جبل الجليد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 

جبل الجليد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


جبل الجليد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995 


                                         

أنا سيدة متزوجة عمري 35 عاما تعرفت على زوجي الذي يكبرني بثلاثة أعوام فقط خلال المرحلة الجامعية , وتزوجنا عقب التخرج مباشرة بعد قصة حب طاهرة وشريفة وأقمنا فى شقة بمنزل أبي وأنجبنا بنتين جميلتين كانتا مصدر بهجة وسعادة لنا .. ويعمل زوجي مهندسا بإحدى الهيئات الحكومية التي يعمل بها أيضا شقيقي .. وزوجي طيب القلب ومتفوق فى عمله ومتدين ويحظى بإحترام كل من يعرفه لكنه للأسف لم يكن على وفاق مع شقيقي الذي يعمل معه فى نفس المكان.

وذات يوم رجع شقيقي من عمله فأخبرنا بأن زوجي قد وشى به لدى رئيسه مما تسبب فى نشوء فجوة عميقة بينهما .. فثار لذلك أبي وأمي وتعاطفا مع شقيقي وشاركتهما أنا مشاعرهما العدائية تجاه زوجي, أما زوجي فلقد رفض هذا الاتهمام بإصرار ونفاه عن نفسه مبررا ذلك بأنه لا مصلحة له فى إيذاء شقيقي بهذه الوشاية الحقيرة, وبأنه ليس معنى أنه على خلاف معه أن يسعى لإيذائه أو يقبل بذلك, لكننا لم نقتنع فى الحقيقة بدفاعه عن نفسه .. وبدأت المشاكل تتوالى بين أسرتي وبين زوجي وانضممت فيها لأسرتي فأصر زوجي على موقفه وضاق بما حدث فلم يعد يبالي بنا أو حتى يدافع عن نفسه.

 

وأثارني ذلك فأهملت شئونه الشخصية وخرجت معه عن سيطرتي على نفسي مرارا وعايرته بأشياء تتعلق بأهله وتمس كرامة الرجل أن يسمعها ورغم ذلك فقد كان يتلقاها صامتا وصابرا ولا يرد الإساءة بمثلها بل يترك البيت إذا اشتد الخصام بيننا ويخرج لساعات متجنبا الصدام معي, وشجعني أهلي للأسف على ذلك فتماديت فيه بلا أى رد فعل من جانبه حتى فاجأته ذات مرة بطلب الطلاق ففوجئت به يطلب مني بهدوء شديد أن نتفق وديا على شروط هذا الطلاق, وكانت شروطه هي أن أتنازل عن مؤخر الصداق ونفقة المتعة ليس بخلا بهما علي ولكن لأنه لا يملك ما يؤديه لي منهما ومقابل ذلك فإنه سوف يتنازل لي عن البنتين ويتركهما معي حتى سن الثانية عشرة لكل منهما ويرسل لي كل شهر ربع مرتبه كنفقه لهما ورجاني زوجي بإلحاح ألا نتخاصم أبدا أمام المحاكم مهما حدث بينا رحمة بالأبناء, وترفعا عن مثل هذا النزاع الكريه وكان تمام الطلاق يتطلب منه أن يغادر الشقة إلى مكان آخر يقيم به .. ولم يكن لزوجي أقارب في القاهرة فراح يبحث له عن مأوى جديد واستغرق ذلك بعض الوقت وأبلغت أهلي بما اتفقنا عليه فعامله أبي بقسوة شديدة وطلب منه تنفيذ الإتفاق على الفور ومغادرة الشقة فطلب منه زوجي مهلة قصيرة لا تزيد على بضعة أيام حتى يجد مكانا ينتقل إليه لكن أبي أصر على أن يطلقني في نفس اليوم .. فسأله زوجي : أيرضيك أن أنام فى الشارع؟ .. ووعده بأنه سيترك عمله ويتفرغ للبحث عن مسكن له ولن يرجع إلى بيت والدى إلا ومعه المأذون ليطلقني وخرج غاضبا وحزينا وبعد خروجه بساعة واحدة جاء لزيارتنا خال أمي وهو أستاذ جامعي فاضل نحبه ونحترمه وعلم بما جرى فقال لأبي أن زوجي فى أغلب الظن صادق فى نفيه عن نفسه تهمة هذه الوشاية وحتى لو لم يكن كذلك فإن مجرد إنكاره لها يعد بمثابة إعتذار منه عنها , ثم سأل عما إذا كنت قد شكوت من سوء معاملته لي قبل هذه القصة .. وكان الجواب بالنفي فتعجب من تردي الأمور بيننا وبينه إلى هذا الحد ونصح أبي بمراجعة نفسه وإصلاح الموقف قبل أن يتفاقم أكثر وينعكس بالخراب على ابنته وطفلتيها.

 

 وانصرف خال أمي وأنا أتوقع معالجة الموقف بما لا يصل بى وبزوجي إلى الطلاق, فإذا بزوجي يعود في منتصف الليل إلى شقة الزوجية ويطلبني للذهاب إليه من شقة أبي على وجه السرعة وذهبت إليه فإذا به يبلغني أنه قد أمضى النهار كله باحثا عن سكن له حتى وجده وأنه قد أحضر المأذون معه إلى شقتنا وهو جاهز الآن للطلاق.

وأذهلتني المفاجأة ولم أستطع أن أنطق بكلمة تراجع وفى لحظة ضاع مني الحلم الجميل وأصبحت مطلقة وجمع زوجي ملابسه وحاجياته وغادر الشقة وهو يكرر علي طلبه بألا تكون المحاكم سبيلا للتعامل بيننا ذات يوم .. وكان هذا هو آخر ما سمعته منه قبل أن يغيب وراء الباب.

وما أن خرج حتى انفجرت دموعي كالسيل الجارف.. فلم تمض أيام حتى أحسست بأني حامل, وتذكرت أمنية زوجي القديمة في أن يكون له ولد يسميه "أسامة" وتمنيت أن يحقق له الله هذه الأمنية وإن كنت لا تصور أن تتحقق وكل منا فى مكان بعيد عن الآخر.. حافظ زوجي لى التزامه بإرسال ربع مرتبه لي ى بداية كل شهر وسعى صديق للعائلة فى الصلح بيننا فلم يوفق فى ذلك.

 

وجاء موعد الولادة فوضعت مولودا بالفعل وأسميته بالاسم الذى اختاره زوجي من قبل .. وبعد عام ونصف العام من طلاقي سافر زوجي للعمل في إحدى الدول العربية وحافظ على إلتزامه بإرسال نفقة الأولاد الشهرية لي ثم رجع من غربته بعد أربع سنوات وقد تحسنت ظروفه الماليه كثيرا, وبعد عودته بسته شهور بلغت ابنتنا الكبرى سن الثانية عشرة فطلب زوجي ضمها إليه حسب اتفاقنا الودي معا قبل الطلاق وتدخل الصديق الذى حاول التوفيق بيننا من قبل وسأله كيف سيستطيع رعايتها وهو يعيش وحيدا.. فأجابه بأنه سوف يتزوج خصيصا من أجلها لكي ينشئ لها بيتا وأسرة ترعاها, فسأله الصديق ولماذا لا ترجع إلى أسرتك الطبيعية وهي أحق بك وبوجودك بين أبنائك؟ .. فرفض ذلك بإصرار وتدخل خال أمي في الأمر والتقى بزوجي وحدثه طويلا عن خطورة تفكك الأسرة على الأبناء نفسيا وتربويا ..إلخ .. فقبل زوجي العودة إلي بشرط واحد هو أن يعيش كل منا منعزلا عن الآخر تحت سقف الشقة وأقنعني أهلي بقبول هذا الشرط مؤكدين لي أن الأيام وحسن المعاملة كفيلان بإذابة جبل العزلة الذى بيننا.. ورجع زوجي إلى الحياة معنا بالفعل وفرح الأبناء بعودته فرحا طاغيا وهو يعاملهم أفضل معاملة ويعاملني باحترام صامت.. ويلقى من الجميع فى أسرتي عظيم الاحترام.

لكن الأيام مضت يا سيدي و"جبل الجليد" الذي تصورت أنه سيذوب بالعشرة مازال قائما بيني وبينه رغم جميع محاولاتي معه بالإغراء تارة وبالحوار تارة أخرى, وحين قلت له أن الله لا يرضى بذلك أجابني بأنني قد وافقت منذ البداية على هذا الوضع وأنه بهذا ليس آثما.

لقد مضى على رجوع زوجي إلينا عام كامل وهو مازال على موقفه مني لم يتزحزح عنه قيد أنملة.. وهو رجل مستقيم وفاضل ويعرف حقوق ربه والناس .. لكني أكاد أجن وأتمزق فى داخلي .. فماذا أفعل يا سيدي؟ هل أطلب الطلاق مرة أخرى علما بأن أبنائي سعداء للغاية بوجود أبيهم بينهم .. أم أصبر وأتحمل هذا العذاب الذى يفوق طاقة البشر؟ .. أم أترك لك أن تخاطبه بكلماتك الهادئة الرصينة وهو من قرائك .. لعل الله يهديه ويعود إلى زوجته التى تحبه وتتمنى أن تفعل أى شئ لارضائه؟

 

ولــكــاتـــبة هـــذه الـرسـالـة أقـــول:

 

تذكرت وأنا أقرأ رسالتك هذه ما كتبه ذات يوم الأديب الفرنسي الراحل ألبير كامي في روايته العبقرية "سوء تفاهم" حين قال: " لو أن كلمة واحدة قد قيلت لما وقعت الجريمة " بل أن يخيل إلي في كثير من الأحيان أن نسبة كبيرة من أسباب الشقاء الإنساني إنما تنجم عن عجز البشر أو ترددهم أو ترفعهم عن أن يقولوا الكلمة الصحيحة التى تعبر عن رغائبهم الحقيقية فى الوقت المناسب.

ويبدو أن هذه العبارة الجميلة تنطبق على قصتك إلى حد كبير يا سيدتي فلو أنك قد استطعت مغالبة كبريائك حين جاء زوجك بالمأذون فى منتصف الليل وبادرته بتراجعك عن رغبتك فى الطلاق وبالاعتذار له عما تسببت له أنت وأسرتك فيه من آلام وجراح واهانات غائرة كما استقر الرأي فيما بينكم قبل رجوعه .. لو كنت قد فعلت ذلك لتجنب كل هذه الآلام ولأعفيت أبناءك وأعفيته هو أيضا من كثير من المعاناة.

لكن متى عرف الإنسان شجاعة الاعتذار وشجاعة البوح برغائبه الحقيقية فى موضع الاختيار ؟

 

إن المؤسف حقا هو أن تتبدد أوقات ثمينة من العمر فى الكبرياء الزائف الذى يحول بين الإنسان وبين ما يريده فى قرارة نفسه وفى العجز عن التراجع عن الخطأ فى الوقت المناسب, وفي انتظار أن يبادر الآخرون بأن يعرضوا عليه ما يريده هو فى أعماقه ويترفع عن المبادرة بطلبه عنادا مع نفسه أو مع الآخرين.

ولا شك أن قد أخطأت وأخطأت أسرتك كثيرا فى حق زوجك خلال أزمة الوشاية العجيبة هذه, بغض النظر عن براءة زوجك منها أو حتى إدانته فيها, فما هكذا كان ينبغي لأسرتك أن تتعامل معه من البداية بشأنها, وما كان لك أن تنساقى مع انفعالات أبويك وشقيقك وتتخذي منه هذا الموقف الخاطئ منذ البداية, إذ أنه حتى لو كنت قد عجزت عن اتخاذ الموقف الصحيح الوحيد الذى يليق بك فى هذه الأزمة.. وهو موقف الدفاع عن زوجك والإيمان فى أعماقك ببراءته من هذا الاتهام إستنادا إلى معرفتك الوثيقة به وبأخلاقياته ومثالياته التى تتحدثين , فلقد كان أضعف الإيمان هو أن تتخذي فيها موقفا محايدا لا ينحاز لأحد الطرفين ولا يرهن سعادة أطفالك واستقرار حياتك الزوجية على تطورات الأزمة أو تداعيها ناهيك عما تعترفين به فى رسالتك من اهمالك لشئونه الشخصية فى قمة الأزمة ومعايرتك له بما يجرح كرامته كرجل, ثم أخيرا مطالبتك له بالطلاق وابلاغ أهلك بذلك مما شجع أباك على معاملته بقسوة ومطالبته له بإنفاذه على الفور ومغادرة البيت حتى هام على وجهه باحثا عن مأوى آخر ولم يعد إليك إلا مصطحبا المأذون!

 

إن هذا هو جبل الجليد الحقيقى الذى يفصل بينك وبين زوجك الآن .. فإحساس الرجل بخذلان زوجته له وتخليها عن مساندته فى أصعب الظروف ومن أجل موقف عائلي يحتمل الخطأ والصواب احساس مرير للغاية يشعره بهوانه على شريكة عمره وأم أطفاله وبعبثيه كل ما يربطه بها من روابط ولقد ضاعف من مرارة هذا الاحساس لدى زوجك أنكما قد تزوجتما بعد قصة حب جميلة وأنه كان عشيرا طيبا ومتدينا ومهذبا ورقيقا معك طوال سنوات الزواج .. فكيف انقلب في نظرك فجأة إلى إنسان سئ على هذا النحو؟

إن هذا الاحساس المتأصل بمرارة الخذلان لا يختفي من نفس الرجل بمجرد الاتفاق على استئناف الحياة الزوجية مع زوجته رعاية لمصلحة الأبناء وإنما يذوب هذا الاحساس ويختفي تدريجيا حين يلمس الرجل ندم زوجته الصادق على موقفها الخاطئ منه وحين تعبر له عن هذا الندم بكل وسيلة ممكنة وأولها الاعتذار بشرف وشجاعة له.. وحين تشعره بأن حبها له قد استعاد عافيته القديمة بعد هذه المحنة العابرة رغبة فى شخصه هو كزوج وحبيب وشريك عمر وليس فقط رغبة فى تهيئة الحياة الطبيعية لأبنائها منه.. ففي هذه الحالة فقط يبدأ الرجل فى الاستجابة لنداء الحب الصادر إليه من زوجته .. ويتجاوز عن مرارته القديمة وينساها.

فهل فعلت شيئا من ذلك مع زوجك يا سيدتي؟.. أم ما زلت أسيرة لذلك العجز البشري القاتل عن قول الكلمة الصحيحة المطلوبة فى الوقت المناسب.. إنني أرجو أن تكوني قد فعلت كل ذلك مرارا وتكرارا وأن تصبري أيضا على زوجك حتى تختفى مراراته السابقة فجبال الجليد التى  تتكتل خلال فترات طويلة جدا لا تذوب فجأة حين تتلقى أول شعاع من أشعة الشمس وإنما تستجيب "للحرارة" تدريجيا وخلال فترة كافية من الزمن لا تلبث بعدها أن تتحلل وتصفو المياه وتزول العوائق.

أما زوجك فإني أدعوه إلى ألا يكرر خطأك القديم معه وألا يبدد أوقات العمر الثمينة فى الكبرياء واجترار المرارات.. والعجز عن النسيان فالحياة بصفة عامة والحياة الزوجية بصفة خاصة تتطلب من الإنسان ذاكرة ضعيفة لا تعلق بها المرارات طويلا وإلا فسدت علينا أوقاتنا وعجزنا عن احتمال الحياة.

وأنت فارس نبيل فى أخلاقياتك ومثالياتك يا صديقي.. وقد قبلت العودة إلى أسرتك واستجبت لنداء الحكمة وتغليب مصلحة الأبناء حين دعيت إلى ذلك وليس يليق بفارس مثلك أن ينكص عن أداء بعض مسئولياته تجاه من يتحمل مسئوليتهم أمام الله والناس حتى ولو كانت شوائب الأحزان مازالت عالقة بقلبه.. والحياة الزوجية كما تعلم جيدا ليست مجرد جوار فى المكان وإنما هي شراكه نفسية واجتماعية وعاطفية واشباع مطلوب وضروري لكل الاحتياجات الانسانية لطرفيها.. فأقبل يد زوجتك الممدودة إليك بالحب والندم والرجاء يا صديقي واعتبر رسالتها هذه اعتذرار مفتوحا لك عن كل أخطاء الماضي ودعوة صادقة لفتح صفحة جديدة من الحب والعطاء المتبادل بينكما بإذن الله .. وعفا الله عما سلف.

 
     نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ابريل 1995

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات