الحياة أشواك .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1993

 الحياة أشواك .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1993

الحياة أشواك .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1993

إننا مدينون للحياة بقدر ما هي مدينة لنا, ومن واجبنا أن نتقبل اختباراتها القاسية صابرين .. كما نرحب بمباهجها وأفراحها مهللين .

عبد الوهاب مطاوع


هذه رسالة من الرسائل القليلة التي أحس بضرورة التمهيد لها بكلمة قصيرة توضح  قصة الرسالة .. أو قصة القصة كما يقول نقاد الأدب.

وقبل أن أفعل .. أقول في البداية إنني أصدق كل حرف فيها .. ليس فقط لنبرة الصدق الإنساني العالية فيها .. وإنما أيضا لأني قد اكتشفت حين قرأت توقيع  صاحبها وعنوانه في نهاية الرسالة أنه صديق من أصدقاء بريد الأهرام اليومي, يكتب لي من مدينته من حين إلى أخر رسالة حول القضايا العامة..

وتتسم رسائله دائما بالصدق والموضوعية, وبعد ذلك أقول أنني قد نشرت منذ أكثر من عام رسالة بعنوان " فاتورة الألم " كتبها طبيب شاب, وروى لي فيها قصة الفتاة الصابرة المؤمنة ابتسام التي فقدت في حادث قطار بإيتاي البارود ساقا وذراعا كاملة وكف الذراع الأخرى, وتواجه أقدارها برضا وابتسامة لا تفارق وجهها, وقد أحاطها قراء بريد الجمعة عقب النشر بمشاركتهم وتوافدوا لزيارتها في مستشفى إيتاي البارود وخففوا بعض ألامها .. وقد روى ذلك في رسالة ثانية بعنوان " فاتورة الأمل " حكي لي ما قدمه أصدقاء بريد الجمعة من عطاء إنساني ومادي لابتسام .

 

ومنذ أسابيع كتب لي رسالة جديدة نشرتها بعنوان" صفاء النهر" بعد مضي عام على حادث الفتاة الصابرة ليزف إلىّ خبر استعادتها لقدرتها على الحركة بعد تركيب الأجهزة التعويضية لها ويتذكر ما أحاطها به أحباء بريد الجمعة من مشاركة صادقة خففت عنها الكثير من معاناتها, وكيف جاء كثيرون لزيارتها من القاهرة والإسكندرية وطنطا والمحلة الكبرى ..إلخ.

وكيف كتب لها العشرات من الشباب والفتيات خطابات المشاركة والتعاطف الصادق, وكان من بين هؤلاء كيميائي فاضل أصر على أن يزورها قادما إليها من الإسكندرية في عربة إسعاف راقدا على ظهره طوال الطريق بعد جراحة صعبة أجراها في العمود الفقري، فتوقفت في تعليق الرسالة أمام زيارة هذا الكيميائي الفاضل بالذات وقلت إنها قد مست قلبي واعتبرتها نموذجا فريدا للتعاطف الإنساني النبيل بين البشر في مواجهة آلام الحياة واختباراتها القاسية .

ومنذ أيام تلقيت فى بريدي هذه الرسالة :

 

سأقدم لك نفسي مباشرة فأقول لك إنني ذلك الكيميائي الذي أشار إليه الأخ الكريم الطبيب الشاب في رسالته إليك بعنوان " صفاء النهر" والذي تناوله قلمك بتعليق كريم وكلمات رقيقة هزت مشاعري بعنف حان, وارتفعت بها حالتي النفسية والمعنوية, ودعوت الله صادقا أن يحقق فينا حسن ظن الناس بنا ويوفقنا جميعا إلى الخير.

ولقد أعادت هذه الكلمات الطيبة إلى ذاكرتي قصة زيارتي لابتسام بمستشفى إيتاي البارود في رمضان قبل الماضي، وهي زيارة تجلت فيها رحمة رب العباد بعباده الضعفاء.. وسوف أشرح لك بعد قليل تفاصيل هذه الرحمة الالهية.

فقد شاءت إرادة الله أن تجرى لي جراحة بالفقرات القطنية من العمود الفقري بمستشفى المواساة بالإسكندرية بعد رحلة معاناة طويلة مع الألم .. ثم جاءت تجربة الجراحة بمشاعرها المختلفة قبل دخول غرفة العمليات وبعدها . . وفي مثل هذه الحالات يكون الإنسان صادقا مع ربه ومع نفسه، ويصبح أكثر إحساسا بآلام الآخرين ومشاعرهم خاصة وقد تدفق علىّ طوال فترة إقامتي بالمستشفى نهر من الحب والعطاء من أهلي وأصدقائي وزملائي وأحبائي ينبع من المحلة الكبرى حيث مقر إقامتي وعملي .. ويصب في غرفتي في مستشفى المواساة بالإسكندرية .. وفي هذا الجو الإنساني الصادق قرأت رسالة الطبيب الشاب الأولى لك "فاتورة الألم"، وعرفت قصة ابتسام مع محنتها فانفعلت بقصتها وإيمانها وابتسامتها الدائمة رغم قسوة الاختبار، وقررت في نفسي أنه عند خروجي من المستشفى وعودتي إلى بلدتي المحلة الكبرى سوف أمر على إيتاي البارود لأزورها في المستشفى، لأخفف عنها بعض ألامها كما خفف الأحباب والأصدقاء عني في مرضي، وأفضيت برغبتي لزوجتي الوفية التي تلازمني في المستشفى ووافقتني عليها، وجاء يوم خروجي من المستشفى، وجاءت عربة الإسعاف لتنقلني واستلقيت على السرير الموجود بها لأن حالتي الصحية بعد الجراحة لم تكن تسمح لي بالحركة كثيرا, وبدأنا الرحلة ومعي داخل عربة الإسعاف بعض المرافقين واقتربت السيارة من مدينة إيتاي البارود فسمعت همهمة بينهم فهمت منها أنهم لا يريدون دخول المدينة خوفا على ظهري من مطبات الشوارع الداخلية ومشقة مغادرة السيارة وصعود سلم المستشفى، فأكدت لهم تصميمي على القيام بالزيارة.

 

ووصلت السيارة إلى مدينة إيتاي البارود, فكان اليوم هو يوم السوق والطريق شبه مغلق بالزحام والعربات والباعة، فحاولوا مرة أخرى إثنائي عن إتمام المشاور إشفاقا على حالتي الصحية، فصممت من جديد على رغبتي ..حتى لو أدى الأمر إلى نزولي من السيارة والذهاب إلى المستشفى سائرا على قدمي، بالرغم من أنني لا أكاد أقوى على المشي، واستسلم المرافقون في النهاية لما أردت، فأطلق سائق سيارة الإسعاف سرينتها ليفسح له الباعة والمارة ثغرة في الزحام يمر منها، ووصلنا إلى المستشفى ونزلت من سريري متكئا على كتف أحد المرافقين وقابلت الطبيب الشاب ثم قابلت ابتسام الباسمة، ورأيت فيها الصبر والأمل وقضيت معها بعض الوقت أشد من أزرها وأخفف عنها بعض ابتلائها ثم ودعتها وعدت إلى سريري بعربة الإسعاف مصحوبا بالدعوات الطيبة وأحس براحة نفسية كبيرة وسعادة غامرة عجيبة.

 

وواصلت سيارة الإسعاف طريقها إلى المحلة الكبرى .. حتى بلغت منزلي حيث ينتظرني أبنائي الذين تركتهم عشرين يوما في رعاية خالتهم الكريمة، فما إن دخلت إلى البيت حتى عرفت سبب تصميمي الداخلي على زيارة ابتسام في مستشفاها رغم حالتي الصحية وفهمت أيضا سر رحمة ربي ولطفه بي.

فلقد اندفع أبنائي إلي فإذا بى أجد ابني الأكبر الذي يبلغ من العمر 18 عاما والطالب بالثانوية العامة والابن الوحيد لي على بنات مبتور الساق اليمنى، فاحتضنته وغبت عن الوعي لفترة لا أعرف مداها.

وحين أفقت عرفت ما أخفاه عني الجميع طوال إقامتي بالمستشفى .. لقد صمم ابني في اليوم التالي لإجراء الجراحة لي على أن يسافر وحده إلى الإسكندرية ليزورني ويطمئن عليّ وعندما همّ بركوب القطار انزلقت قدمه فسقط تحت عجلات القطار, وشاءت إرادة الله أن يسقط جسمه بعيدا عن العجلات..فلم يدهم القطار إلا ساقه اليمنى .. وحمله أهل الخير إلى المستشفى حيث تم بترها فيه وغادره يمشي على عكازين.

 

وتعجبت لمفارقات الحياة التي لا تفسير لها سوى إلا أنها من مشيئة الله, ففي الوقت الذي كنت أسعى فيه لزيارة ابتسام على غير معرفة بيننا سوى الرابطة الإنسانية بين كل البشر لأشاركها مشاعرها وآلامها ومحنتها دون أن أدري شيئا عن ابتلائي الخاص الذي ينتظرني في بيتي, كان أهل الخير وما أكثرهم من الجيران والأهل والأصدقاء والأحباب- جزاهم الله عنا كل خير- يحيطون ابني ليل نهار برعايتهم وحبهم وعطفهم, ويخففون عنه ألامه ويعوضونه غياب الأب في جراحته ومرضه وغياب الأم المرافقة لزوجها في مستشفاه, وكانوا جميعا حريصين على ألا أعلم بما جرى به القضاء على ابني الوحيد ونجحوا في ذلك وكانوا رائعين حقا في عطائهم ومواقفهم الخيّرة الكثيرة معه.

 

لقد أفقت من إغمائي فتولاني القلق والجزع واستسلمت للحزن والهواجس .. ابني الوحيد مبتور الساق .. كيف سيتحمل حياته .. ماذا سيصنع بمستقبله .. كيف سنتحمل معه هذا الابتلاء .. وعششت الأفكار السوداء في صدري بعض الوقت .. فإذا بي أسمع هاتفا داخليا يقول لي : لماذا أرسلناك إذا لزيارة ابتسام التي فقدت في حادث قطار مشابه ساقا وذراعا كاملة وكف الذراع الأخرى..وفيم كان إلهامنا لك أن تصمم على إتمام الزيارة .. رغم كل المعوقات والمحاولات من جانب مرافقيك .. كف يا رجل عن الجزع وارض بقضاء ربك .. وقم فصلّ صلاة شكر له, فقد كان بابنك لطيفا .. وبك رحيما .. وهداك لأن تزور تلك الفتاة الصابرة وتلمس عن قرب عظم ابتلائها وقوة إيمانها وارتفاع معنوياتها رغم ما أصابها .. أفأنت أقل منها إيمانا واحتسابا .. فانتفضت واقفا وصليت لربي وحمدت الله أنه كان بنا لطيفا رحيما .. إذ ماذا يكون ابتلائي في ابني إذا ما قارنته بابتلاء ابتسام الصابرة الباسمة التي رأيتها منذ ساعة .. بل ماذا كان سيصبح عليه حالي لو فوجئت بابني الوحيد مبتور الساق قبل أن أرى من بلاؤها أشد من بلائي وبلاء ابني .. وألمس عن قرب صبرها ورضاها بأقدارها .

 

لقد استعدت سلام نفسي بعد فترة قصيرة من الهواجس وصبرت واحتسبت وعوضني الله عن بلائي خيرا كثيرا, فلقد تم تركيب الجهاز التعويضي لابني وتخلص من العكازين, وعاد يسير على قدميه كأي شاب أخر .. وكان بلاؤه هذا من بين العوامل التي ساعدته على النجاح في الثانوية العامة في العام الماضي .. فقد أحاطه الجميع بعطفهم ورعايتهم ومساعدتهم له قبل الامتحان وأثناءه  بل وكان ابتلاؤه أيضا سببا في دخوله جامعة طنطا ضمن نسبة المعاقين وما كان مجموعه ليؤهله لدخول الجامعة .. وهو يعيش حياته الآن راضيا بقضاء ربه وقدره ويحدوه الأمل في غد سعيد بإذن الله .. فماذا أريد من ربي - جلّت قدرته - أكثر من ذلك.. وكيف أشكره على لطفه به وبنا وعلى إرادته الإلهية في التمهيد لي برؤية ابتسام الباسمة الراضية بأقدارها لكي أصبر على ما خفي عني من بلاء وأتماسك إنه ما من شوكة تصيب الإنسان إلا رفع الله بها درجاته أو غفر له بها من ذنوبه, كما جاء في مضمون الحديث الشريف .

 

والحق يا أخي أن الإنسان في هذا الزمن في حاجة لأن تصيبه "الشوكة" من حين لأخر لكي يتوقف بعض الوقت عن لهاثه الدائم وراء الدنيا وصراعاتها, ويراجع نفسه ويطهر روحه من صدأ ماديات الحياة التي تلهيه عن أشياء كثيرة تستحق منه الاهتمام .. ولقد توقفت وراجعت وخرجت من مراجعتي بشكر الله وحمده على كل شئ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

"لله الحكمة .. ولنا الألم" هكذا قال داود النبيّ متحدثا إلى لقمان الحكيم وهكذا ينبغي أن نقول كلما واجهنا ما يخفى علينا وجه الحكمة الإلهية فيه من اختبارات الحياة القاسية .. ومفارقاتها.

ذلك أن كثيرا من آلام الإنسان إنما يرجع إلى عجزه عن فهم أسرار الحكمة الإلهية وراء بعض تصاريف القدر .. ولو فهمناها أو تلمسنا السبل إلى فهمها, لسلمنا بما حدث دائما وتقبلنا كل ما تأتي به الحياة بنفس راضية .. وتواءمنا مع حياتنا وظروفنا الجديدة , وتعلقنا دائما بالأمل في رحمة الله أن يخفف عنا ما نعاني منه, ولقلنا مع الشاعر الإنجليزي "إذا كان الشتاء القاسي قد جاء فليس الربيع ببعيد" إذن فلنتحمل صقيع الشتاء واكفهرار الحياة فيه, فهو لن يدوم إلى الأبد ولن يطول, بل سيأتي بعده ربيع يداوي الجراح ويمسح الأحزان. أو هذا على الأقل ما ينبغي أن نتمسك بالأمل فيه حتى النهاية ولا نستسلم لليأس والإحباط والهواجس السوداء بلا طائل.

 

وأنت يا سيدي قد أتيح لك أن تتفهم بعض أسرار الحكمة الإلهية وراء تصرف صغير هو إصرارك على زيارة تلك الفتاة الصابرة عقب خروجك من المستشفى رغم ظروفك الصحية والاعتراضات, فلقد أراد الله أن يخفف عنك وقع بلائك المنتظر .. وأن يقدم لك دليلا بشريا حيا على أن ما جرت به المقادير على ابنك العزيز لن يكون نهاية الحياة بالنسبة له .. ولن يحرمه من مواصلة حياته وتحقيق أهدافه وأحلامه فيها, فكأنما قد أراد لك ربك أن تزور هذه الفتاة المؤمنة لكي تخفف هي فيما بعد عنك بأكثر مما خففت أنت عنها. وهذه هي الأهمية الإنسانية لآلام الآخرين وهمومهم. إننا قد نفيد الآخرين بمشاركتنا لهم  ألامهم ومحاولتنا التخفيف عنهم, لكننا قد نستفيد أيضا منهم بأعمق مما أفدناهم نحن وأبعد. وأول ما نجنيه من ذلك هو راحة الضمير التي يحسها صاحب الفعل الأخلاقي, وأخره هو بما يعيننا اقترابنا من مآسيهم .. على الصبر على ألامنا وعدم المغالاة في تقديرها. والرسول الكريم يقول لنا :"لا تحقرن من المعروف شيئا " لأن كل فعل أخلاقي مهما بدا لنا ضئيلا له قيمته ودوره الإيجابي في تجميل الحياة وإعلاء مثلها العليا, وله أيضا "جوازيه"عند خالق الكون وعند الفضلاء من الناس.

ويعجبني في هذا الصدد تعريف الفيلسوف الألماني كانط للخير حين يقول لنا: إن الخير هو مطابقة الإرادة للقانون الأخلاقي, وبالتالي فإن الفعل الأخلاقي خير بالضرورة. وهذا صحيح تماما ولو لم تكن تصاريف القدر قد ادخرت لك ما كان ينتظرك من ابتلاء عند عودتك لبيتك من رحلة المرض, لكانت جائزتك على الفعل الأخلاقي الذي صنعته بزيارة تلك الفتاة هو فقط ما أحسست به بعد الزيارة من راحة نفسية وسعادة غامرة, لكن إرادة الله شاءت غير ذلك ولا رادّ لمشيئته, فأصبحت تلك الزيارة دعما قدريا لإيمانك وصبرك لكي تقوى على مواجهة ما كان ينتظرك من اختبار.


 إننا يا سيدي مدينون للحياة بقدر ما هي مدينة لنا, ومن واجبنا أن نتقبل اختباراتها القاسية صابرين .. كما نرحب بمباهجها وأفراحها مهللين .. ولا شك أنك قد تقبلت أقدارك بنفس راضية مطمئنة .. وعرفت أن "شتاء" الابن العزيز لم يطل كثيرا بل سرعان ما تفتحت زهور الربيع في قلبه وعقله بعد قليل. حفظه الله لك وحفظك له ولأسرتك وكل محبيك وشكرا لك على رسالتك القيّمة التي علمتنا درسا جديدا فريدا من دروس الحياة التي لا حد ولا نهاية لغرائبها ..وعجائبها .

رابط رسالة فاتورة الألم

رابط رسالة صفاء النهر

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" في يوليو عام 1993

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات