الثمن الفادح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
قد تكون مشكلتي
هذه غير مألوفة بالنسبة لطبيعة رسائل البريد ، ولكنها موجودة على أي حال في كثير
من البيوت المغلقة ولا يجرؤ أحد على المصارحة بها.
فأنا يا سيدي عضو
هيئة تدريس بإحدى كليات القمة بالأقاليم ، وعلى قدر كبير من التدين والتمسك
بتعاليم الدين وقد شاء حظي أن أكون أكبر إخوتي وأن أكون البنت الوحيدة وسط أربعة
ذكور ، ولن أطيل عليك فقد أصاب العجز والشيخوخة أبي وأمي حتى صارا قعيدين لا
يستطيعان أن يخدما نفسيهما ..
واستقطعت جزءًا من
وقتي أقضي لهما فيه مصالحهما وأعطيهما الدواء وأشتري لهما الطلبات التي يحتاجان إليها
، وقد توليت هذه المسئولية وحدي لوجودي معهما في نفس البلد ، أما إخوتي الذكور فهم
يقيمون في محافظات أخرى لظروف العمل.
ثم حدث أن مرض
والدي مرضًا شديدًا استدعى نقله للمستشفى لفترة لا يعلم نهايتها إلا الله ، ونظرًا
لشيخوخة والدتي وعدم استطاعتها البقاء معه كمرافق في المستشفى .. توليت أنا هذه
المسئولية عن اقتناع تام بمسئوليتي نحوه واضطرني ذلك إلى الغياب عن بيتي كثيرًا
ومبيتي كل ليلة في المستشفى بجواره ، حتى مضت الأيام بطيئة ووالدي لا يتحسن ،
وإخوتي الذكور يحضرون من مدنهم زائرين أقرب منهم إلى أن يكونوا مشاركين في تحمل
مسئولية والدهم ، فأثار ذلك حفيظة زوجي وبدأ شيئًا فشيئًا يتبرم من إلقاء
المسئولية كلها على عاتقي وحدي وبدأ يحدثني عن أن إخوتي يتهربون ، ويتعللون بأن
ظروف العمل والغربة لا تسمح لهم بأكثر من إجازة عارضة لا تزيد على يومين ، ووجدتني
عاجزة عن تلبية مطالب بيتي وإرضاء زوجي وخدمة والدي الذي أعجزه المرض عن الحركة
فصار ثقيلًا في الوزن ، ويحتاج لمن يحمله ، لكي يرتدي أو يغير ملابسه أو يستحم أو
لكي يجلس ليتناول طعامه وأنا على مشارف الخمسين من عمري ، ولا أملك هذه القوة لكي
أحمله وأنقله من مكان لآخر حتى أصابني ألم في أسفل الظهر أبكي منه كل مساء قبل
النوم .
وقد أغضب ذلك زوجي
وثار ثورة عارمة ضد إخوتي وطالب بأن يتناوبوا خدمة أبيهم ، لأن لهم من القوة
الجسمانية ما يجعلهم يتحملون مثل هذا النوع من الخدمة ، فتعللوا بأنهم لا يعرفون
أصول خدمة المرضى وبظروف العمل .. إلخ.. وبدأت زوجات الأخوة يمارسن ضغوطًا خفية
لاستعادة أزواجهن سريعًا كلما حضروا لزيارة والدي ، وتعقدت الأمور تمامًا بيني
وبين زوجي وإخوتي ، إنني يا سيدي أخدم والدي بنفس راضية أملًا في ثواب الله .. غير
أن حالته قد تدهورت إلى حد لم يعد معه يتحكم في الإخراج مما يسبب لي حرجًا شديدًا
كابنة له عند تنظيفه ، وقد تأثرت أسرتي بسبب انشغالي عنهم بخدمة أبي وظهر أثر ذلك
في نتائج امتحانات أبنائي لسوء حالة البيت ونقص الضروريات وقذارة المطبخ والحمام
إلخ .. وإنني أسألك يا سيدي هل خدمة الوالدين المسنين مسئولية الإبنة وحدها لأنها
أقدر على ذلك من الأبناء الرجال ؟ وهل يقتصر دور الإبن فقط على دفع فواتير العلاج
وكتابة النعي في صفحة الوفيات واستقبال المعزين ثم الوقوف في ساحة المحكمة
لاستخراج إعلام الوراثة لينالوا ضعف نصيب الأنثى من الميراث ؟
إنني مشتتة وزوجي
غاضب ويطالبني بمقاطعة إخوتي ، وأمي وهنت صحتها وإرادتها ولا تستطيع أن تقوم بدور
إيجابي في هذه المشكلة فماذا أفعل ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
من المؤلم حقًا أن
يتحول الأب المسن إلى "عبء" يختلف الأبناء حول تحديد مسئوليته .. ومن
منهم يتحمله دون الآخرين أو بالمشاركة معهم ، ولقد تذكرت وأنا أقرأ رسالتك هذه
كلمة معبرة لجوناثان سويفت مؤلف رواية رحلات جاليفر الشهيرة يقول فيها إن
"هبة العمر الطويل تشترى بثمن بالغ الفداحة" .. ولقد قالها الأديب
الإنجليزي متشكيًا من فقد الأعزاء والأحباء وحزنه عليهم واحدًا بعد الآخر خلال
رحلة عمره التي بلغت 78 عامًا ، فماذا كان عساه أن يقوله لو علم أن "الثمن
الفادح" لا يقتصر فقط على هذا الجانب العاطفي ، وإنما يشمل كذلك عبء الخدمة
والرعاية لمن يعجزه الكبر والمرض عن خدمة نفسه ، ولمن ينطبق عليه قول الحق سبحانه
وتعالى : (ومن نعمره ننكسه في الخلق) ، وعفوًا يا سيدتي لهذا الشرود عن صلب مشكلتك
فلقد أثارت رسالتك تأملاتي عن أحوال البشر .. ولعلي أقول لك بعد ذلك ، إن خدمة
الآباء والأمهات المسنين واجب ديني وإنساني على كل أبنائهم على السواء .. كل بما
يستطيعه من جهد أو رعاية أو مال ، ولقد كان من المنطقي أن يقع عليك العبء الأكبر
في خدمة الأب المريض والأم المسنة ، ليس لأن خدمة الآباء والأمهات هي مسئولية
البنات دون البنين ، وإنما لأنك الوحيدة التي تقيمين معهما في نفس المدينة وبقية
الإخوة مشتتون بين البلاد ، غير أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها من ناحية أخرى ،
وما دمت تنوئين بهذه الخدمة وحدك وتستشعرين الحرج كابنة في بعض شئون هذه الرعاية ،
ويضيق زوجك بانفرادك بهذه المسئولية دون بقية الإخوة ويتذمر ، فلا مجال للمناقشة
النظرية حول على من تقع مسئولية رعاية الآباء والأمهات في الكبر ، ومن واجب إخوتك
في مثل هذه الحالة أن يبذلوا كل ما يستطيعون من جهد لتخفيف هذا العبء عنك وعن
أسرتك ، كأن يتناول كل منهم رعاية الأب لأربعة أيام مثلًا كل شهر ولو اضطروا
لتجميع راحاتهم الأسبوعية وتقسيم رصيد إجازاتهم السنوية على الشهور المختلفة
ليستطيع كل منهم قضاء بعض الوقت مع أبيه وأمه إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا
، ولكي يتوافر لك أنت من الوقت ما تمنحيه لزوجك وبيتك وأبنائك حتى ولو تطلب الأمر
الاستعانة بممرض خاص يعين الجميع على رعاية الأب المريض.
والمشكلة في النهاية ليست مستعصية على الحل إذا
توافرت روح التعاون والتضحية والعطاء لدى الجميع ، بمن فيهم زوجك الذي ينبغي له أن
يبدي قدرًا أكبر من التفهم لظروفك ومسئوليتك تجاه أبويك في هذه المرحلة من العمر ،
وليتذكر جيدًا أنك تضربين المثل لأبنائه هو في البر بالأب ورعاية حقوقه عليهم ،
وتحمل العناء من أجله .. فليكن إذن أكثر فضلًا ونبلًا من أن يحرضك على قطع صلة
الرحم بينك وبين إخوتك حتى ولو تقاعسوا بعض الشئ عن مشاركتك في العبء الذي تشتكين
منه ، فقطع الرحم إثم فادح ولا يجوز لزوجك أن يوردك مثل هذا المورد الذي يعرضك
لغضب ربك وينقص من أجرك عنده على برك بأبويك ورعايتك لهما في الكبر والسلام .
رابط رسالة جمال الذكرى تعقيبا على هذه الرسالة
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر