعادتها لقدرتها على الحركة وسعادة الكثيرين بذلك .. وهنيئاً لكم ولقراء بريد الجمعة الأفاضل بما فعلوا وبما أعادوا غرسه من بذور الأمل فى طريق هذه الفتاة المؤمنة .. ويبقى أن يرشدنا أحد من أهل الاختصاص إلى مثل هذا المركز ألتأهيلي المتقدم لكي نواصل معكم المشوار إلى نهايته بإذن الله .. وشكراً لك.
رابط رسالة الحياة أشواك تعقيبا على هذه الرسالة
شارك في
إعداد النص / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر