زهور الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

زهور الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990 

زهور الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990


 عمر السعادة غالبا قصير إلا لمن رحم ربك .. ونحن نعرف ذلك للأسف لكننا لا نصدقه إلا حين تذروها أعاصير الحياة .. فلا نستمتع بها وهي بين يدينا .. وربما أفسدناها لغير ما سبب جاد .. ل وربما استسلمنا لأوهامنا ورغبتنا المكبوتة في الرثاء لأنفسنا فنتوهم في بعض الأحيان أننا نعاني من الشقاء وليس في حياتنا من أسباب جدية ما يبرر لنا هذا الوهم حتى إذا عصفت العواصف .. "وجاءت الحوادث التي قد يطرقن أسحارا" كما يقول الشاعر ندمنا على فرصة الأيام التي لم نحسن في غفلتنا وغرونا استثمارها والتمتع بها .. وندبنا أيام السعادة التي كنا نحسبها من أيام الشقاء .. وواجهنا عواصف الشقاء الحقيقية وعزفنا عندها آهة الملتاع حقا على كثرة ما تأوهنا من قبل بغير ألم من آلام الحياة الفعلية.

عبد الوهاب مطاوع


قرأت رسالة الغرف الخالية للسيدة التي رحل عنها زوجها بعد عشر سنوات من الحب والسعادة .. وتسألك ما معنی الحياة بعد رحيل الأحباء .. فأثارت الرسالة شجوني وشجعتني على الإفضاء بمكنون صدري لعلك تخفف عني بعض ما أعانيه.

وابدأ بأن أقول لك أنني سيدة جامعية .. كنت الابنة الوحيدة لأب موظف بسيط في محافظة القاهرة .. وأم مدرسة فتمتعت دائما بحبهما وحنانهما وإطرائهما لجمالي الظاهر وكنا نسكن في حي شعبي . وتمضي حياتنا هادئة رغم قلة الإمكانيات .. وحين بلغت الثانوية العامة مرضت أمي مرضا عضالا .. فأنفق أبي على علاجها كل ما يملكه .. وتوقفت هي عن العمل وطلبت إحالتها للمعاش .. وتفرغت للعناية بصحتها .. وتحملنا ظروفنا بصعوبة وراح الأهل والجيران يزورننا للاطمئنان عليها من حين إلى حين .. وكان أكثرهم شهامة شاب في الثلاثين من عمره تقيم أسرته في البيت المجاور لنا ويملك ورشة صغيرة للخراطة في نفس شارعنا.

 

وكان دائم الزيارة لنا مع أمه .. وكثيرا ما عرض خدماته على أبي فكان يشكره ويثني على شهامته وأخلاقه .. ويتحدث عن أصالته وكنت أعرفه منذ كنت طفلة صغيرة .. ورأيته وهو يعمل صبيا بالأجرة في هذه الورشة بملابسه المتسخة .. بعد أن توقف عن التعليم بغير أن يحصل على الإعدادية وكثيرا ما سمعت بكاءه والأسطى يضربه بالشاكوش إذا أخطا أو  تأخر عن العمل .. وكنت أعجب بعد ذلك حين أرى الأسطى في نفس اليوم جالسا أمام الورشة يشرب الشاي .. ويناديه فيجيء إليه بنفس راضية مبتسما .. وكأنه لم يضربه وأذكر وأنا طفلة أني عبت عليه ذات مرة .. أن يضربه صاحب العمل .. ثم يذهب إليه مبتسما إذا ناداه .. فلم يغضب مني وقال لي إنه معلمه الذي يربيه .. وأنني تلميذة صغيرة آخذ مصروفي من أبي  .. ولا اعرف معنی الحاجة !

 

ثم كبر الصبي الصغير .. وأصبح أسطى .. ومات صاحب الورشة ولم يكن له سوى ابنتين متزوجتين .. وسمعت من أبي أن صاحب الورشة قد باع لهذا الصبي الورشة بما فيها بغير أن يأخذ منه أية نقود مقابلها بشرط أن يعطي لزوجته وابنتيه أول کل شهر مبلغا من المال حدده له إلى آخر العمر .. وأنه قال له أنه واثق من أنه سيلتزم بذلك لأنه رباه وأثمرت تربيته فيه رجلا شهما وعلى خلق ودین ..

وسمعت أبي يؤكد أنه يلتزم بهذا الوعد ویزید عما يلتزم به .. وأنه لهذا السبب قد فتح له أبواب الرزق على مصراعيها .. واشترى بالتقسيط ماكينة حديثة.

ومضت الأيام والتحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية واشتد المرض على أمي .. وتعثرت أحوالنا المالية أكثر .. وعشنا حياة متقشفة تماما وبعد عامين من التحاقي بالجامعة .. مات أبي الذي لم يشك يوما مرضا وهو يجلس في مكتبه .. وعاد به زملاؤه إلى بيتنا جثة هامدة .. واسودت الحياة في وجهي .. ووقف معنا الأهل والجيران في محنتنا .. وانقضت أيام العزاء وواجهت المصير وحدي يتيمة الأب .. ارعی أمي المريضة .. ولا مورد لنا سوی معاش محدود لأبي .. ومعاش أكثر ضآلة لأمي .. وكلاهما لا يكفيان لنفقات العلاج وحده.

 

وازداد اهتمام الشاب صاحب الورشة بأمرنا ..  وأبلغتني أمي ذات يوم أنه فاتحها في أنه يرغب في أن يتقدم لي ويحمل عنا مسئولية حياتنا لكنه يخشی أن أرفضه لأنه غير متعلم، ولم أبد اهتماما بما سمعت فلقد كنت لا أشعر تجاهه بأي عاطفة وأحس برغم قسوة ظروفي أني أرقی منه اسريا واجتماعيا وأنه لا يناسبني . ورغم أنه لم يتلق منا أي رد .. فإن أمه لم تنقطع عن زيارتنا ومحاولة تقديم أي خدمة لنا.

أما هو فقد ازداد رزقه .. فاشترى سيارة .. وسدد ثمن الماكينة .. وصدر أمر بإخلاء البيت القديم الذي تقيم فيه أرملة معلمه لأنه آيل للسقوط فلم يرض لها بأن تنتقل إلى مساكن الإيواء أو تتنقل بین بیتی ابنتيها .. فاستضافها في شقته لتعيش مع أمه وحكت أمه انه يقبل يدها كل صباح كما كان يفعل وهو صبي صغير ثم ساعدها في دفع خلو لشقة صغيرة في نفس الحي .. وانتقلت إليها بعد عام.

 

ووصلت إلى السنة النهائية من الدراسة وسط هذه الصعاب وساءت أحوالنا مع اشتداد المرض على أمي وحاجتها لإجراء جراحة ضرورية وعدت من كليتي ذات يوم فوجدت هذا الشاب قد نقلها للمستشفى بسيارته وسدد قيمة الجراحة ونفقات المستشفى واسقط  في يدي مبلغا آخر من المال فلم اعرف ماذا أقول له وليس بین أهلي من يستطيع الوفاء بهذا المبلغ وأجرت أمي الجراحة .. وتحسنت حالتها والحمد الله .. وفي فترة النقاهة لم ينقطع عن زيارتها وكان دائما يعاملني بتهيب واحترام شديد ، ووجدت نفسي أحس تجاهه بالامتنان لكن مشاعري لا تتعدى ذلك .. وفاتحتني أمي مرة أخرى في قبوله فلم أخف عنها أنني لا اشعر بالحب تجاهه رغم إعجابي بشهامته .. فسألتني بمرارة : وماذا سيقدم لك الحب .. ونحن في هذه الظروف .. وأنت وحيدة وبلا مال حتى رغم جمالك وسوف أتركك بين لحظة وأخرى بلا سند في الدنيا.

وأطرقت برأسي مستسلمة . فارتاحت لذلك .. وتمت خطبتي له وكان شرطي الوحيد هو أن أكمل دراستي .. وأن أعمل بعد التخرج .. وقبل كل شروطی .

 

وتم عمل قراني بعد حصولي على شهادتي وتكفل هو بكل النفقات .. وكان في قمة السعادة والاعتزاز بي وأنا أجلس بجواره بالفستان الأبيض .. أما أنا وليسامحني الله فلم أكن أشعر بأي إحساس من أي نوع لا فرحا ولا حزنا ، وزففت إليه بعد عام وانتقلنا إلى شقة حديثة بحي أرقى .. اشترى كل أثاثها من دمياط .. وانتقلت أمي للإقامة معنا .. في حين بقیت أمه في شقتها القديمة بناء على طلبها . وطلبت منه تأجيل الإنجاب لفترة حتى تستقر أحوالي وأجد عملا فاستجاب لي كارها . وبعد عامين وجدت وظيفة وأصررت على الالتحاق بها رغم معارضته الصامتة .. فعلمني قيادة السيارات في شهرين واشترى لي سيارة صغيرة قديمة لكي يجنبني متاعب المواصلات وعاد يطلب الإنجاب .. وعت استمهله فشكاني إلى أمي وأيدته وحذرتني من غضب ربي لظلمي له .. وهو الرجل الأمين الكريم الخلق ..

وحاولت أن أوفق بین ضميري ومشاعري .. فازددت حيرة .. وكنت أحس بالرثاء له حين أراه يحاول أن يقرب بين مستواه ومستواي .. فيحرص على شراء شرائط الموسيقى الخفيفة والموسیقی الكلاسيك وعلى مشاهدة نشرة الأخبار في التليفزيون باهتمام غیر عادي وقراءة الصحف بدقة والتحدث معي في موضوعاتها خاصة في السياسة الخارجية .

 

ثم زاد إلحاحه على بالإنجاب .. وأحسست انه يستشعر من رفضي أني لا أراه جديرا بي .. فحملت منه .. وعانيت متاعب الحمل وتحملني بصبر وسعادة .. ثم جاءت لحظة الولادة فلم تكتمل فرحته ومات المولود أثناء الولادة وحزن زوجي حزنا شديدا .. وبدأ  لأول مرة ينزوي وحيدا يجتر آلامه ثم أفصح عن مكنون صدره وقال لي أنني لم أكن أريد المولود لهذا فقد جاء ميتا ..  وتأزمت العلاقة بيننا لأول مرة .. وضاقت نفسي بكل شيء فابتعدت عنه ونمت في حجرة نوم أمي لفترة .. ثم ازدادت حالتي النفسية سوء وطالبته بالطلاق فصدم صدمة كبيرة وغادر البيت بلا كلمة .. وانهالت على أمي لوما وتقريعا وغاب زوجي عن البيت يومین ثم عاد منكسرا .. فسحبتني أمي من يدی إليه وطلبت منه أن يكسر رقبتي .. فإذا به يجيب حزينا لا .. ما عاش من يمد يده إليها بسوء ثم اخرج من جيبه أسورة ذهبية وقدمها لي هدية للصلح فلم أجد سوی دموعی أعبر بها عن امتناني وضعفي وحيرتي .

 

وتستمر الحياة بيننا هكذا .. فترات من الرضا بواقعي .. وفترات من التمرد عليه .. وهو في كل الأحوال صابر وراض .. وودیع .

وبدأ يشكو من الإرهاق .. بعد أن توسع عمله، وسقط ذات مرة مغمى عليه في الورشة فنقلوه إلى المستشفي .. وأسرعت إليه فوجدته شاحب الوجه ضعيفا وشددت من أزره .. وطلبت منه أن يصمد للمرض لکي يغادر المستشفی سریعا .. فأجابني  واهنا بأن "الشقاء" منذ صغره قد أكل صحته .. ولم يترك له الكثير .. وهونت عليه الأمر وأردت أن أقيم معه في المستشفى فأصر إصرارا غريبا علی أن أعود للبيت .

ومرت الأزمة بسلام وعاد إلى بيتنا .. وقد فقدت روحه شيئا جوهريا أحسه ولا أعرف كنهه ولاحظت في تلك الفترة أن رئيسي في العمل يتودد إلي بأدب .. ويطيل الحديث معي، فلم أشجعه على شئ .. وحرصت على ألا تتجاوز علاقتي معه حدود العمل وإن كنت قد لاحظت بالطبع أن مجال الحديث بيننا أوسع لتقارب الثقافة والاهتمامات .. وتساءلت بیني وبين نفسي لماذا لا أجد موضوعا للحديث الطويل بيني وبين زوجي .. كما افعل مع زملائي في العمل .. ومع رئيسي .. ومضت الأيام بلا جديد سوى أنه بدأ يستأذنني من حين لآخر أن يبيت في شقة أمه يومين أو ثلاثة بحجة أن العمل يتطلب وجودة بالقرب من الورشة .. وأنه لم يعد يتحمل قيادة السيارة في زحام المدينة ثم بدأ يغيب أحيانا بلا استئذان ويبعث إلي بأحد عمال الورشة ليلبي طلباتي .

 

وعاد ذات مرة بعد غياب ثلاثة أيام فرحبت به .. فنظر إلي حزينا ثم قال : من لا تحب زوجها لا يهمها غيابه أو حضوره وربما أسعدها غيابه أکثر فثرت عليه ثورة عارمة .. وطلبت منه الطلاق فأجابني لأول مرة بأنه سیلبی لي رغبتی لو أردت .. لكن أمي تدخلت بيننا واستحلفته بألا يفعل .. فترك البيت في نفس اللحظة .. ولم أشعر إلا وأمي تصفعني وتتهمني بالجمود والتكبر والغرور .. وتعدد لي أفضال زوجي علينا .. وتقسم لي أني لا استحق ظفره وأن أي فتاة أجمل مني وأحسن حالا  سوف ترحب بأن تتزوجه وضقت بها .. فحملت حقيبتي أنا أيضا وغادرت البيت إلى بيت خالتي في الحي القديم لأمضي معها عدة أيام

.. فلم ترحمني هي أيضا .. وانهالت علي لوما وتقريعا وتعدادا لمآثر زوجي ولكرم أخلاقه وتواضعه رغم انه كما قالت أغنى من كل أسرتنا.

 

وطلبت من الجميع أن يرحموني وأن يدعوني لنفسي فترة أراجع فيها حياتي .. ومضت أيام وهو لا يتصل بي .. واتصلت بأمي فأبلغتني أنه لم يعد للبيت منذ غادره ويواظب على إرسال الصبی بطلبات البيت وبدأت أحس بتأنيب ضمیری .. وانعكس ذلك على حالي في العمل فازداد شرودی .. ولاحظ رئیسي ذلك فسألني عما بي ففضفضت له ببعض خواطري وآلامي.

ففوجئت به يكتب بضعة كلمات على ورقة صغيرة ويعطيها لي فوجدتها عنوان مجرد عنوان فسألته عن معنی ذلك ..فقال لي بجرأة قابليني في هذا العنوان بعد ساعة لکي نتحدث على راحتنا .. لان المكان هنا غير مناسب .. وأنت في حاجة لأن تزیحي عن صدرك هذه الهموم . وفهمت قصده الدنئ . إنه عنوان شقة يريدني أن ألتقي به فيها وأحسست بغضب هائل وألقيت الورقة في وجهه وصحت فيه : إنني سيدة شريفة .. ومتزوجة من رجل ظفره برقبته وأنني لن اعمل تحت رئاسته بعد الآن .. وانصرفت والدم يغلي في عروقي .. وتركت العمل بلا استئذان وعدت لبيت خالتي فحملت حقيبتي وعدت إلى بیتي وتصادف وجود الصبي حاملا معه اللحم والخضار .. فسألته عن زوجي فقال إنه غائب عن الورشة منذ أيام ولا يعرف أين هو فأخذته معي في السيارة وذهبت للورشة وسألت مساعد زوجي عنه .. فتهرب من الإجابة فصحت فيه إني لن أغادر الورشة إلا إذا أخذني إليه .. فصحبني إلى مستشفى خاص قریب فوجدت زوجي راقدا على سريره وقد ازداد شحوبا .. وفوجئ بی .. فلم أتح له أي فرصة لإبداء رأيه وانحنيت اقبله .. واعتذر له .. واقبل يده .. فإذا بدموعه تنسال من عينيه صامتة .. ويسحب يده في ضعف وهو يقول في حياء: "استغفر الله .. استغفر الله" واطلب منه العفو لأني أجرمت في حقه فيفاجئني بأن يطلب هو مني العفو لأنه كما قال حاول أن يحقق لنفسه ما ليس من حقها .. وأسكته بدموعي .. وقلت له إنه أعظم رجل في العالم .. وإني أتلهف على خروجه من المستشفى لنعيش معا احلی أيامنا .. ولأنجب من صلبه ولدا يحمل اسمه ويتشرف به ..فينظر إلي دامعا وباسما .. ولا يجيب .. واخرج من غرفته واطلب من إدارة المستشفي سريرا إضافيا واطلب من مساعد زوجی أن يعود بسيارتي للبيت ويحضر لى حقيبة ملابسي  .. وأتصرف كزوجة سعيدة ومحبة لأول مرة في حياتي وأسامره طوال المساء  .. واستشعر لأول مرة مذاقا غريبا وجميلا لكلامه .. واطلب منه أن يروي لی ذكريات طفولته وصباه في الورشة .. واذكره بضرب المعلم له .. فيضحك في وهن ويدعو له بالرحمة ويذكر فضله عليه .. وأعيش معه في المستشفى أسبوعا .. ثم يتماثل للشفاء .. وأعود معه إلى البيت فتزغرد أمي وأمه في استقبلنا لأول مرة.

 

واكتشف جمال أشياء عديدة في حياتی أعجب كيف لم اشعر بجمالها من قبل ويتورد وجه زوجی بالصحة والسعادة .. واحمل .. فيطير فرحا ويطلب مني الاستقالة من العمل .. فأرجوه أن احصل على إجازة بدون مرتب لمدة عامين كخطوة أولى فوافق وأتفرغ  له ولحملي .. واضع مولودا جميلا فأصر على أن اسميه باسمه .. فلا تسعه الدنيا من الفرحة واستقبل أقاربه الذين لم أكن استقبلهم من قبل وأنا فخورة بهم واكتشف أن لي أسرة كبيرة العدد .. أتعجب کيف حرمت نفسي منهم ومن زحامهم حولي ومن شهامتهم وخفة دمهم طوال السنوات السابقة.

ويصحبني زوجي أنا ووليدي لأداء العمرة معه .. ونعود حاملين الهدايا للأهل والأقارب .

 

ويستعد زوجي للاحتفال بعيد الميلاد الأول لابنه .. فإذا بالنوبة تهاجمه من جديد .. وينتقل للمستشفى .. وهو يقسم ألا أصاحبه فاقسم قسما على قسمه أني لن أتركه وادع طفلي لرعاية أمي وانتقل معه ، وتمضي بضعة أيام وتتحسن حالته .. واجلس ذات يوم إلى جوار سريره أحدثه فيسمك يدی ويشكرني على ما منحته من سعادة .. وابكي راجية أن يغفر لي ما سببته له من آلام من قبل ثم ينام .

 


 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

عمر السعادة غالبا قصير يا سيدتي إلا لمن رحم ربك .. ونحن نعرف ذلك للأسف لكننا لا نصدقه إلا حين تذروها أعاصير الحياة .. فلا نستمتع بها وهي بين يدينا .. وربما أفسدناها لغير ما سبب جاد ..

بل وربما استسلمنا لأوهامنا ورغبتنا المكبوتة في الرثاء لأنفسنا فنتوهم في بعض الأحيان أننا نعاني من الشقاء وليس في حياتنا من أسباب جدية ما يبرر لنا هذا الوهم حتى إذا عصفت العواصف .. "وجاءت الحوادث التي قد يطرقن أسحارا" كما يقول الشاعر ندمنا على فرصة الأيام التي لم نحسن في غفلتنا وغرونا استثمارها والتمتع بها .. وندبنا أيام السعادة التي كنا نحسبها من أيام الشقاء .. وواجهنا عواصف الشقاء الحقيقية وعزفنا عندها آهة الملتاع حقا على كثرة ما تأوهنا من قبل بغير ألم من آلام الحياة الفعلية.

 

إنها قصة الأمس واليوم وغدا .. وقليلا ما نعي دروسها وقليلا ما غنمنا فرصة هدوء الأيام التي لا نعرف متى قد يجود الزمان بمثلها وأهدرناها في الشكوى بغير أنين .. وفي السخط على ما لو علمنا الغيب لاخترناه ولما رضينا به بديلا فلعل رسالتك الصادقة هذه تنبه الغافلين إلى ما بين أيديهم من أسباب للسعادة

قبل فوات الأوان .

أما أنت يا سيدتي فإن ما تعانيه من عذاب الضمي هو خير تطهير لصفحتك من أي خطأ ارتكبته في حق زوجك الكريم، ولعلك تتعزين عنه بأنك قد رجعت عنه وعرفت لشريك حياتك قدره .. وأسعدته حقا في عاميه الأخيرين .. ورحل عنك وهو قرير العين راضيا مرضيا ، ولعل يوما من السعادة الحقيقية والإحسان وربما ساعة وربما لحظة قد تغفر للإنسان ما قدمت يداه من قبل وسعت رحمة ربك كل شيء فيكفيك كل ذلك الآن يا سيدتي .. وعليك أن تتخلصي من هذا الإحساس المدمر قبل أن يتمكن منك ويترك أسوا الأثر على صحتك النفسية ويعوقك عن أداء واجباتك الأهم في تکریم زوجك .. فخير ما تكرمينه به هو أن تحسنی رعاية ابنه وتنشئته على نفس هذا الخلق الرضي النبيل الذي تميز به زوجك وكان به من فضلاء قومه وسادتهم ولو لم ينل حظا كافيا من التعليم .. وليكن ابنه جديرا بحمل اسمه العظيم ولا تنسي أسرة "معلم" زوجك القديم ففي الوفاء بحقوقها عليه إحياء لكل القيم الأصيلة التي التزم بها زوجك في حياته القصيرة كعمر الزهور .. وكعمر أريج العطور التي يخفف شذاها عناء الحياة .. ولا نملك بعد ذلك سوى أن نقول : "وربنا افرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا" وألهمنا الحكمة لكي نفرق بين ما يستحق أن نشقى من أجله وما لا يستحق أن نبدد العمر القصير في الشكوى منه .. والأنين !

 رابط رسالة الغرف الخالية

رابط رسالة المشهد القديم تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1990

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات