الغرف الخالية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 

الغرف الخالية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الغرف الخالية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 

كنت طالبة بالثانوية العامة في الثامنة عشرة من عمري حين سمعت أخي الطالب الجامعي يتحدث عن زميل له بالكلية بانبهار شدید مشيدا بتفوقه وشخصيته الجذابة واعتداده بنفسه وعنايته بمظهره رغم بساطة ملابسه ..ثم حصلت على الثانوية بمجموع يرشحني للالتحاق بأية كلية أرغبها لكن أسرتي أصرت على أن التحق بنفس الكلية التي يدرس بها شقيقي لكي أكون في حمايته.

والتحقت بالكلية ورايته لأول مرة هذا الذي يتحدثون عنه فوجدته شابا اسمر له وجه جذاب رغم تناقض ملامحه وجسم رياضي ممشوق . ولاحظت أنه لم يهتم بي كما يفعل الزملاء الآخرون مع أني على درجة عالية من الجمال .

 

ومضت أيامي الأولى في الكلية وهو لا يبالي بي .. فوجدت نفسي أنجذب إليه واهتم به ثم أحبه بكل براءة مشاعري التي لم تحس بإنسان قبله .. لكني لم أبح له بحبي بل كنا نتشاجر غالبا كلما جمعنا لقاء وسط الزملاء إلا أن صديقة لشقيقي باحت له بحبي فجاء إلي ذات يوم في قاعة المحاضرات وطلب أن يوصلني إلى محطة الأتوبيس وراح يحدثني عن نفسه فروى لي أنه أمل أسرته الريفية البسيطة .. وأنه لا يستطيع أن يرتبط بي إلا بعد أن يتخرج بتفوق ويعمل لكي يعوض أبويه أيام الحرمان ، وتقبلت ذلك راضية واستمرت حياتی کما هي .. وحقق هو حلمه ونجح بتفوق وحصل على مرتبة الشرف .. ثم فجأة ابتعد عن الكلية وعني تماما دون إبداء أية أسباب .. وحزنت لفراقه ودعوت الله إما أن يجمعنی به أو ينسيني إياه .. تم تخرجت بعده بعامين وذهبت إلى الكلية ذات يوم .. فإذا بي أراه هناك فاضطربت وتعثرت الكلمات على شفتي وحرت هل أصافحه أم أفر منه .. فتقدم مني وصافحني وهو يطلب مني بصوته العميق أن أتمشى معه قليلا ليروي لي كل شيء وخرجت معه فروی لي أن أبويه أجبراه على الارتباط بإحدى قريباته بدعوى أنها الأقدر على تحمل الفقر والمعاناة معه .. وبدعوى أنني لن استطيع تحمل ظروفهم ولن استطيع معايشتهم حياتهم البسيطة .. فاستجاب لرغبتهم .. لكنه لم يستطع أن يكمل المشوار معها فتوقف .. واقنع أبواه بأن من حقه أن يعيش مع من أختارها قلبه إذا رضيت بظروفه .

 

 وصرخت فيه من بين دموعي أني رضيت بكل شئ منذ البداية .. فلماذا لم تصدقني ولم يصدق ذلك أهلك .. وانتهى اللقاء بعودتنا إلى الحلم القديم وتزوجنا عن اقتناع وحب وبدأنا حياتنا في شقة شبه خالية من الأثاث ليس فيها منه سوی أثاث غرفة النوم والمطبخ .. أما باقي الحجرات فكنا نغلق أبوابها لكيلا يراها أحد وهي خالية .. واحرص حین أنظفها على عدم فتح نوافذها حتى لا يراها الناس وهي على البلاط .. وبدأنا معا رحلة الحب والكفاح .. ومضت أيامنا سعيدة رغم بساطتها وأنجبت طفلي الأول فوضع في يده أول مائة جنيه استطاع أن يوفرها من عمله المرهق المضني وواصل كفاحه مع الحياة فكان لا يهدأ ولا يستقر .. ويجري دائما من مكان إلى مكان ويلهث وراء لقمة العيش وتأمين المستقبل ویقسو على نفسه في سبيل ذلك ولما رجوته أن يبقى معنا قليلا لأني أفتقده يجيبني بأنه يرید آن يعوض أيام الحرمان وأن يوفر لي الحياة التي أستحقها .. ثم يشير إلى الحجرات الخالية ويقول لي إنه يرید أن يشتري لها أثاثا لائقا لكي يجنبي الحرج كلما زارنا الأهل أو الجيران .

 

 وأنجبت طفلي الثاني وأنا أزداد له حبا وعشقا وأذوب شوقا إليه وغيرة عليه .. فكنت لا يغمض لي جفن إلا إذا عاد ولو بعد منتصف الليل .. ولا آكل إلا معه .. ولا أنام إذا سافر إلا إذا سمعت صوته في تليفون الجيران ، ثم بدأ كفاحه يؤتي بثماره فاشترينا أثاثا للغرف الخالية .. وحصلنا على تليفون لكي يتصل بي كلما غاب عني .. وحصل هو على الدرجة العلمية التي كان يتمناها وأنجبت طفلي الثالث وأعطتنا الدنيا مع مجيئه الكثير والكثير فأصبحت لنا سيارة جميلة نركبها جميعا معا .. ولا يقودها زوجي إلا وأصغر أطفاله على ركبتيه .. ثم أعطتنا الدنيا أكثر فانتقلنا إلى شقة أفضل .. امتلأت حجراتها بالأثاث الجميل البسيط .. وظل حبیبی طوال كل ذلك زوجا رائعا وأبا رائعا لا يجلس إلا مع أولاده .. ولا يخرج لغير عمل إلا معهم ولا يسافر لبلدته ليزور أهله إلا وهم معه .. أما أنا فلقد ظل دائما حبیبي وصديقي وزوجي الذي علمني الحب والحياة وكل شيء .. وبلغنا معا لما النضج والتفاهم.

 

وبدأت أشعر بالتعب من عملي بالشركة التي اعمل بها ففكرت في أن أستقيل وأتفرغ لزوجي وأطفالي .. وفاتحت زوجي في ذلك فشجعني عليه .. وحسمت أمري وقررت أن أستقيل وقبل أن أتخذ خطواتي الأولى عاد زوجي ذات يوم مجهدا متعبا ففزعت وسألته عما به فأجاب بأنه مجرد إعياء من كثرة العمل وأنه يحتاج إلى النوم ليستعيد نشاطه .. ونام زوجي ساعة ثم صحا أكثر إعياء فأصررت على أن نذهب معا إلى الطبيب وذهبنا إليه فإذا بهذه الزيارة تفتح أمامنا أبواب العذاب وإذا بزوجي الحبيب يحمل في جسمه الرياضي الممشوق مرضا لعينا لا يعرف أحد متى تسلل إليه .. ولا كيف فعل به كل ذلك خلال فترة قصيرة أذهلت الأطباء .

وبدأنا رحلة العذاب يا سيدي ورفض زوجي العلاج وأنا أبكي بین يديه لکي اثنيه عن رفضه ، وبعد إلحاح طويل وافق عليه ، وطلب أن يحج إلى بيت الله الحرام أولا ثم يعود ليبدأ العلاج ووافقته على رغبته وذهب وعاد وبدأ رحلة العلاج وقلبي يدعو له مع كل خفقه من خفقاته بأن يمن الله عليه بالشفاء .

 



ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

نعم يا سيدتي تستحق كل هذه المعاناة وهذه الآلام لأننا لا نملك إلا أن نحياها .. ولا نستطيع الانسحاب منها مهما حملت إلينا من أعاصير.. فالحياة "فريضة وجهاد" .. لا نملك إزاءهما خيارا .. وليس في مقدورنا سوی أن نتقبل أقدارنا فيها وأن نتحملها بشجاعة .. ولا مفر أمامنا من أن نرضى بما تسمح لنا به من أسباب السعادة وأسباب الشقاء ، وواجبنا الإنساني العام هو أن نحاول دائما أن نجعل لنا هدفا نحياها من أجله ونتحمل عثرات الطريق في سبيله .. وفي حياتك الكثير مما يستحق أن تعيشي له ومن أجله ولیس كالزمن دواء للجراح يخفف من أوارها حتى تتحول مع الأيام إلى شجن نطوي الجوانح عليه ونواصل الحياة به هكذا فعل غيرنا من قبلنا وهكذا سوف يفعل غيرنا من بعدنا .

ومن منا يا سيدتي خلت حياته من هموم وشجون .. ومع ذلك فكلنا نحيا ونعيش ونهتم بمشاكل الحياة الصغيرة ونقاتل من أجل أهدافنا , إننا لسنا في حاجة لأن نسأل مع الشاعر الجاهلي :

أين  آباؤنا وأين بنوهم
أين آباؤهم وأين الجدود؟

لأننا نعرف حقائق الحياة جيدا ونعرف قانونها الذي لا يعفى أحدا ولن تكون كمن قال عنهم الحق سبحانه وتعالى :

"ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خیر اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة" لأننا لا نريد أن نخسر دنيانا وأخرانا .. فتحملي أقدارك بشجاعة ولا تسألي : لماذا جرى ما جرى أو لماذا أنت وحدك .. ولكن سلي نفسك كيف تحتملين ما جری وکیف تتجنبين آثاره على حياتك وحياة صغارك.

هذا هو واجبنا تجاه أنفسنا ونحن نواجه شدائد الحياة وأثقالها التي لا نملك لها دفعا .. ولا سبيل أمامنا سواه . 

فاستعيني على أمرك يا سيدتي بالصبر والصلاة والمشاركة في الحياة الاجتماعية والعائلية لأسرتك وتعلقي دائما بالأمل في رحمة الله .. والثقة في عدالته .. والطمع في جوائزه للمبتلين الصابرين على بلائهم .. ولسوف تأتيك جوائزه تسعى في الدنيا والآخرة إن شاء الله .

رابط رسالة زهور الحياة تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة المشهد القديم تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة العطر الجميل تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير عام 1990

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات