جمال الذكرى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
أنا فتاة في الثانية
والعشرين من عمري ..قرأت رسالة (الثمن الفادح) للأستاذة الجامعية التي تشكو تحملها
وحدها مسئولية رعاية والدها المسن المريض مما أثر في حياتها الزوجية، ومن عدم
مشاركة أخواتها لها في تحمل هذه المسئولية والتخفيف عنها .
ولقد أثارت هذه الرسالة شجوني
لأنني نشأت في أسرة متوسطة الحال ومتدينة إلى حد كبير .. ومنذ صغرى تعودت على أن
أسمع من أبي توجهاته عن الحرام والحلال ، وما يجوز لنا أن نفعله في حياتنا وما لا
يجوز .. ولأنني أصغر إخوتي فلقد كان أبي موقناً في أعماقه أنه لن يكمل معي الطريق
وأنه سوف يتركني أستكمله وحدي من بعده.
فنشأت بيني وبينه علاقة حب
عميق وفهم صادق .. فكان يشعر دائماً بما أشعر به من ضيق أو حزن ولا يدعني حتى يسري
عني ويعيد البسمة إلى وجهي .. وإذا خرجنا معاً راح يتحدث معي كصديق ويصارحني بما
يشغله، أو يضايقه فمضت بنا الأيام وحبه ينمو في قلبي ويمتزج بالإعجاب والفخر بهذا
الأب الذي ظل يكدح أربعين سنة ويعطي ويرعى ويحب من حوله ناسياً نفسه، إلى أن بدأ
المرض يدب في جسمه، وبدأت أيدي الأطباء، تتداوله وكل منهم يفتي برأي مختلف عن
الأخر، وحالة أبي تسوء يوما بعد يوم، إلى أن عرض نفسه على طبيب كبير بالقاهرة
فأكتشف أصابته بالمرض اللعين ووصف له العلاج الصحيح وتحسنت حالته بعض الشىء،
وتماسكنا نحن لكي نخفف عن أبي وقع الصدمة ..والتففنا حوله نحيطه بالحب والرعاية
والدعاء .. وفى كل صباح أدخل عليه غرفة نومه وأنا متوجسة لأرى إذا كان يتنفس أم لا
.. وأسأله هل يريد شيئاً .. وأتأمله بعض الوقت وأسمع إجابته الحبيبة أنه لا يريد
إلا سلامتي، وأخرج للجامعة وأرجع ملهوفة لأطمئن عليه، وأتبادل مع أختي تعليق
الجولوكوز له .. وأتجنب النظر إلى عينيه لأنني لا أحتمل دموعه التي تنساب بغزارة،
وأدخل عليه وهو نائم عشرات المرات أنظر إليه وأتفحصه وكأني أراه للمرة الأولى ..
أو كأنني أريد أن أشبع عيني من وجهه بعد أن أشبع هو قلبي بحبه .
وكم كانت تبلغ بى
السعادة حين أؤدي له شيئاً يطلبه أو أنجح في إدخال السرور إلى قلبه الحزين أو أرسم
الابتسامة على شفتيه، إلى أن جاء اليوم الأخير وجلست إلى فراشه أطعمه بيدي لأول مرة
في حياتي، وفى ليل هذا النهار رحل أبى – رحمه الله – عن الحياة ودخلت غرفته فرأيته
يبتسم ابتسامة صافية جميلة وهو بين يدي خالقه فقبلت جبهته ودعوت له ربى بأن يتقبله
بقبول حسن ويعوضه في رحابه عن كفاحه وعطائه لأسرته وأبنائه.. وواجهت الحياة من
بعده وحيدة .. أسير في الطريق (فأراه) يمضي إلى جانبي يحدثني ونضحك معا .. وأرى
فراشه خاليا فأشعر بقلبي يعتصره الألم.. وأرى ملابسه في الدولاب فأقبلها وأبكي،
وأراه في كل مكان من البيت كأنما لم يغادره.. وفى أوقات كثيرة يخيل إلي أنه غائب
عنا في العمل وسوف يعود إلى البيت في موعده ويفتح الباب ويلقى علينا تحيته المعتادة.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
الله سبحانه وتعالى وحده هو
من يعلم بعمق عاطفة الحب التي ينطوي عليها قلب الأب لأبنائه خاصة الضعفاء منهم ، فهم
حبه الأبدي والسرمدي الذي لا تنال منه السنون وهو عند الصالحين منهم مع حب الأم
حبهم الأول والأعمق والذي يصوغ وجدانهم ويعلمهم حب الآخرين .
ومن أصدق ما قرأت فى هذا الشأن
ما كتبه الكاتب المسرحي صمويل بيكيث عن أبيه حين قال مخاطبا إياه (إذا لم تحبني
فلن يحبني أحد في الدنيا بأسرها وإذا لم أحبك فلن أحب أحدا أبدا !)- وهى كلمة
عميقة المغزى ، وتنبهنا إلى حقيقة نفسية كامنة في النفس والوجدان هي أن من لا يحبه
أبوه أو لا يستطيع أن يجتذب حب من فطره الله على حب أبنائه ، فلن ينجح غالبا في
الفوز بحب أحد غيره حبا صادقا أبدا، وأن من لا يحب أباه لن يتسع قلبه الذي فطره
خالقه على حب الأبوين لحب حقيقي صادق لأي إنسان من قبلهما أو بعدهما مهما تراءى له
غير ذلك.
ولأن أحب أبناء الأب إليه ،
كما قال العربي الحكيم – هو صغيرهم حتى يكبر ومريضهم حتى يشفى وغائبهم حتى يعود ،
فلقد كنت أنت يا ابنتي بهذا المعيار الرحيم أحب أبناء أبيك له ، لأنك (صغيرهم) الذي
يختلط حبه له بالإشفاق عليه ..والتوجس مما قد يواجهه في الحياة من بعده إن لم يتسع
العمر لحدبه عليه حتى تصل سفينته إلى شاطىء الأمان .. والأب العطوف الصديق هو
دائماً أقرب الآباء إلى قلوب أبنائهم ، وإذا كانت طبيعة الابن تنزع به عند سن
معينة للاستقلال بشخصيته وأفكاره وهواجسه عن أبيه ، وتقيم لديه (تعارضاً) موهوما ،
بين تعبيره لأبيه بالكلمات عن مشاعره العاطفية تجاهه .. وبين ما يحسبه هو من
مقتضيات الرجولة واستقلال الشخصية ، فإن الابنة بطبيعتها الأنثوية تعفي نفسها من
هذا التناقض الموهوم ، ولا ترى بأسا في التعبير عن مشاعرها العاطفية لأبيها وأمها
مهما بلغت عن العمر .. ولقد تستقل مكانياً عنهما ويصبح لها بيت أخر وزوج وأبناء ، لكنها
لا تنفصل عنهما عاطفياً أبداً، وإنما تظل مشدودة إليهما بخيط رفيع من الحنان والعطف
والحب الصادق والاعتمادية النفسية التي تعمق روابط الأبوين معها،وكذلك يفعلان هما
أيضا معها مهما تباعدت بينهما وبينهما المسافات والأزمان ولأن حبها لهما وحبهما
لها هما نبع الحب الأول في قلبها ، فكل حب يطرأ على حياتها هو امتداد لهذا الحب
وليس متناقضاً معه .
ولقد كان الرسول الكريم
(صلوات الله وسلامه عليه) يحب ابنته فاطمة أشد الحب وأعمقه ، ورفض أن يأذن لعلي بن
أبى طالب بأن يتزوج عليها قائلا ما معناه والله لا إذن والله لا إذن .. فإن فاطمة
بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويريبني ما يريبها .
فلا عجب إذن في أن ينطوي قلب أبيك على كل هذا الحب ولا في أن تبادليه أنت ككل ابنة بارة عطوف حبا بحب ، وتفتقدي غياب شمسه عن حياتك .. ومن أحزان الحياة حقا أن تتحقق لنا الأهداف التي سعينا بجد لبلوغها والانتصارات التي كدحنا جادين لتحقيقها.. وقد غاب عنا من كانوا سيسعدون بها أكثر من سعادتنا نحن بها ،أو تجيئنا هذه الأهداف بعد أن رحل عنا من كان النصيب الأكبر من فرحتنا بها سيكون نابعا عن إحساسنا بالرضا عن أنفسنا لأننا قد أسعدناهم بها وأدخلنا الفرحة من أجلنا إلى قلوبهم الحزينة .. فالإنسان لا يسعد بسعادته وحده بالأشياء التي تطلع إليها ، وإنما بسعادة أعزائه الأقربين إليه بها من أجله ، قد يثير الأسى في نفوسنا حين تتحقق لنا بدلا من الابتهاج به حين لا نجد حولنا من نتقاسم معه الفرحة بها ، غير أن هذا الإحساس المرير قد يشعر به الإنسان في نهايات العمر أكثر وليس في بداياته كما هو الحال معك ،ولقد يثير المرارة في نفس الإنسان الوحيد تماما فى الحياة .وليس فى مثل ظروفك التي تحظين بها بنعمة وجود الأم والإخوة والأحباء .. فاستعيني بما غرسه والدك في قلبك من حب له وللآخرين على مواجهة الحياة، ولتكن ذكرى أبيك وأيامك السعيدة معه وفى حياتك العائلية زاداً عاطفياً لك يشد من أزرك ويعوضك عن غيابه عنك.. فإن جمال الذكرى يمكن أن يعوض الإنسان بعض ما يستشعره من وحشة ووحدة بعد غياب الأعزاء .. وشكراً على إعلائك للقيم العائلية الصحيحة وتذكيرك للآخرين بواجباتهم تجاه أعزائهم والسلام ..
رابط رسالة مغيب القمر تعقيبا على هذه الرسالة
شارك في
إعداد النص / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر