دائرة الندم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 دائرة الندم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

دائرة الندم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

آفه الإنسان أنه يرفض غالبا أن يعترف لنفسه بضعفها..ويفضل أن يتظاهر أمام نفسه أولا بالقوة مع أن ضعفه البشرى من سماته كإنسان ولو إعترف به كل إنسان لنفسه لتجنب الكثير من المتاعب وتجنب إيلام الآخرين ولما أحس بالندم بعد فوات الأوان.

عبد الوهاب مطاوع


لا أعرف كيف أبدأ رسالتي إليك لأني أكتبها إليك وكلى إحساس بالندم كل الندم على ما ضاع منى وما خسرته في حياتي .. ولأبدأ أولا بأن أذكرك بنفسي, فأنا الطبيب زوج السيدة التى نشرت رسالتها منذ حوالي أربعة شهور بعنوان "النداء" والتي كتبت تشكو إليك من أنى أصر على أن أناديها أمام أطفالها الخمسة ب" يا أم منخار" حتى ضاقت بذلك ورجتني أكثر من مرة أن أقلع عن هذا النداء السخيف .. وحتى طالبتني ذات مرة بالطلاق احتجاجا عليه, فكنت ألومها على هذا التفكير الصبياني ثم أعود إلى نفس النداء كأن شيئا لم يكن.

 

لقد نشرت رسالتها وطالبتني بمراعاة شعورها .. وبعدم الاستهانة بهذا التصرف الصغير الذى يتسبب فى إيلامها وقد يؤدى إلى نتائج وخيمة .. وبعد نشر الرسالة بأسابيع سافرنا معا لأداء عمرة رمضان التي أصرت زوجتي على أدائها هذا العام, ولم أفلح فى إقناعها بتأجيلها بالرغم من أننا قد أدينا معا فريضة الحج 5 مرات خلال إقامتنا فى السعودية , فاستجبت لرغبتها وسافرنا لأداء العمرة فى العشرة الأواخر من رمضان .

 

وفى فجر يوم  28رمضان أدت زوجتي صلاة الفجر فى المسجد الحرام, فإذا بها تسقط على الأرض مغشيا عليها وهى تؤدى الصلاة .. وسارعت بنقلها إلى المستشفى فإذا بها تلقى وجه ربها الكريم قبل أن تصل السيارة إليها .. وإذا بى أودعها الثرى الطاهر فى الأراضي الحجازية .. وأعود إلى أولادي الخمسة الصغار بغيرها لا أصدق ما جرى .. ولا أعرف كيف حدث.

 

إنني منذ ذلك اليوم يا سيدي وأنا أعيش ذاهلا وحزينا ومكتئبا وقد انقطعت عن عملي كطبيب. ولا أعرف كيف أجيب عن  أسئلة أطفالي الخمسة الحائرة عن أمهم .. ولماذا عدت من السفر بغيرها ..ولا أعرف كيف أقنع عقولهم بأنهم لن يرونها مرة أخرى, وأنها الآن فى عالم آخر بعيد تحف به الملائكة ويسوده السلام.

إنني محطم ومنهار وأحس بأني مهما فعلت فلن أستطيع أن أمحو ذنبي الذى ارتكبته فى حقها وآلمتها به حتى لقد فكرت فى الانتحار ذات مرة تخلصا من ندائى السخيف لها كما كتبت إليك فى رسالتها .. وأريد أن أزيح عن صدري هذا العبء الثقيل وأعترف لك بالسبب الذى لم أبح لها به ودعاني إلى مناداتها بذلك النداء اللعين لمدة عامين متتاليين, فالمشكلة يا سيدي أنني أبلغ من العمر 55 سنة, وكان عمر زوجتي 35 سنة لكن مظهرها كان يوحى بأن عمرها لا يزيد على 25 سنة .. وحين كنا فى السعودية كانت زوجتي ترتدي النقاب .. وبعد انتهاء عملي فيها وعودتنا لمصر منذ عامين خلعت زوجتي النقاب وارتدت الحجاب العادي فظهر جمالها وأصبحت لافته للأنظار بشدة فى أي مكان نذهب إليه لأنها كانت على قسط كبير من الجمال .

 

ومع أن زوجتي رحمها الله كانت على درجة عالية من الأخلاق والهدوء والتسامح والتواضع , إلى جانب ثقافتها العالية كخريجة للمدرسة الألمانية تجيد الألمانية والفرنسية والانجليزية , ومهندسة آثرت عدم العمل والتفرغ لرعاية أطفالنا وهم خمسة ذكور .. ومع كل ذلك فقد كنت أغار عليها بشدة حتى من أقرب الناس إليها, وأغار من نظرات الإعجاب والاحترام التي تقابل بها فى كل مكان .. ومع أنها كانت ملاكا فى بيتها وفى حياتها معي .. وحريصة على أداء واجباتها المنزلية والأسرية وتستذكر للأولاد دروسهم حتى أصبحوا من الأوائل دائما .



ولــكاتــب هــذه الــرســالة أقـــول:

 

لو أنصف الإنسان لما آذى مشاعر أحد, ولما أحس بالندم على ما فرط منه فى حقهم .. لكن متى كان الإنسان منصفا وعادلا مع الجميع؟ لقد اعترفت لنفسك يا سيدي قبل أن تعترف لى بالسبب الحقيقي الذى دفعك لإيلامها بذلك النداء السخيف .. ولعله لم يكن واضحا تماما فى ذهنك وأنت تتعمده وتتمسك به, وإنما كان فى أغلب ظني يترجم هواجس ومخاوف غامضة لديك .. فلما رحلت زوجتك الملائكية المتدينة عن الحياة .. وخلوت إلى نفسك وراجعت ما كان من أمرك معها , تبين لك ما كان خافيا عليك فى وقتها واعترفت لنفسك به .. ولو كانت تلك الدوافع واضحة تماما فى عقلك الواعي .. وشريكة حياتك ترجوك أن تعفيها من ذلك النداء البغيض, لسهل عليك التخلص منه. لكن آفه الإنسان أنه يرفض غالبا أن يعترف لنفسه بضعفها .. ويفضل أن يتظاهر أمام نفسه أولا بالقوة مع أن ضعفه البشري من سماته كإنسان .. ولو اعترف به كل إنسان لنفسه, لتجنب الكثير من المتاعب وتجنب إيلام الآخرين ولما أحس بالندم بعد فوات الأوان.

 

إن اعترافك يا سيدي بدوافعك الحقيقية لتصرفاتك مع زوجتك الراحلة فى العامين الأخيرين .. وبغيرتك الشديدة عليها هو فى تقديري أول خطوة فى طريق استعادتك لتوازنك النفسي .. وإحساسك بالذنب تجاهها إحساس نبيل,لكنك تستطيع أن تتخلص منه بأن تحفظ لزوجتك ذكراها .. وتشيد بفضلها أمام الجميع .. وترعى أبناءها وتغرس فيهم حبها والوفاء لذكراهم, وبأن تحقق فيهم كل آمالها التى لم يمهلها العمر لكي تحققها لهم.

 

فهذا هو الطريق لتكريم الأعزاء الغائبين والوفاء لهم ,أما آمالك النفسية فإن الزمن كفيل بها..ولا دواء لها غيره, وهى من تلك الأمور التى عناها مصطفى صادق الرافعي بقوله:

 

مـسائـل مـالها مـن حـل ولـكن

إذا نـسـيت ففي النسـيان حـل

 

نعم يا سيدي .. ففي النسيان حل .. وفى الصبر على ما أصابك والخروج إلى العمل .. والمشاركة فى النشاطات الاجتماعية والانشغال بأمور الحياة وشئون الأبناء أكثر من حل لآلامك ومعاناتك بإذن الله .. فلا شك أن رعاية خمسة أطفال صغار تحتاج إلى الخروج من دائرة الندم وإلى الاحتشاد النفسي لتحمل هذه المسئولية الكبيرة أعانك الله عليها...وعلى غيرها من مشاكلك والسلام.

رابط رسالة النداء

رابط مقال أنف الزوجة تعقيبا على هذه الرسالة


 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" في يوليو عام 1990

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات