دوائر الدوامة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

دوائر الدوامة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993 

دوائر الدوامة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

هناك مواقف في الحياة تشبه موقف الإنسان في السفينة حين يفاجأ بأن قاعها مثقوب والمياه تتدفق إليها بقوة وتهددها بالغرق خلال وقت قصير وفي مثل هذه الظروف لا يبحث المرء عن شريكه فيها ليحاسبه عن إهماله الذي أدى إلى ثقب السفينة ويطالبه بأن يصلح ما أخطأه وحده وإنما يتحمل أقداره وينهض لبذل كل ما يستطيع لسد الخرق ويحث شريكه على أن يبذل بعض العرق معه لإنقاذ السفينة التي ستغرق بهما معاً , ويرضى منه بما تسمح له طبيعته العاجزة ويعوض هو نقصه بما حباه به الله سبحانه وتعالى من قوة وحكمة وبصيرة.

عبد الوهاب مطاوع


تفتحت عيناي للحياة فوجدت نفسي أعيش مع أبي في شقة من أربع غرف وليس بين جدرانها سوانا أنا وهو, فقد رحلت أمي عن الحياة وأنا طفلة صغيرة في السابعة من عمري فلم يبق في ذاكرتي منها سوى طيف غائم .. ووجدت أبي يرعاني ويحنو عليّ ويقوم بكل شئوني , فأحببته واحتميت به واعتبرته أبي وصديقي وكل أهلي .

وكان أبي في طفولتي موظفاً في إحدى المصالح الحكومية فكان يصطحبني معه في الصباح إلى المدرسة ثم يذهب إلى عمله وانتظره في فناء المدرسة بعد انتهاء الدراسة حتى يأتي ويعيدني إلى البيت, ومهما تأخر في الحضور فلقد كنت انتظره ولا يسمح لي فراش المدرسة الخروج قبل حضوره .

ومازلت أذكر حتى الآن يوم أن تأخر في العودة ذات يوم .. وانصرفت كل التلميذات وخلا عليّ فناء المدرسة, وبدأت الشمس تميل إلى المغيب فوجدت نفسي أحس بالضياع القاتل وأخشى أن يكون أبي قد "مات" هو الآخر ولم يبق لي في الدنيا أحد بعده, فانفجرت في نوبة بكاء هستيرية ورحت "أولول" وانتحب وفراشو المدرسة يحاولون عبثاً طمأنتي وخرجت الناظرة في طريقها إلى بيتها حتى يعود أبي ويعرف من الفراشين بمكاني .. لكني أبيت أن أتحرك من المدرسة .. ولم أتوقف عن البكاء والعويل إلى أن رأيت أبي قادماً يلهث ويعتذر بأنه اضطر للسفر إلى مأمورية عمل طالت أكثر مما توقع , ولكن هيهات أن أغفر له ما فعل, فقد خاصمته, وفي بيتنا عاتبته بقسوة على تركي فريسة للخوف وصارحته بأنني ظننت أنه قد "مات" وتركني وحيدة في الحياة فدمعت عيناه واحتضنني معتذراً, و"أقسم" لي أنه "لن يموت" قبل أن أكبر وأتزوج ويطمئن إلى أنه تركني في رعاية زوج أمين يحبني ويرعاني مثله!

 

ولفترة طويلة بعدها ظللت أذكره "بوعده" هذا فيعيد تأكيده لي ويطيب خاطري .. ثم كبرت وانتقلت إلى المرحلة الإعدادية وأصبحت لي صديقات أروي لهن عن حياتي, وسألتني إحداهن مرة : لماذا لم يتزوج أبي بعد وفاة أمي ؟ .. فأزعجني هذا الخاطر وسألت أبي عن احتمال أن يتزوج ويبتعد عني, فأكد لي أنه ينتظر حتى يضعني على أول طريق المرحلة الجامعية ثم يختار لي من بين الشباب من يطمئن عليّ معه. وبعدها قد يفكر في الزواج.

وازددت حباً واحتراماً لأبي, فلقد كنت قد كبرت وفهمت حقائق الحياة وعرفت أنه قد تزوج أمي وهو في السادسة والعشرين من عمره فلم تطل حياتها معه أكثر من ثماني سنوات رحلت بعدها عن الدنيا بمرض خاطف , ووجد نفسه أرملاً في الرابعة والثلاثين من عمره , وبعد عامين من رحيل أمي شقت عليه وحدته فأراد أن يتزوج مرة أخرى, وفوجئ بأن كل من أراد الزواج منه إما أن ترفضه لأن معه طفلة أو تطلب منه التخلي عنها لجدتها لأمها, ولأنه قد تربى يتيماً ينتقل بين بيتي جده لأمه وجده لأبيه فلقد أراد أن يجنبني هذه الحيرة, وقرر أن يؤجل زواجه إلى أن أكبر ويقل اعتمادي عليه, وازددت إكباراً لأبي حين عرفت ذلك, وحاولت جهدي أن أعوضه عما يفتقده في حياته فأجدت كل شئون البيت وأنا في سن صغيرة, وأصبحت أطهو له كل أنواع الطعام وأغسل له ملابسه وأكويها وأنظف غرفته والشقة وأرتب له أشياءه.

 

وعشت حياتي ألازمه في معظم أوقاته وأخرج معه أيام الأجازات والعطلات وأرافقه في الزيارات العائلية وراقبت أبي والعمر يتقدم به فوجدته كما كان وسيماً وسامة الرجولة ومحترماً من الجميع ومتديناً يؤدي فروض دينه ويحرص على مراقبة أدائي لها, وفي عام الثانوية العامة_وكان قد ترقى في عمله وانتقل منه إلى إحدى الهيئات الحكومية، تفرغ أبي لرعايتي تفرغاً شبه كامل .. وأعفاني من أعمال البيت والمطبخ وأصبح هو الذي يطهو لنا الطعام وينظف البيت ويرعى كل شئوني وتفرغت للمذاكرة وكلي حماس لأن أحقق أمله في وأرد له جميلة, ووفقني الله إلى النجاح بمجموع كبير وإن نسيت كل شئ في الحياة فلن أنسى يوم ظهور نتيجة الثانوية العامة وعودة أبي حاملاً البشرى والدموع في عينيه طوال الطريق من المدرسة إلى البيت حتى ظن بعض جيراننا الطيبين أنني قد رسبت!

 

والتحقت بإحدى كليات القمة النظرية وبدأ أبي يبحث لي عن عريس ويتحدث إلى أهله وأهل أمي في ذلك بلا حرج, ورشحوا لي أكثر من شاب استشارني أبي في أمرهم ووافق على أفضلهم وكان شاباً يكبرني بعشر سنوات ومن أسرة طيبه ويعمل عملاً حراً يحقق له دخلاً كافياً.

وخطبت له وأنا في السنة الثانية من دراستي الجامعية وتم عقد قراني عليه في العطلة الصيفية.

وأردت أن أؤخر زواجي إلى ما بعد تخرجي لكن أبي عارضني في ذلك وشجعني على الزواج وإتمام الدراسة وأنا زوجة وأيده في ذلك بحماس خطيبي .. وتذكرت أن أبي قد بلغ السادسة والأربعين, ومن حقه أن يهتم بحياته الخاصة فوافقت على الزواج وانتقلت إلى بيت زوجي وافترقت عن أبي لأول مرة في حياتي, وبلغ أبي قمة سعادته في هذه الفترة وأحس أنه قد أدى واجبه كاملاً تجاهي .. فبدأ يستعد للزواج , وتزوج بعد شهور من زواجي بزميلة له في العمل أرملة ولديها ولد وبنت, ورأيتها فارتحت لها وأحببتها لما لمسته فيها من احترام لأبي وإن كنت لا أذكر إني أحسست ببعض الغيرة وأنا أرى نفسي أتراجع إلى هامش الدائرة في حياة أبي وغيري تتقدم إلى مركزها, ولاحظت أن أبي سعيد بزوجته وأنها تحسن عشرته وترعاه بحنان فاسترحت لذلك, وتفرغت لحياتي الجديدة وأنجبت طفلة ولم تمض فترة قصيرة حتى اكتشفت بعد قليل أن زوجي "رغم اقترابه من الثلاثين" إنسان مدلل ولا يعتمد عليه في شئ, وإنما يعتمد على إخوته الكبار وهو أصغرهم, وهم ثلاثة يعمل أحدهم في الخارج ويعمل الآخران في وظيفتين محترمتين بمصر, وقد تركوا له ميراث أبيهم بعد تخرجه ليعول به نفسه وأمه وأخته, فأساء إرادته بكسله واستهتاره وتراخيه فتدهورت أحواله المادية بعد عامين فقط من زواجي منه, وأصبح يخرج من أزمة ليقع في أزمة جديدة , واضطر إخوته لإعالة أمهم وأختهم الطالبة بالمرحلة الثانوية ومساعدته هو نفسه على حياته, وأصبت بصدمة العمر حين اكتشفت ذلك, وافتقدت الإحساس بالأمان الذي كنت أتطلع إليه طوال عمري وعاودتني مخاوفي القديمة من المستقبل حين كنت أطالب أبي بأن "يقسم" لي من حين لآخر أنه "لن يموت" ويتركني وحدي في الحياة , وزاد من مصيبتي أنني أنجبت طفلة أخرى وأنني لم أعمل بعد تخرجي استجابة لطلب زوجي حين كانت أحواله جيدة, فتحولت تدريجيا إلى"رجل" الأسرة الذي يفكر في مستقبلها ومستقبل الطفلتين ويحمل همومها .

 

أما زوجي فلا شئ يشغل تفكيره "وقاه الله شر التفكير والمسئولية" سوى قضاء يومه والتأنق في ملابسه والنوم 12 ساعة أو أكثر يومياً .. والطعام الجيد والخروج للنزهة وتأجيل أي عمل حتى لا يفوت موعده ويترك المشاكل تتفاقم إلى أن أفاجأ بإنذار قضائي بالحجز أو بإنذار بتقديم شيك بدون رصيد للنيابة فأفزع فزعاً شديداً .. وأسأله عما سيفعل فلا أجد لديه أية خطة ولا تفكير في الحل .. وإنما أجده أمامي عاجزاً عديم الحيلة محرجاً مني وغير قادر على تفسير أسباب ما حدث وبدلا من أن يهرع  للبحث عن حل وإنقاذ أسرته وعمله بأية طريقة يعتصم بالبيت رافضاً مغادرته ورافضاً مخاطبة أمه أو إخوته للتعاون معهم لإيجاد حل لمشكلته التي صنعها باستهتاره وتاركاً المشكلة تتضاعف والحلقة تضيق حول عنقه مفضلاً أن يختنق بها على أن يتحمل موقف المواجهة مع أمه وإخوته أو حسابهم له علي استهتاره وسوء تصرفه.. وأسأله وأنا أكاد أجن عما سيفعل فلا أجد لديه جواباً سوى الصمت .. والخجل .. والعجز عن التصرف والتفكير .. وهكذا أجد نفسي من حيث لم أتخيل المسئولية عن إخراج زوجي الذي يكبرني بعشر سنوات من ورطته والتفكير له في حل لها.. وأهرول إلى أبي وإلى أمه.. وإلي إخوته, وأخاطب شقيقه الذي يعمل بالخارج فيرفض إخوته الذين تحملوا عبثه طوال حياته في البداية تقديم عون جديد له بعد أن ضاقوا بكسله واستهتاره وأنانيته وعدم تحمله حتى لمسئولية نفسه .. ويرثون لحالي ويطالبونني بأن أدعه لنفسه ليفكر مرة واحدة في حياته في تحمل مسئوليته عن نفسه وعمن يعول وإيجاد حل لما يواجهه من مشاكل لكني لا أستطيع أن أتركه لنفسه .. وأرى الطفلتين أمامي وأراه أشد عجزاً منهما, فأهرول مرة أخرى إلى أبي ويذهب إلى أخوته مرة أخرى فيستجيبون أخيراً ويتدخلون لإنقاذه في اللحظة الأخيرة وهم يقسمون أنها المرة الأخيرة التي يفعلون فيها ذلك, فما أن تنتهي الأزمة بسلام وأتنفس الصعداء بضعة شهور حتى لا تتكرر نفس القصة بتفاصيل جديدة, وأجد صعوبة أكبر في إقناع إخوته بمساعدته لأن من سوء حظي , وشقائي في الحياة أنه مع كل ما قدمه له إخوته, يشعرهم بجحوده لهم وعدم اعترافه بالجميل ولا بتقدير مواقفهم له, ولا يجاملهم حتى في مناسباتهم العائلية, وقد اعتاد الأخذ منهم طوال حياته ولم يتعود أن يعطيهم شيئاً وهذه هي مصيبتي في الدنيا فأنا أعيش في خوف دائم من المستقبل وكلما واجهت أزمة من هذا النوع أحسست بحرج أبي الشديد مني وإحساسه بأنه قد أساء الاختيار لي وتعجل زواجي لكي يتزوج ويعيش حياته التي حرم منها سنوات طويلة من أجلي .

 

وفي إحدى أزماتي الشديدة بكيت من القهر أمامه وأفلت لساني بعتابي له على ذلك فبكي متأثراً .. وترك لي حرية الاختيار بين تحمل حياتي من أجل الطفلتين الصغيرتين أو الانفصال عن زوجي إذا عجزت عن الاحتمال والعودة للحياة معه ولو أدى الأمر إلى طلاقه زوجته وتكريس ما بقى من حياته من جديد لي وللطفلتين, لكن هل من العدل يا سيدي أن أحكم على أبي بالوحدة حتى نهاية العمر وهو مازال في الخامسة والخمسين؟

إنني رغم كل ما أعانيه لا أكره زوجي أو لم أصل بعد إلى كراهيته لكني أحس بالغيظ منه في أحيان كثيرة وبخيبة الأمل فيه ..لأني أملت أن أجد فيه ملاذي وحمايتي فأصبحت أنا ملاذه وحمايته, وفي بعض الأحيان أحس بالإشفاق عليه وبالحب له .. لكنه يبدد كل ذلك بضعف إرادته واستسلامه وعجزه عن الكفاح لحمايتي وحماية أسرته وطفلتيه التي تبلغ أكبرهما الثامنة من عمرها.

وقد فكرت جدياً ذات مرة في الانفصال عنه لكي يتحمل مسئولية حياته ونفسه فأصيب بهلع شديد وراح يستعطفني ألا أفعل , وكذلك فعلت أمه وأخته بإلحاح وطيبتا خاطري وطالبتاني بالصبر والاحتمال وهما تقدران ظروفي وتشيدان بي في كل مناسبة فعدلت عن الفكرة, لكنها عادت تراودني منذ أسابيع بعد أزمة أخرى أشد من أزماته المتوالية كنت قد حذرته من مقدماتها وهي في بدايتها وطالبته بالتحرك قبل أن تتفاقم وتتعقد فتكاسل كالعادة واستسلم للنوم والكسل حتى وقعت الواقعة ووقف أمامها وأمامي عاجزاً ينتظر مني أنا الحل!

 


 
ولـكـاتبة هـــذه الـرسالة أقـــول:

 

أنت في موقف عصيب حقاً يا سيدتي لكنه ليس ميئوساً منه بإذن الله, فزوجك شخصية اعتمادية اعتادت الاعتماد على الآخرين وانتظار أن يتدخلوا في الوقت الملائم لإنقاذه مما يمضي إليه مسلوب الإرادة مكبلاً بالعجز والكسل وافتقاد روح الكفاح كأنما يسير إلى ما ينتظره من هاوية سحيقة وهو منوم لا يدري من أمر نفسه شيئاً ومع ذلك فهو مؤمن دائماً بأن هناك من سوف يتدخلون للامساك بتلابيبه قبل أن يهوى إلى القاع السحيق.. وينتظرهم أن يفعلوا ذلك دون دعوة منه.. وبلا انتظار للشكر من جانبه على ما يفعلون لأن هذا هو "واجبهم" الأبدي تجاهه, وهذا هو "حقه" الخالد عليهم! .. إنها تركيبة نفسيه تتسم بالذاتية واعتياد الأخذ من الآخرين والعجز عن العطاء لهم .. وما تقاعسه عن طلب نجدة إخوته وأمه له بتعفف أو خجل من جانبه لكثرة ما قدموا له وما أخذ, وإنما جبنا عن مواجهة حسابهم له عن تخاذله الذي أدي به وبهم إلى كل هذه الكوارث , وإيهاماً لنفسه بأنه لم يطلب من أحد شيئاً وبالتالي فلا فضل لأحد عليه فيما قدم له.وهذا هو قمة الجحود ونكران الجميل والعجز عن العطاء حتى مجرد العطاء النفسي الذي يتمثل في العرفان والإقرار بالفضل ,ومشكلة زوجك الحقيقية أنه اعتاد منذ صغره أن يسحب من رصيد الحياة ولا يضيف إليه, وهو وأمثاله تنطبق عليهم عبارة الأديب الأيرلندي العظيم برناردشو:إن غضب الله سوف يحل بالذين لم يتركوا العالم أفضل مما وجدوه حين جاءوا إليه, وزوجك واحد ممن اختاروا لأنفسهم ألا يتركوا الدنيا أفضل مما وجدوها حين جاءوا إليها تقاعساً عن الكفاح وبذل العرق وتحمل المسئولية عن أنفسهم وعمن يعولون وركونا للعجز والكسل، مع أن الدين الحنيف يؤكد على لسان الرسول الكريم  أن : "المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز"

 

والحرص كما جاء في شروح الأحاديث الشريفة يستلزم القوة والإرادة والكفاح والدرس والنظر فيما يحقق النفع المشروع والإيمان بقيمته والسعي لطلبه, ورغم كل ذلك فلست أرى لك أن تسلمي أنت بالعجز والفشل معه وتعودي للحياة مع أبيك لأسباب هامة أولها أنه حتى إذا سلمنا بفشلنا في تحقيق بعض أهدافنا في الحياة فمن واجبنا تجاه أنفسنا أن نقلل من خسائر هذا الفشل بقدر الإمكان ونضيق دائرته, وإذا كنت قد فشلت في التماس الأمان الذي كنت تتطلعين إليه في زواجك, فمن واجبك ألا تدفع طفلتان ثمن هذا الفشل باهظاً, وحرمانهما من أبيهما الذي يحبهما ويتعلقان به ضريبة قاسية رغم كل شئ لانهيار حلم الأمان في خيالك, بل وعلى العكس فإنه سيضاعف من مشاكلك وسيضيف إلى مخاوفك القديمة مخاوف جديدة بشأن مستقبل الطفلين ومعاناتهما النفسية من الحرمان من أبيهما حتى لو بدأت حياة جديدة من غيره.

 

وثاني هذه الأسباب هو أن انفصالك عن زوجك وعودتك للحياة مع أبيك لن يمثل حلا نهائياً لمشكلتك..وإنما سوف تترتب عليه مشاكل عديدة من نوع آخر وسوف ينتهي الأمر إلى زيارة معاناتك الشخصية ,وقد يؤدي إلى انفصال أبيك عن زوجته وعودته لحياة الوحدة من جديد, وهذه أيضاً ضريبة قاسية ليس من العدل أن تطالبي أباك بها بعد كل ما ضحى به من أجلك, ولا أن تقبليها منه حتى إذا أراد أن يقدمها متطوعاً أو استشعاراً بمسئوليته عن سوء اختيار شريكك في الحياة.

 

 وثالثها أنك لا تكرهين زوجك رغم كل أخطائه وإنما تحبيه كما استشعرت ذلك من رسالتك لكنك تنقمين عليه تخاذله وضعفه وعجزه عن توفير الحماية النفسية لك على عكس ما كنت تأملين فيه بزواجك منه.وإن ننقم علي من نحب شيئاً لا يرضينا فيه..لا ينفي الحب وإنما يؤكد فقط تطلعنا لأن يكون أفضل مما هو عليه.

 

ولهذا كله فلن يكون الحل الملائم لك في الانفصال وإنما في تسليمك بأن هناك مواقف في الحياة تشبه موقف الإنسان في السفينة حين يفاجأ بأن قاعها مثقوب والمياه تتدفق إليها بقوة وتهددها بالغرق خلال وقت قصير وفي مثل هذه الظروف لا يبحث المرء عن شريكه فيها ليحاسبه عن إهماله الذي أدى إلى ثقب السفينة ويطالبه بأن يصلح ما أخطأه وحده وإنما يتحمل أقداره وينهض لبذل كل ما يستطيع لسد الخرق ويحث شريكه على أن يبذل بعض العرق معه لإنقاذ السفينة التي ستغرق بهما معاً , ويرضى منه بما تسمح له طبيعته العاجزة ويعوض هو نقصه بما حباه به الله سبحانه وتعالى من قوة وحكمة وبصيرة.

وشركاء الحياة يا سيدتي يتكاملون ويسد بعضهم نقص البعض الآخر حماية لأطفالهم الذين لا ذنب لهم في سوء قيادة الربان العاجز.. ولا في اختياره من الأصل لقيادة السفينة, فإذا كان الزوج لا يعتمد عليه وفاقداً لإرادة الكفاح وتحمل المسئولية نهضت الزوجة مرغمة أو راضية لاستخدام ملكاتها العقلية والذهنية في تعويض نقصه وجبر كسوره وسد ثغراته حرصاً على أسرتها وأطفالها واستقرارهم قبل أي شئ آخر.

 

وما أكثر الأسر التي ينطبق عليها الوصف الشائع في المجتمعات الغربية الذي يصفها بأنها "أسرة الأب الواحد" بدلاً من أبوين وهذا الأب الواحد قد يكون الأم إذا كان الأب غائباً أو مستهتراً أو عاجزاً عن تحمل مسئولياته, وقد يكون الأب الطبيعي إذا كانت الأم غائبة أو غير مؤهلة لتحمل مسئولياتها بكفاءة مع زوجها.

وللأسف فإن أسرتك الصغيرة ستبقي لفترة على الأقل من هذا النوع من أسر "الأب الواحد" وستكونين أنت هذا الأب المهموم بمستقبل أبنائه وأسرته وبتأمين حياتها وحمايتها من المجهول .. فاحملي أقدارك يا سيدتي على كتفك وامضي في طريقك صابرة ومحتسبة , فلقد فات أوان تصحيح خطأ الاختيار بعد مجئ الطفلتين ولم يبق أمامك إلا تحديد الخسائر وتقليل الأضرار, وليس الأمل مستحيلاً رغم ذلك في أن يتغير  زوجك على المدى البعيد ويتخلص من عجزه وكسله وعيوبه النفسية ويشاركك أو يحمل عنك مسئولية أسرته رغم تسليمي بمشقة تغيير الطباع المستقرة وعنائه وما تحتاج إليه من صبر ووقت طويل.

 

والحق أن زوجك لم يخلق لتحمل مسئولية عمل خاص يتخذ فيه القرارات وينفذها بإرادته ويعرق ليجني ثمار كفاحه فيه, ولهذا فإن الأنسب له أن يعمل موظفاً بأي أجر وفي أي مكان وأن تعملي  أنت أيضاً أي عمل لتضمني لنفسك وأسرتك حداً أدنى من الأمان المادي, فاستعيني بإخوته وبأبيك على إيجاد هذا العمل له ولك أنت أيضاً بعد أن تغيرت الظروف التي دعت زوجك لرفض عملك في بداية الزواج وكافحي معه لإكسابه القدرة على العطاء النفسي للآخرين ولإقناعه بأن الدنيا أخذ وعطاء وليست أخذاً فقط ولتعويده على ألا يتقوقع داخله منتظراً من الحياة أجمل ما فيها وبلا أي جهد يرشحه لذلك. وألا ينتظر من إخوته أن يبادروا دائماً بحل مشاكله دون أن يطلب منهم ذلك ولا أن يشكو همهم عليه وبغير أن يعترف لهم بفضل أو جميل مع أنهم لو سحبوا دعائمهم التي تقيم حائطه المائل لانهار من أساسه إلى الأبد..فهذا هو الحد الأدنى البسيط الذي يملك أن يقدمه لهم ولك ولغيرهم .. وهو العرفان.

 

بل إنه يقدمه لنفسه هو قبل أن يقدمه للآخرين لأنه يحفزهم بعرفانه لهم علي العطاء له وإعانته علي أمره كلما واجه مشكلة جديدة ومصيبة الجاحد هي أنه يغلق علي نفسه هو أبواب الرحمة في السماء والأرض بجحوده دون أن يدري ,فالنفس البشرية مهما كانت فضائلها لا تتحمس كثيراً لخدمة تعلم عن يقين أنه لن يقدر لها عطاءها أو يعترف لها به وكتمان الشكر كفر يا سيدتي كما جاء في مضمون الحديث الشريف.وجاء فيه أيضاً "لا تحقرن من المعروف شيئاً , أي لا تستهن ولا تكتم الشكر علي كل جميل يقدم إليك مهما كان ضئيلاً,ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله" كما جاء في الأثر أيضاً,فواصلي الكفاح معه لإيقاد شعلة الإرادة..المنطفئة داخله.. ولتخلصيه من عيوبه النفسية التي تزيد من معاناته ومعاناتكم معه أعانك الله عليها يبقي بعد ذلك شئ أخير أريد أن أهمس لك به هو أني أريدك أن تعفي أباك من هذا الإحساس المؤلم بأنه قد أساء الاختيار لك, فهو في الحقيقة أب مضح تفانى في حبك ورعايتك وعلى استعداد لأن يقدم لك المزيد من التضحيات ولو على حساب سعادته الشخصية وحرمانه,والحق أنه لا مبرر لإشعاره بهذا الحرج الإنساني الأليم, فلقد كانت الصورة أمامه حين وافق على ارتباطك بزوجك تبدو مشرقة ومبشرة فهو شاب من أسرة طيبة يملك أو يدير عملاً كان واعداً بالخير لو حافظ عليه ونماه ولم يتخاذل ويتقاعس عن المحافظة عليه وهو كما تشهدين له يحسن معاشرتك ولا يسئ إليك بكلمة ويحبك ويحب طفلتيه كثيراً, فإذا كانت عيوبه الأخرى قد خفيت على أبيك فلا لوم عليه في ذلك لأنها في الحقيقة من العيوب التي لا تكشفها إلا طول المعاشرة واختبارات الحياة المختلفة ونحن مهما أجهدنا أنفسنا ودققنا وتحرينا كل أسباب ومقومات حسن الاختيار فإن التوفيق في الزواج في النهاية من أمر الله وحده سبحانه وتعالي, ولسنا نملك في هذا الشأن إلا أن نتفادى العيوب الواضحة كالتفاوت الصارخ في السن والمستوي الاجتماعي والثقافي والتناقض الحاد بين الشخصيات وبذور المشاكل الحادة التي تنذر بالمعاناة في المستقبل عند اختيار شركاء الحياة..وبعد كل ذلك..فقد ينجح ويستمر زواج توافرت له بعض أسباب النجاح وليس كلها وقد يفشل وينهار زواج آخر توافرت له كل أسبابه كما تحريناها ودققنا فيها,لهذا فلا لوم على أبيك ولا عليك في شئ وإنما هي أقدار يتحملها الإنسان ويأمل دائماً في رحمة ربه ورعايته.وقديماً تزوج الشاعر الألماني الكبير جوته فهنأه أحد أصدقائه على الزواج فنظر إليه جوته عاتباً وقال له:هل يصح أن يهنئ المرء إنساناً على أنه قد اشترى ورقه يانصيب قد تربح وقد تخسر!

وهكذا الحال غالباً في أمور الزواج .. فواصلي كفاحك مع زوجك إلى النهاية .. والله معك.

 رابط رسالة تحت المائدة نعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1993

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات