ولا مؤاخذة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1983



 

ولا مؤاخذة ..رسالة من بريد الجمعة عام 1983

ولا مؤاخذة ..رسالة من بريد الجمعة عام 1983


 أحسست أني انتقلت إلى عالم غريب من أول سطر قرأته في هذه الرسالة .. إن كاتبها هو موظف في الأربعين من عمره زوج وله 4 أولاد يعيش في شقة قديمة بحي شعبي مع أمه وأخته  ، وهو ككثيرين غيره يعاني من عجز مرتبه المحدود عن الوفاء بمتطلبات "القبيلة" كما يسميها .. لكن تفكيره لحل مشكلته المادية قادته إلى طريق غير مألوف فماذا فعل ؟ .. سأترك رسالته تروي قصته وتنقلكم معي إلى هذا العالم الغريب .

 

 فكرت أن اكتب إليك بعد أن قرأت قصص الكفاح التي تنشر وتشيد في تعليقاتك عليها بكفاح أصحابها .. وتحاول بكلماتك أن تأسو جراحهم . وإن كنت لا أتوقع أن تشيد بكفاحي .. ولا أن تطيب خاطري بكلمات رقيقة فالحق إني أخجل مما سوف أحكيه لك لكن ما باليد حيلة فلقد اضطررت إليه ، وقصتي أني تدرجت في الوظيفة بمؤهل متوسط إلى أن وصل مرتبي إلى حوالي ۸۰ جنيها .. سوف تقول إنه مرتب معقول .. وسأقول لك بل هو أكثر من معقول لكن كيف يكفي هذا المرتب للانفاق على أم وزوجة وأخت عانس في كفالتي وأبناء ثم على الزوج نفسه . وكيف يكفي وحده بلا أي مورد آخر لنا لتعليم 4 أبناء في المدارس من كتب إضافية و كراريس وملابس وأحذية .. ومصروف يومي .. وأجور للمدرسين الخصوصيين .. فإذا احتاجت زوجتي إلى فستان اسودت الدنيا في وجهي وإذا احتجت أنا إلى بدلة كل عامين احترت واحتار دليلي وإذا احتاجت والدتي وأختي إلى ملابس دخت من هول الصدمة .. وإن كانت بطاقة الكساء الشعبي تخفف عني بعض هذا العذاب ، سألت نفسي مرة ما معنی حیاتي ؟

 

إنني أمضي يومي في العمل لا أستطيع أن أنفق فيه أكثر من ثمن ۲ ساندوتش وكوب من الشاي و3 أو 4 سجائر .. ثم أعود إلى بیتی مشحونا في الأوتوبيس منهكا و کارها للدنيا .. فأمضي باقي اليوم في البيت لأني عاجز عن إنفاق أي قرش خارجه .. ويكفي أن أقول لك أن بواب العمارة التي أسكن بها اشتری التليفزيون الملون قبل أن اسمع أنا عن التليفزيون الأبيض والأسود وأن أولادي كانوا يتسللون إلى غرفته ليتفرجوا مع أولاده على هذا الاختراع العجيب ورغم ذلك فأنا موظف "بیه" في عملي أرأس 6 موظفين وأقضي في مصالح الناس كل يوم ولأني "پيه" ، فلا استطيع أن افعل ما يفعله البواب .. إذ لا استطيع أن اقبل بقشيشا من أحد .. كما يفعل لأني بيه لكن غلبان وهذه مصيبة طبقة الموظفين من أمثالي .. وفي كل ضائقة كانت تمر بي لم أكن أجد من يقبل إقراضي إلى حين ميسرة سوى صديق طفولة قديم يسكن في باب الشعرية توقف عن الدراسة منذ الابتدائية واندمج في أوساط الموسيقيين وعمل معهم عازفا على الطبلة.. أي "طبالا" ولا مؤاخذة .. كنت أزوره بين حين وآخر فيفرح بزيارتي جدا ويقدمني لأصحابه بفخر فلان بيه رئيس أقسام كذا بمصلحة كذا .. وكنت أميل عليه واسأله قرضا فيقدمه لي بسماحة ويصبر علي حتى يأتي الفرج وارده إليه .. والفرج هنا هو منحة من الحكومة في مناسبة من المناسبات وخلال متاعبي فكرت في أن أجد حلا لمشكلتي بالعمل بعد الظهر لكن ماذا يستطيع موظف كتابي مثلى أن يعمل وهو لا يعرف أحدا من أصحاب الشركات !

 

وفي إحدى المرات.. كان الحال قد ضاق بي إلى أقصى حد فتوجهت إلى صديقي في باب الشعرية .. وشكوت له همومي .. فبادرني باقتراح غريب : ولماذا لا تعمل معنا يا سید فلان ؟ .. قلت وماذا استطيع أن اعمل ؟ وببساطة شديدة قال لي لقد تركنا عازف " الصاجات" أمس وطلبت مني الست "راقصة درجة أولى يعمل معها" أن احضر لها "نفرا" غيره الليلة ضروري ، قلت : كيف .. وأنا لا اعرف شيئا عما تقول .. قال لي .. المسألة بسيطة جدا .. ستمسك بهذه الصاجات هكذا وتدق بها هكذا .. وسأكون بجوارك وأرشدك إلى ما تفعل .. وهو عمل هين وسوف تقبض عنه 5 جنيهات كل ليلة تعمل معنا فيها .

 

ولا أطيل عليك .. قبلت العمل .. واستعرت منه بدلة سوداء وفي المساء ذهبنا مشيا على الأقدام إلى ميدان التحرير ووقفنا أمام أحد المقاهي المعروفة فيه .. وفي الحادية عشرة جاء میکرو باس فاخر فحملنا مع غيرنا من العازفين إلى احد ملاهي الهرم .. فكل راقصة تملك سيارة ميكروباس تنقل فرقتها من وسط المدينة إلى الهرم وتعيدهم إلى ميدان التحرير آخر الليل حيث يتفرقون إلى مساكنهم وبعضهن يملكن سيارات أتوبيس سياحية وجاءت اللحظة الرهيبة ولبست الصاجات ووقفت بجوار صديق الطفولة وكلما أشار إلي بعينه .. أدق بالصاجات حتى يشير لي مرة أخرى ! .

وبدأت هذه المرحلة الغريبة من حياتي .. قلت لزوجتي إني وجدت عملا في حسابات مطعم من مطاعم الهرم .. وحين أقف على مسرح الملهى أضع على عيني نظارة سوداء . ثم البس الصاجات وأدق ! ولا تسلني عن شعوري وأنا افعل ذلك .. والحمد لله فإن رواد الملاهي التي تعمل فيها ليسوا من عالمنا بالرغم من أن 98% منهم من المصريين .. لكنهم ليسوا المصريين الذين اعرفهم في عملي ولا في وسطي الاجتماعي .

 

وعرفت الشبع بعد الجوع شبه الدائم وعرف أولادي التليفزيون الأبيض والأسود وأصبحت ألبي مطالب أمي وأختي وزوجتي .. فأنا اكسب من هذا العمل حوالي ۱۲۰ جنيها كل شهر لكني حائر وخائف .. خائف أولا من انفضاح أمري في المصلحة الحكومية التي اعمل بها والذي قد ينتهی بفصلي من الخدمة وحائر لأني غير راض عن نفسي فهل أجد حلا آخر لمشاكلي في رأيك ؟.

 
 *****

الحق أن كاتب هذه الرسالة قد وضعني في مأزق لم أجربه من قبل .. إذ لا استطيع أن أوافقه على ما صنعه في ضوء اعتبارات الوظيفة وما يليق وما لا يليق وفي ضوء الاعتبارات الدينية والأخلاقية العامة .. ومن ناحية أخرى لا استطيع أن أدين تصرفه تماما في ضوء الظروف الاجتماعية القاسية .. وفي ضوء قانون الضرورات التي تبيح المحظورات بل وفي ضوء كلمة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري منذ 14 قرنا : عجبت للرجل لا يجد قوت عياله .. كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه .. وهو في النهاية لم يشهر على أحد سيفه .. ولم يسرق ولم يرتش .. ولم يقتل .. فماذا أقول له ؟ قد أقول له لماذا لم تجهد نفسك في البحث عن طريق آخر غير مكروه أو لماذا لم تشتر مرتبك كله ماكينة خياطة مستعملة تعمل عليها زوجك وأختك فتساهمان في تكاليف الأسرة لكني على أي الأحوال اعرف تماما أنه ليس المعزی کالثاكل وأن كلمات النصح والإرشاد سهلة لكن الحياة شديدة الوعورة !

تنويه

تم تنفيذ فكرة الرسالة في فيلم حد السيف 
الفيلم انتاج سنة 1986 بطولة الفنان محمود مرسي

تعقيب قراء بريد الجمعة على الرسالة 

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1983

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات