مغيب القمر .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

مغيب القمر .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003 

مغيب القمر .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

لو راجعنا مسيرة معظم الآباء الطيبين الذين ملأوا حياة أبنائهم بالحب والدفء والعطاء‏..‏ لكدنا نقول إنهم قد ربوا أبناءهم بالنظر أي بالحب والصداقة والفهم والاقتراب منهم ومراعاة مشاعرهم وتقديرهم وبلا ادنى عنف أو قهر أو إيذاء جسدي او نفسي أو فرض للإرادة فيما يحق للأبناء أن يكون لهم رأي مستقل فيه‏،‏ وأيضا بلا مّن عليهم ولا أذى وبغير إشعارهم بأنهم عبء ثقيل عليهم يترقبون بنفاد الصبر يوم التحرر منه ببلوغ الأبناء سن العمل والكسب‏.‏
ففي النظر أي في التواصل الوجداني بين الآباء الطيبين والأبناء الصالحين ما يغني عن كل ذلك‏.‏
عبد الوهاب مطاوع

أعدت قراءة رسالة قديمة منذ أيام .. كانت بعنوان "جمال الذكرى" فسالت دموعي للمرة الثانية بعد أن بكيت مع هذه الرسالة حين قرأتها للمرة الأولى‏,‏ وفيها تتحدث فتاة فقدت أباها عن مشاعرها وحزنها على أبيها‏,‏ ورددت أنت عليها بأن حب الأب لأبنائه هو الحب الأبدي السرمدي الذي لا يموت‏,‏ وقد دفعتني هذه الرسالة مع رسالة أخرى نشرتها أخيرا لقاريء يتحدث عن فقده لأبيه وتجربته لليتم في خريف العمر‏,‏ فوجدت نفسي أريد أن أتحدث معك ومع قرائك عنه أي عن أبي ‏.

 

‏ فأنا زوجة شابة في السادسة والعشرين من العمر لشاب ممتاز خلقا‏,‏ ولدي ابنة وأنا وزوجي خريجان في إحدى الكليات العملية المرموقة ونمتلك مشروعا يتسق مع مهنتنا ونعمل فيه معا‏.‏
وقد تفتحت عيناي للحياة لأعرف أن أبي الحبيب مريض بالكبد وكنت أخشى دائما خبر موته برغم أنه في طفولتي كان في قمة نشاطه‏,‏ ولم يكن المرض قد تحكم فيه تماما بعد‏,‏ وكان رجلا مرموقا في عمله وبلغ أعلى المناصب الإدارية‏,‏ لكنه في المنزل كان صديقا في مثل سني أروي له عن مدرستي وصديقاتي وأحزاني الصغيرة‏,‏ وكان صديقا لصديقاتي وكن يحببنه واذكر أني كتبت ذات يوم قصة ساذجة وأنا في السنة الثالثة الابتدائية فأخذها وطبعها على الآلة الكاتبة لكي أشعر بأهميتي وناقشني في أحداثها الساذجة باهتمام‏,‏ وكنت أراه في طفولتي بارا بجدي وجدتي لأقصى حد ‏..‏ وكان وهو في أعلى مناصبه ينحني على يد أبيه  ويقبلها ويستشيره في كل أموره بالرغم من بساطة تعليم جدي‏,‏ لو قارنته بأبي‏,‏ وكنت أراه صبورا وحليما مع إخوته الذين لا يصبرون أو لا يصلون الرحم بنفس القدر‏,‏ فكنت اسأله في غيظ لماذا لا تتعامل معهم مثلما يعاملونك؟ فكان يرد إن لكل إنسان سلوكه وأنه لن يستريح إلا إذا تصرف هكذا‏,‏ ولقد كنت متفوقة دراسيا وكان أبي فرحا بي ويستشيرني في كل الأمور ليشعرني بأهميتي برغم أنني لم أكن الابنة الوحيدة له‏,‏ وإنما الثالثة بين أربع بنات كل منهن كان لها لديه ما لي من المحبة والاهتمام‏.

 

وكنت في طفولتي وصباي أتبادل معه الرسائل ونحن في نفس المنزل‏,‏ فأكتب له عن مشكلة وأقرأ رده على في خطاب يسلمه لي أو اكتب له عن حلم رأيته وانتظر تعليقه ولم يكن ينتقص أبدا من شأني أو شأن كتاباتي‏,‏ وإنما شبهني ذات مرة بالفلاح الفصيح الذي كاد الملك ألا يرد على رسالاته ليستزيد منها‏ !!‏ ثم مضت بي الأيام‏,‏ فكان أبي مظلتي التي احتمي بها من العواصف وشريكي في كل حلم حلمت به‏,‏ وكل ألم تألمته وعندما أصبحت آنسة كان يلحظ البثرة في وجهي قبل أن ألحظها وينبهني إلى علاجها ويحضره لي وكان يقف وهو الرجل المرموق لكي يعد لي‏,‏ ولأخواتي‏ "الكبدة الاسكندراني" التي نحبها‏,‏ وكل هذا وهو مريض بدائه المزمن الذي يعاني أحيانا مضاعفاته وأحيانا أخرى يهدأ المرض ويستقر‏,‏ ونحن معه في كل حال إلى أن وصلت إلى الثانوية العامة واستجبت لرغبته في الالتحاق بكلية معينة مرموقة لم أكن أرغبها لكن كانت تكفي رغبته لكي أحقق له ما أراد‏..‏ وكان يضع معي جداول المذاكرة ويهتم بكل شئوني ويعرف كل من أتعامل معهم حتى العامل الذي يحضر لنا الكيماويات في المعمل‏,‏ ثم اشتد عليه المرض ونزف دما والأطباء حائرون لا يعلمون مصدر النزيف وكنت في السنة الثانية الجامعية‏,‏ ودخل المستشفى أكثر من مرة إلى أن اتضح أن لديه كلية مصابة بالمرض اللعين فهل جزع؟ أبدا والله العظيم برغم أن سوء حالته العامة كان لا يشجع الطبيب أصلا على تخديره وإزالة الكلية لكنه كان لا يشكو‏,‏ وكنت تشعر كأنه مريض بالانفلوانزا والصفائح الدموية تقل بنسبة مخيفة ولا يمكن أن تتم العملية دون ارتفاع نسبتها‏,‏ وجريت أنا وأختي نجمع المتبرعين من طلبة الكلية ووفقنا الله ووقف إلى جانبنا الكثيرون‏,‏ ثم تمت العملية ونجحت برغم إرهاصات الفشل‏!!‏

 

وخرج أبي من المستشفى بعد رحلة عصيبة‏,‏ ومن عجيب أن أبي ـ وكلنا بنات كما أسلفت ـ قد خرج من المستشفى وله ابن ذكر‏,‏ وهو مهندس شاب رأى أبي جالسا على مقعده المتحرك وقد تركه العامل المنوط به‏,‏ فإذا بالمهندس يتقدم إليه ويعرض خدماته ويطلب منه أن يعتبره ابنه الذكر‏..‏ ويكون كذلك إلى أن يواري أبي الثري وهو معنا؟‏!‏
وكان هذا المهندس من مهندسي الصيانة بالمستشفى‏,‏ لكنه أضحى عزيزا على قلب أبي‏,‏ وكذا كان طبيب شاب آخر بالنسبة له‏,‏ فكان يأخذ رأيه في حياته الشخصية والعملية لرزانة عقل أبي وسعة صدره وبمجرد خروج أبي من هذه العملية دخلت أنا في أزمة نفسيه حادة وهلاوس أفسرها بالضغط النفسي الشديد الذي تعرضت له خلال مرض أبي‏,‏ فهل تعرف ماذا فعل؟ لقد سخر نفسه لي‏..‏ يطعمني ويصحبني في كل مكان ويسافر بي هنا وهناك ويعرضني على أطباء النفس وعلى الشيوخ‏,‏ وهو الرجل الذي لم تلتئم بعد جراحته‏..‏ وكنت خائفة بشدة من دخول الامتحان لكن أبي كان يقف أمام اللجنة ليطمئنني حتى عرفه الأساتذة ثم أخذ الله بيدي وأخرجني من أزمتي بعد عذاب‏,‏ وواصلت طريقي في الكلية وازداد أبي الجميل نحولا وهزالا وضعفا بسبب المرض ولطالما تمنيت أن نزرع له قطعة من كبدي لكي يعيش مستريحا‏,‏ ثم وصل به الحال إلى أن أصبح طعامه شيئا تعافه الأنفس بلا ملح ولا دسم ولا ليمون ولا بروتين ومع ذلك كان صابرا على البلاء وشاكرا فضل الله عليه‏,‏ وكان وهو في حالته المرضية هذه الخال الذي خطبت إليه بنات أخواته‏,‏ وكان الجد الذي يلاحظ كل شيء يخص أحفاده ـ وكان الأب الحبيب إلى القلب والنفس‏.

 

‏ ولو تركت قلمي لسرد الكثير عنه‏..‏ لكني أصل إلى لحظات رحيله بقلب واجف من  الذكرى فقد هاجمته الغيبوبة‏,‏ ولم نكن نعرف انه في غيبوبة‏,‏ لأنه كان يمشي ويتحرك ويفكر لكن كان لا ينام ورافقناه في رحلته الأخيرة إلى مستشفى عين شمس التخصصي وتناوبنا المبيت معه بالرغم من إرادته‏,‏ كل واحدة يوم وفي يومي تركت ابنتي وكان عمرها خمسة أشهر ونمت على البلاط إلى جواره بعد أن فرشت ملاية على الأرض‏ وأعيش معه لحظات الحقنة الشرجية لإخراج السموم عساه يفيق‏,‏ وأعيش معه آلامه التي فاقت الاحتمال وإحساسه اليقيني بالنهاية ونظرات الأطباء لا تحمل إلا اليأس حتى لتطلب إحدى الطبيبات إخراجه ليموت في بيته فيرفض طبيبه المعالج ويصمم على بقائه لتقديم الرعاية له‏,‏ ثم يأتي يوم النهاية في حياته الجميلة وأكون إلى جواره أنا وأختي وهذا المهندس الذي أشرت إليه وتتدهور الحالة للغاية وأصلي الضحى وأدعو ويتقيأ أبي دما ثم ينقل إلى الرعاية المركزة وأقف أنا وأخواتي كالأصنام على الباب وفي ذهني كلمة لا افهمها غمغم بها أبي قبل دخوله الرعاية إذ قال لي‏:‏ لا تصدقي حين يقال لك إنها مسألة أيام‏,‏ وقمت إلى الطبيب أسأله عما يتوقعه لأبي فقال لي‏:‏ إنه سيموت خلال أيام‏,‏ لكن أجمل ما في الحياة أنه رحل بعد ساعات كما أراد أن يقول لي‏,‏ ودخلت عليه كالمذهولة ورأيته في موته جميلا رقيقا رغم أنابيب التنفس الخارجة من فمه فأقبله وأقول‏:‏ إلى الجنة ونعيمها يا أبي‏,‏ ثم أقبل بطنه المنتفخ وقدمه الحبيبة ويكون هذا أخر عهدي به وتظلم الحياة في وجهي وتساورني الوساوس والشكوك.

 

 والآن فإني اطلب منك أن تقول لكل ابنة وابن حافظوا على الأب والأم فلحظة الوداع مخيفة ‏..‏ مخيفة وحين يرحل الأب ترحل معه أشياء كثيرة ‏..‏ مكانتك عند الناس‏,‏ والمظلة التي تحميك‏,‏ الأمطار‏,‏ والرداء الذي يحميك من الصقيع‏,‏ والابتسامة التي تبدد حزنك‏,‏ فقد انطفأ قلبي منذ رحل أبي ولم اعد ابتهج لشيء كما كنت ولم اعد أحزن أيضا لشيء بشدة‏,‏ أزور قبره أدعو له في كل سجدة وأصلي صلاة قضاء الحاجة  يوميا‏,‏ فأدعو الله ـ وهذه حاجتي ـ أن يغفر له وأخرج له الصدقة لعل الله يتقبل مني وامضي في الحياة ولم يعد فيها من يهمه أمري إلا بقدر ما أقدم له من عطاء بعكس أبي وأملأ المنزل بصوره وأذكره كل يوم وأبتهل إلى الله أن ألقاه في جنته‏,‏ فأرجو أن تدعو لأبي بالرحمة أنت وقراؤك وان تكتب لكل ابن أن يحافظ على مظلته قبل أن ترحل عنه‏..‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

معظم الآباء الذين يخلفون وراءهم أعظم الأثر في وجدان أبنائهم‏,‏ ويحفظ لهم الأبناء دائما أجمل الذكرى‏,‏ يمكن أن ينطبق عليهم قول القطب الصوفي أبي الحسن الشاذلي نحن كالنعام التي تربي أبناءها بالنظر‏,‏ إذ يقال أن النعامة لا ترقد على بيضها‏,‏ وإنما تحتضنه بالنظر إليه باستقامة وثبات فتنبعث من عينيها حرارة تسهم في إنضاج البيض‏,‏ فإذا تعبت جاء ذكر النعام ووقف مكانها بنفس الطريقة لا يلتفت يمنة ولا يسرة فإذا فعل خفت الحرارة وبرد البيض‏,‏ وعن ذلك فعلت بعض الكنائس عادة وضع بيضه النعامة في المحراب لتوحي للمصلين أن الصلاة لا تقبل إذا اعترى المصلي أي التفات أو انحراف‏..‏
ولو راجعنا مسيرة معظم الآباء الطيبين الذين ملأوا حياة أبنائهم بالحب والدفء والعطاء‏..‏ لكدنا نقول إنهم قد ربوا هم أيضا أبناءهم بالنظر أي بالحب والصداقة والفهم والاقتراب منهم ومراعاة مشاعرهم وتقديرهم وبلا ادني عنف أو قهر أو إيذاء جسدي او نفسي أو فرض للإرادة فيما يحق للأبناء أن يكون لهم رأي مستقل فيه‏,‏ وأيضا بلا مّن عليهم ولا أذى وبغير إشعارهم بأنهم عبء ثقيل عليهم يترقبون بنفاد الصبر يوم التحرر منه ببلوغ الأبناء سن العمل والكسب‏.‏

ففي النظر أي في التواصل الوجداني بين الآباء الطيبين والأبناء الصالحين ما يغني عن كل ذلك‏.‏

ولهذا يفتقد الأبناء أمثال هؤلاء الآباء حين يرحلون عن الحياة بشدة‏,‏ ويشعرون بالفعل كما أشرت في رسالتك بأن المظلة التي كانت تحميهم من لهيب الشمس وصواعق السماء قد رفعت عنهم‏..‏

وما يقال عن الأب الصالح يقال أيضا عن الأمهات الطيبات اللاتي يتواصل عطاؤهن لأبنائهن من قبل مجيئهم للحياة و إلى اللحظة الأخيرة من حياتهن‏,‏ فعسى أن يدرك بعض الأبناء الشاردين أي خير عميم يرفلون فيه وهم في ظل آبائهم وأمهاتهم‏,‏ وعسى أن يحرصوا علي إرضائهم وإسعادهم ورد الجميل إليهم قبل أن تغيب شموسهم وأقمارهم ذات يوم وراء السحاب‏.‏

رابط رسالة جمال الذكرى

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات