أعاصير الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 أعاصير الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

أعاصير الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

علينا دائما أن نعد أنفسنا لتقبل الحقيقة لأن التسليم بما حدث مهما كان صعبا هو الخطوة الأولى للتغلب على المصاعب والآلام ولأن رفضنا الداخلي التسليم بما تحمله إلينا أمواج الحياة يهدر قدراتنا النفسية والعصبية والصحية بلا طائل ، فهذا الرفض يسجننا داخل دائرة التساؤل الأخرس لماذا حدث فلا نجد جوابا مرضيا .. ولا نكف عن المعاناة ولا نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام أما التساؤل الصحيح في مثل هذه الظروف فهو ماذا أفعل بعد أن حدث ما حدث لأنه يمكن أن يثمر فعلا حركة على طريق الشفاء وتحمل الآلام .

عبد الوهاب مطاوع


أنا شاب نشأت في أسرة ثرية وعريقة ، فعشت حياة ميسورة وحصلت على الثانوية الإنجليزية من القاهرة ثم سافرت إلى الخارج للدراسة الجامعية وعدت بعد 4 سنوات حاصلا على شهادة عالية .. وبدأت حياتي العملية ، وبعد شهور من عودتي خطر لي أن أقضي عدة أيام في الغردقة على ساحل البحر الأحمر فسافرت إلى هناك ، مع صديق لي ، وخلال رحلة العودة فوجئت وأنا أقود السيارة بسيارة تخرج فجأة من خلف لوري قادم من الاتجاه العكسي لتصبح خلال ثانية واحدة في مواجهة سيارتي بالضبط وأحاول تفادي الاصطدام بها فأعجز وأسمع صوت ارتطام السيارتين بعنف وأرى سيارتي تدور حول نفسها ثم تنقلب عدة مرات ونحن بداخلها ثم تستقر فوق الرمال .

 

وبعد وقت لا أدري كنهه فتحت عيني فوجدت نفسي في المستشفى ورأيت أشباحا تتخايل أمامي ولا أستطيع تمييزها .. فأشعر بالرغبة في أن أسأل عما جرى فأجد صوتي غير قادر على الخروج وأحاول أن أشير بيدي ، فلا أجد سوی ید واحدة فأتحسس بها عيني فأجد واحدة مضمدة تماما فأدور بعيني الأخرى فيمن حولي فأجد أبي وأمي وأقارب والجميع يبكون فتطوف عيني باقي المكان لتستقر بعد قليل على قدمي فأجد أيضا أني فقدت إحداهما .. وتتحجر عيني وأشعر بالرغبة في البكاء فلا أستطيع .. وأسمع كلمات كثيرة فلا أعي منها شيئا .

 

وبعد أسبوعين خرجت من المستشفى .. وصحبني أبي وأمي إلى الخارج لاستكمال العلاج وبعد رحلة طويلة لا داعي لكل تفاصيلها المؤلمة .. انتهى الأمر بي إلى تركيب ساق صناعية أما الذراع الصناعية فلقد وجدتها شيئا ميتا لا حياة فيه ولا فائدة عملية له سوى إظهار الشخص وكأن له ذراعين ، لذلك فقد رفضتها بلا تردد وعدت إلى بلادي وأصبحت قادرا على المشي بصورة شبه طبيعية واشتريت سيارة واستطعت بعد وقت قصير أن أقودها ببساطة أذهلت أهلي و أسعدتهم .

وبعد قليل سافرت مرة أخرى إلى إحدى دول أوربا واستبدلت الساق الأولى بساق صناعية أخرى متقدمة جدا سعدت بها للغاية بسبب إمكانياتها الواسعة وعرضوا علي هناك تصميم ذراع متطورة لي فرفضت مادامت لن تفيدني في وظائف الذراع .. وعدت إلى مصر وروضت نفسي على قبول الأمر الواقع .. ودربت نفسي خلال عامين على الكتابة باليد اليسرى وأصبحت أكتب بها كما كنت أكتب تقريبا باليد اليمني المفقودة ، وأقبلت على العمل ووسعت نشاطي فيه ، وبدا كأني قد اجتزت الأزمة نهائيا لكن هذا كان تطورا خادعا فيما يبدو لأن حالتي النفسية ساءت فجأة وبلا مقدمات.

 

 وألح علي أبي بقبول العلاج النفسي وقبلت فشخص الأطباء حالتي أنها اكتئاب مزمن ولم يستطع العلاج ولا الأمل ولا الأصدقاء أن يخرجوني من حالة الاكتئاب هذه فعشت فترة طويلة لا أفعل شيئا سوى أن أجلس على مقعدي المفضل أحملق في التليفزيون بمجرد أن استيقاظ من النوم وحتى يجيء النوم مرة أخرى بلا وعي فلا أتكلم إلا للضرورة القصوى وأرفض استقبال أصدقائي فهل تتخيل یا سیدي كم استغرقت هذه الحالة؟ .. ثلاث سنوات كاملة وأنا على هذه الحال اشتد علي فيها الاكتئاب ففقدت ثقتي بالله - استغفر الله - و لعنت الدنيا ومن عليها .. وأصبحت اسأل لماذا فعل الله بي هذا وتطورت الحالة فأصبحت عدوانيا .. وعجز أهلي وأصدقائي عن التصرف معي .. وفجأة سيطرت علي فكرة الانتحار فحاولته 3 مرات بثلاث طرق مختلفة فلم أنجح وأدخلني الأطباء مصحة نفسية لخطورة حالتي وخرجت منها بعد شهور وقد تحسنت نسبيا لكني لازمت البيت لا أفعل شيئا سوى الحملقة في التليفزيون لمدة سنة أخرى كانت تتخللها بعض زيارات الأصدقاء الذين يئسوا تماما من شفائي.

 

وذات يوم جاءني بعض الأصدقاء فوجدوني منشرحا لأول مرة منذ سنوات فسعدوا بذلك جدا وسألوني عن سبب انشراحي .. فترددت قليلا ثم قلت لهم إني أشعر بتحسن كبير لا أعرف سببه .. لكن هناك شيئا آخر حدث هو أني رأيت في الحلم أمس الرسول الكريم سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام فهتف أحد الأصدقاء من رأى سيد الخلق فقد رآه حقيقة لأن الشيطان لا يتمثل به وهناك حديث شريف بهذا المعنى .

واستبشرت خيرا وتحسنت حالتي كثيرا .. وبعد شهرين جاءني أصدقائي فصارحتهم أني رأيته صلى الله عليه وسلم مرة أخرى أمس وانهمرت دموعي لمدة ساعة كاملة استغفرت خلالها ربي كثيرا وندمت عما ساورني من أفكار وظنون ، وشعرت كأن حجرا قد انزاح من فوق صدري واستعدت صحتي النفسية مرة أخرى وأكد لي الطبيب أن ما حدث هو معجزة لا علاقة للأدوية بها !.

 

وعدت كما كنت شابا مقبلا على الحياة وأصبحت أمارس أعمالي من جديد باهتمام ونشاط وبعد أن كنت أتذكر الحادث المؤلم بمرارة شديدة أصبحت أتذكره وأذكره كأي مشهد عادي من مشاهد حياتي بل وأسخر منه أحيانا وأضحك حتى أنه حدث ذات مرة أن سألني بائع كنت أشترى منه شيئا مشيرا إلى ذراعي المفقودة : حادثة ؟ فرددت عليه مبتسما .. لا.. عملية تجميل .. وعدت للتردد على النادي والجلوس مع أصدقاء الطفولة .. وهناك التقيت بها فتاة ملائكية جميلة من أسرة طيبة عريقة وثرية .. وكأنني كنت أنتظرها طوال هذه السنوات ومع ذلك فلم يكن حبا من أول نظرة ولا من عاشر نظرة وإنما حب قديم ينضج على نار هادئة من جانبها ومن جانبي حتى إذا وصلنا إلى الدرجة التي لا يمكن بعدها الصبر ، قررنا أن نتوج حبنا بالارتباط وهي تعرف تماما ماذا يعني هذا القرار بالنسبة لها من متاعب .

 

وفي بيتها واجهت فتاتي الملائكية العاصفة وحدها من أمها الأجنبية أما أبوها المصري المثقف العطوف فلقد كان أكثر تفهما للموقف وأكثر تقديرا لمشاعرها العاطفية فراح يحاورها ليتأكد من صدق مشاعرها ومن أنها ليست مشاعر عابرة ولا هي شعور بالعطف وراح يناقشها ليتأكد من فهمها الصحيح لمعنى الحياة الزوجية والمشاركة وتقاسم أفراح الحياة وأحزانها حتى إذا اطمأن إليها دعاني لمقابلته فذهبت إليه وأنا أفكر فيما سيقوله لي وجلست انتظره في الصالون حتى دخل فرجف قلبي ، لكنه ناقشني مناقشة قصيرة كان حريصا خلالها على عدم جرح مشاعري ثم سكت لحظة قبل أن يبتسم ابتسامة تعلقت بها أنفاسي ثم يقول مبارك بإذن الله ويمد إلي يده ويقرأ معي الفاتحة !.

 

وكانت مفاجأة سعيدة للجميع ، وتمت الخطوبة والزواج ، وعرفت السعادة الحقيقية لأول مرة في حياتي منذ وقع الحادث إياه .. وزفت حبيبتي إلي البشرى بعد شهور بأنها حامل فحلقت في سماوات السعادة ، واستمرت حياتنا كلها أنشودة من الحب والأمل والسعادة وأصبحت زوجتي في منتصف الشهر التاسع وحجزنا في أكبر مستشفى للولادة و خرجنا ذات يوم لنشتري بعض لوازم البيت أما لوازم المولود فقد اشتريناها منذ زمن ولم أجد مكانا خاليا لانتظار سيارتي أمام المحل الذي أريده فنصحتني زوجتي بالوقوف صف ثان ، والإسراع بإحضار الأشياء ودخلت المحل .. ونزلت زوجتي تفتح حقيبة السيارة الخلفية استعدادا لوضع المشتريات .. فإذا بسيارة مسرعة يقودها شاب صغير تتخطى السيارة التي أمامها فيفاجأ بسيارتي الواقفة "صف ثان" ، فيضغط على الفرامل بشدة ليوقفها فلا يستطيع وتسمع حبيبتي صوت الفرامل العنيفة وهي منحنية على حقيبة السيارة فتستدير لترى ما يحدث فتفاجأ بالسيارة المندفعة نحوها أما أنا فقد سمعت أصوات صراخ مجنونة من المارة وصوت الفرامل وأنا داخل المحل فخرجت لأرى ما حدث فوجدت حلقة من الناس حول سيارتي فاخترقتها بلهفة لأطمئن على زوجتي فلم أجدها داخل السيارة فعدت أخترق الزحام مرة أخرى أبحث عنها فإذا بي أجدها یا إلهي .. يا إلهي مسحوقة بين السيارتين .. وقد تدافع الناس يدفعون سيارتي للأمام ليخلصوها فما أن تحركت السيارة حتى تهاوت على الأرض .. و.. و.. ومدت ذراعيها ناحيتي فاحتضنتها وانتهى كل شيء وطفلها وطفلي أكاد أراه بارزا يشهد على حبنا وعلى مأساتنا .. وعلى عذابي الذي لا نهاية له .

 


 

لا تسل يا صديقي عما لا حيلة فيه ولا قدرة لنا على دفعه ولا تسل عما يقف أمامه العالم والجاهل سواء عاجزين عن التفسير إلا بشيء واحد فقط هو التسليم بقضاء الله وقدره وهو من أركان الإيمان . إن العقل القوي هو الذي يعرف حدود قدرته فلا يتجاوزها إلى ما لا طاقة له به فتتكسر أشرعته وتتلاعب به الأمواج في بحار الظلمات . ولقد خبرت أنت نفسك ذلك حين تساءلت في محنتك الأولى ولماذا ، ورفضت قبول الأمر الواقع والرضا به فدفعت الثمن غاليا من سلامك النفسي ومن صحتك وتجرعت آلاما فاقت في شدتها آلام الجراحة التي تعرضت لها .

 

إن علينا دائما يا صديقي أن نعد أنفسنا لتقبل الحقيقة لأن التسليم بما حدث مهما كان صعبا هو الخطوة الأولى للتغلب على المصاعب والآلام ولأن رفضنا الداخلي التسليم ببعض ما تحمله إلينا أمواج الحياة يهدر قدراتنا النفسية والعصبية والصحية بلا طائل ، فهذا الرفض يسجننا داخل دائرة التساؤل الأخرس لماذا حدث فلا نجد جوابا مرضيا .. ولا نكف عن المعاناة ولا نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام أما التساؤل الصحيح في مثل هذه الظروف فهو ماذا أفعل بعد أن حدث ما حدث لأنه يمكن أن يثمر فعلا حركة على طريق الشفاء وتحمل الآلام وأنت یا سیدی قد استغرقت 5 سنوات من قبل لکی تسلم نفسيا بما جرى لك في محنتك الأولى ، وحين سلمت بها انتهت الآلام وسخرت من المتاعب وتفتحت مسامك للحياة من جديد ووضعت الدنيا في طريقك هذا الملاك البريء الذي لم يكمل بكل أسف مشوار الحياة معك ولو شاءت الأقدار غير ذلك لكانت لك نعم الرفيق والشريك فلا تكرر التجربة الأليمة ولا تهدر المزيد من سنوات العمر .. وأنت أحق الناس بالتماس السلوى وطلب العزاء ولابد من أن تتفتح مسامك للحياة من جديد وأن تنظر حولك لترى بعض ما عوضتك الدنيا به عن قسوتها عليك ، ولا تفقد الأمل أبدا في حقك العادل من السعادة فإن كانت شمسها ولت بهذا الحادث المؤلم فإن غدا لناظره قریب .. ولسوف تشرق شمس سعادتك مرة أخرى بعد حين.


 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

شارك في إعداد النص / محمد عايدين

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات