الحزام المشدود .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000
مازلت
أعجب ممن يحرم نفسه وأبناءه وزوجته من ضرورات اليوم لحساب رفاهية مؤجلة غير مضمونة
في الغد .. وقد تجيء وقد لا تجيء وإذا جاءت فقد تجيء بعد أن تكون الصحة قد غابت
وفقدت النفس قدرتها علي الاستمتاع بمباهج الحياة .. أو قد تجيء وقد تشبعت نفوس
الأبناء بالمرارة تجاه الأب الذي حرمهم في طفولتهم وصباهم وربما شبابهم أيضا من
بهجة الحياة,، فلما أصابوا الثراء في شيخوخته لم يحملهم ذلك علي تغيير نظرتهم
إليه ولم يشفع له عندهم في اكتساب مودتهم ومشاعرهم التي أفسدتها مرارة الحرمان
سنوات طوالا.
عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة
أكتب إليك رسالتي هذه لأقص عليك مأساتي التي
أعيشها أنا وأبنائي مع زوجي الذي يعمل أستاذا جامعيا وله من عمله دخل ممتاز إلى
جانب دخله من المشروعات المتعددة التي تعود عليه بالربح الوفير.
فلقد تخرجت في
كلية مرموقة بتقدير جيد لكني لم أعمل.. ولعلي لو كنت قد عملت عقب تخرجي لربما
كانت معاناتي مع المشكلة التي أكتب لك بشأنها أخف وطأة.
أما سبب لجوئي إليك فهو أن زوجي شديد الإعجاب بك وبردودك على من يطلبون مشورتك
للخروج بهم من الأزمات التي تواجههم, ولأني على ثقة من أنه سوف يسمعك ويعمل
بنصيحتك ويرحمنا من العذاب الذي نعانيه.
فزوجي بالرغم من سعة رزقه يبخل علينا بماله ولا يعطينا منه شيئا على الإطلاق ولكي
تشعر بجدية مشكلتنا فسوف أحكي لك عن نظام حياتنا معه.. فنحن لدينا أبناء في
مراحل التعليم المختلفة من الحضانة حتى المرحلة الإعدادية, وزوجي يحرمهم جميعا
من المصروف ولا يعطي أحدا منهم قرشا واحد كمصروف شخصي له بحجة أن إعطاءهم النقود سيؤثر
سلبيا علي أخلاقهم ويعرضهم للإنحراف ومجاراة أصدقاء السوء!.. والنتيجة هي ان
أبنائي يمدون أيديهم لزملائهم في المدرسة ليأخذوا منهم قطعة حلوى أو لبان أو شيبسي
لأنه لا وسيلة لهم لتذوق مثل هذه الأشياء التي يتطلع إليها الأطفال إلا بتسولها من
زملائهم الذين يقولون لهم أنهم شحاذون.. ويرجع إلي أبنائي ليشكو لي من ذلك!
كما أن زوجي يحرمنا جميعا
من شتي أنواع الفاكهة بحجة أنها قد تم رشها بالكيماويات والمبيدات الخطيرة جدا على
صحة الإنسان, ونظرا لأنه يخاف علينا من أضرارها فهو يحرمها علينا ولا يسمح
بشرائها أو دخولها البيت مع أنني قد أكدت له مرارا وتكرارا أن نغسل الفاكهة جيدا
بالماء النظيف يكفي لتجنب هذه الأضرار.
أما عن الطعام فنحن لا نعرف منه طوال أيام الأسبوع إلا الأنواع الشعبية الرخيصة
كالفول والطعمية والكشري الأسكندراني وهي طعامنا كل أيام الأسبوع إلى أن يجيء يوم
الجمعة.. وهو اليوم العالمي للتغذية في حياتنا فيقوم زوجي بشراء كيلو جرام من
اللحم المجمد ويدخل به المطبخ ليطهوه بنفسه لكي ينفرد به ويظل يتسلي بالتهام معظمه
خلال الطهي والأبناء ينتظرون الغداء الشهي بفارغ الصبر, وبعد ساعات من غياب زوجي
بالمطبخ يخرج علينا وقد وضع لكل فرد منا قطعة صغيرة من اللحم على طبق الأرز ويبدأ
يوم الغداء العالمي في بيتنا.
أما أنواع الحلوى من الجاتوه والشيكولاته والبونبون فكلها بلا استثناء من المحرمات
علينا لأنها تهدد أسنان الأبناء بالتسوس وهو يريد لأبنائه ولي بالطبع أسنانا سليمة
ناصعة البياض! وذلك بالرغم من أنه حين يشهد معنا حفل زفاف أو قران لأحد
الأقارب يلتهم كل ما يقع تحت يده من التورتة والجاتوه بلا رحمة, ويحث أبناءنا على
أن يلتهموا منها بقدر ما يستطيعون, لكي تمدهم بالنشاط وتعينهم على السهر حتى
نهاية الفرح كما يقول لهم!
فضلا عن أنه يمسك بمصروف البيت في يده ولا يعطيني مليما واحدا منه بدعوى أن
السيدات لا يصلحن لإدارة الشئون المالية للأسرة ولأنهن قد خلقن كما يقول لرعاية
الزوج والسهر علي راحته وراحة الأبناء ولهذا فان الزوجة المثالية كما يؤكد لي
مرارا وتكرارا هي خادمة وعشيقة فقط ولا تصلح لأي شيء آخر!
والنتيجة يا سيدي هي أنه لولا مساعدة أبي المادية لي لما استطعت اجتياز كثير من
مصاعب الحياة التي واجهتها وأوجهها كل يوم.. لكني أشعر بالحرج الشديد من مساعدة
أبي لأنه أحق بما يعطيه لي وقد أدى رسالته نحوي ونحو أخوتي على أكمل وجه ولم
يحرمنا من شيء.. فإذا بي أصبح عبئا عليه أنا وأبنائي وأنا أعيش في كنف رجل آخر
كل همه هو الادخار والادخار فقط.
لقد تحدثت إلى زوجي مرارا وتكرارا ولجأت إلى أهلي وإلى أهله لكي ينصحوه بأن يرحمنا
ويخفف عنا جفاف حياتنا.. فكان رده علي وعلى الجميع أن لديه مشروعات عديدة
وطموحات كبيرة لابد له من أن يحققها أولا قبل أن يتخفف من هذا الجفاف .. حتى
والده الرجل الطيب قال له: إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.. فأجابه
بنفس الرد وطلب منه أن يدعه يحيا حياته كما يريدها مؤكدا له انه لا يحرمنا من
شيء!
وبعد فشل جميع المحاولات من جانب والدي ووالده قررت أن أطلب منه الطلاق لأتخلص من
هذه الحياة المهينة القاسية الجافة.. لكني بعد أن قرأت رسالة الطفلة التي نشرتها
بعنوان البيت الجميل والتي تشكو من حرمانها هي وشقيقتها من أمها بعد طلاقها من
أبيها, شعرت بالحزن والأسى.. واستشعرت خطورة كلمة الطلاق وخشيت على أبنائي من
مصير هذه الطفلة, وحاولت بشتى الطرق إصلاح زوجي وتذكيره بنعمة الله الجليلة
علينا وهي الأبناء وكيف أن علينا أن نرعاهم ونوفر لهم الحياة الكريمة فلم يسمع لي
مع أنه كاد يبكي وهو يقرأ رسالة هذه الطفلة في بريد الجمعة!
إنني لن أخفي عليك أنني قد اضطررت مع استمرار حرمانه لنا أن أخذ من ماله مبلغا
بسيطا لأشتري ملابس لأولادي ولي, ولكي أرى الفرحة في عيونهم بعد طول حرمان من
الملابس الجديدة يرتدونها أمام الأقارب والأصدقاء, والنتيجة معروفة مقدما..
فقد ثار علي زوجي ثورة عارمة واتهمني بأنني نشالة ولصة وعديمة الأخلاق والتربية
ووجه لي شتائم وألفاظا لا أستطيع أن أخطها لك. وتحملت كل ذلك من أجل أبنائي كما
تحملت الكثير من قبله.
إنني أرجوك أن توجه إليه كلمة تنصحه فيها بأن يرحمنا. وتقول له أن الأبناء نعمة
من الله يجب عليه رعايتها وان لهم عليه حقا ولزوجته كذلك هذا الحق فلقد قال الله
سبحانه وتعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا وهو لا يعترف بزينة الأبناء
ويعترف فقط بزينة المال.
سيدي أنك الآن الأمل الوحيد الباقي لنا للخروج مما
نحن فيه من حرمان وشقاء.. فهل تستجيب لرجائي ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
وهل تظنين حقا يا سيدتي أن كلمة أوجهها إلى زوجك
العزيز يمكن أن تعدل به حقا عن الخطة التي ارتضاها لحياته.. ورضي معها لنفسه
وزوجته وأبنائه بهذه الحياة الجافة المحرومة.. حتى يتطلع أطفاله إلى ما في أيدي
قرنائهم ويستجدوهم بعضها ؟
لقد تحدثت في رسالتك عن ضرورات الحياة كالطعام والكساء وإشباع رغبات الأطفال مما
يتفكه به الصغار, ولم تشيري إلى ما لا يعد من كماليات الحياة بالنسبة للقادرين
كالنزهات والرحلات والأندية وغير ذلك مما تستروح به الأسرة وتخفف به عنها عناء
الأيام, ولقد فشلت مع زوجك كل جهودك وجهود أهلك وأهله في إثنائه عن هذه الخطة الشائنة
وهو الأستاذ الجامعي وصاحب المشروعات والأعمال والطموحات, فكيف تنجح إذن كلمة من
ناصح مثلي فيما فشل فيه الأقربون.. وكيف تحرك في قلبه ومشاعره ما لم تحركه نظرات
الحرمان في عيون الأبناء ؟
إن البخل آفة لا علاج لها للأسف.. ولا أمل كبيرا في الشفاء منها إلا في أندر
الأحوال, وتحت تأثير قوى قهرية ضاغطة لا يملك معها صاحبه إلا أن يتنازل كارها عن
بعض شحه وتقتيره وليس عن كله تجنبا لأضرار أكثر عليه خطرا من تفريطه المحدود في
المال كخطر انفراط عقد الأسرة بالطلاق مثلا ان لم يستجب لمطالب الزوجة بالإنفاق
عليها وعلي الأبناء بما يليق بمستواه الاجتماعي والمادي أو ما شابه ذلك من
الضغوط. أما عدا ذلك من المناشدات والرجاءات فلا تحرك ساكنا لدى من يرى في المال
قيمة تعلو على كل أهداف الحياة وفي مقدمتها سعادة الأبناء والزوجة واستقرار الحياة
الزوجية وهناؤها لهذا فإن أفضل السبل لمواجهة هذا الحرمان الذي تكابدينه هو
ان يكرر والده ووالدك ضغطهما عليه بشدة لتحديد مبلغ عادل يتناسب مع مطالب الأسرة
واحتياجات الحياة للإنفاق عليها شهريا سواء تمسك هو بإدارة موازنة الأسرة أو تخلى
عنها لك, ولو تطلب الأمر أن يتعهد والده بضمان إنفاقه لهذا المبلغ أو تقديمه لك
كل شهر, مع التأكيد له بان ذلك لن يؤثر على خططه للإثراء وتنفيذ الطموحات
والمشروعات, وان كنت مازلت أعجب ممن يحرم نفسه وأبناءه وزوجته من ضرورات اليوم
لحساب رفاهية مؤجلة غير مضمونة في الغد.. وقد تجيء وقد لا تجيء وإذا جاءت فقد
تجيء بعد ان تكون الصحة قد غابت وفقدت النفس قدرتها علي الاستمتاع بمباهج
الحياة.. أو قد تجيء وقد تشبعت نفوس الأبناء بالمرارة تجاه الأب الذي حرمهم في
طفولتهم وصباهم وربما شبابهم أيضا من بهجة الحياة, فلما أصابوا الثراء في
شيخوخته لم يحملهم ذلك علي تغيير نظرتهم إليه ولم يشفع له عندهم في اكتساب مودتهم
ومشاعرهم التي أفسدتها مرارة الحرمان سنوات طوالا.
مع ان العقل يقول لنا أن الإنسان ليس مطالبا بان
يحرم يومه مثل هذا الحرمان القاسي لحساب غده الذي قد يجيء وقد لا يجيء وأنه يستطيع
مادام قادرا أن يحيا حياة كريمة معتدلة بغير أو يؤثر ذلك علي خططه للمستقبل إذا
كان مقدرا له من الأصل أن يكون ذات يوم من أهل الثراء ولم يكن من الواهمين
الحالمين والذين يجرون وراء سراب حلم الثراء الواسع بغير قدرات ولا مؤهلات يرشحهم
له.
والحق أنه تحيرني دائما قدرة الإنسان علي خداع النفس والغير وعلي استخدام المبررات
النبيلة في تبرير الأفعال والتصرفات الشائنة وهي سمة ينفرد بها الإنسان دون
بقية الكائنات التي لا تخفي رغباتها وغرائزها.. ولا تحاول تجميلها وإلباسها ثوب
الفضائل والنبل فزوجك يا سيدتي يحرم أطفاله من المصروف ـ بخلا وشحا وتقتيرا عليهم
ـ لكنه لا يعترف بذلك لنفسه ولا لك وإنما يبرره برغبة نبيلة وهدف تربوي سام وهو ان
يحميهم من خطر الانحراف الأخلاقي! ويغيب عنه في نفس الوقت ان من الوسائل
التربوية أيضا التي تبني شخصية الطفل وتساعده علي استقلالية التفكير والتصرف أن
يتعود منذ الصغر علي التعامل مع النقود وشراء احتياجاته بنفسه وحساب تكلفتها
وموازنة دخله من المصروف مع إنفاقه علي متطلباته الصغيرة!
وزوجك يحرم نفسه وزوجته وأطفاله من كل أنواع الفاكهة والحلوى فلا يعترف لكم بأنه
إنما يفعل ذلك ــ شحا وتقتيرا ـ لكي تزداد مدخراته علي حساب حرمان أطفاله مما تهفو
إليه نفوسهم, وإنما يبرره بالحرص علي صحة أفراد أسرته وسلامة أسنانهم!
وهكذا يتواصل خداع النفس والغير إلي ما لا نهاية, وإذا كنت قد افتقدت في رسالتك
تبريره النبيل لحرمان أسرته وهو الرجل القادر من أطايب الطعام طوال أيام الأسبوع إلي
أن يجيء يوم الغذاء العالمي كل جمعة, فلن يكون غريبا أن يبرر لكم ذلك أيضا بحرصه
علي رشاقة أجسام أفراد الأسرة وحمايتها من أضرار السمنة!
والكارثة ليست فقط في أن يرضي هذا الأستاذ الجامعي وصاحب المشروعات والطموحات
لأسرته بمثل هذا الحرمان الشائن من ضرورات الحياة, لكنها أيضا في هذه الحمى
التي تنتاب البعض للإثراء والرغبة في التحول بقدرة قادر إلي أصحاب ملايين ولو أضاعوا
في سبيل ذلك أسرهم وأبناءهم وأهانوهم بالحياة الجافة المحرومة وأهانوا أنفسهم في
أعين أبنائهم وشركاء حياتهم والأهل الأقربين ولكل إنسان أن يضع نفسه حيث يراها
جديرة بأن تكون. وعطاء المرء القادر لأسرته وأبنائه وزوجته إنما يكون علي قدر
اعتزازه بنفسه وإحساسه بجدارته وليس فقط علي قدر إعزازه لهم.
ولقد قيل قديما لرجل: لنا عندك حويجة أي حاجة صغيرة فأجابهم الرجل من فوره:
إذن فاسألوا لها رجيلا تصغير رجل لأنه يري نفسه أحق بأن تطلب منه الحاجات الكبيرة
وليس سفاسف الأمور الصغيرة!
ولن أقول بدوري لزوجك الأستاذ الجامعي أن لنا لديه حويجة هي أن يعطي أبناءه الصغار
مصروفا معتدلا ويخصص لزوجته أو لأسرته مبلغا عادلا يلبي به مطالب حياتها بطريقة
كريمة تشعر الزوجة والأبناء باعتزازه بهم ورعايته لهم وحدبه عليهم وإنما سأقول له
إن لنا لديك حاجة لا تطلب إلا من الرجال وهي أن ترعي أسرتك وأبناءك وزوجتك بما
يليق بك وبمركزك العلمي ووضعك الاجتماعي والمادي لأن مال الدنيا كله لن يعوضك عن
تحول مشاعر زوجتك وأبنائك عنك خاصة بعد ان يشبوا عن الطوق ويتفهموا حقائق الحياة
ويتمردوا علي الأب الذي يحرمهم مما يتمتع به غيرهم في نفس ظروفهم الاجتماعية,
وفي هذه الحالة فلسوف تنفق المال الذي تضن به عليهم الآن كارها أو راغما لكنك
ستنفقه تحت ضغط الأبناء بغير أن يكون لعطائك لهم مردود عطاء الأب للأبناء الذي
يتألف قلوبهم.. ويجمعهم حوله ويزيدهم حباله.
فأختر لنفسك ما تشاء يا سيدي فلك ـ قبل كل أفراد أسرتك ـ ما سوف تختاره لنفسك من
حب الزوجة والأبناء.. وعليك ما سوف تطلبه لها من تنكرهم لك في المستقبل المنظور
وشكرا.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر