أنا طبيب شاب في التاسعة والعشرين من عمري نشأت في أسرة متعاطفة متدينة بين أب
رحيم بمعنى الكلمة ومثقف وأم حنون متعلمة, وأخ يكبرني ويعمل مديرا بإحدى الشركات
الكبرى وأخت تصغرني ببضع سنوات, وقد تمنيت منذ صغري أن أكون طبيبا فاهتممت
بدراستي وأحببتها, واخترت أن أكون إنسانا خدوما لا أتأخر عن تقديم أي خدمة
أستطيعها لمن يطلبها مني, وأنهيت دراستي وبدأت سنة التدريب العملي وحصلت على
دبلومين دراسيين بعد التخرج, وكم كانت فرحة أهلي حين عينت معيدا بالكلية وبالقسم
الذي أحبه.. فبدأت الاستعداد لدراسة الماجستير واخترت موضوعا يفيد المرضى
ووافقني عليه أساتذتي, لكنه كان يتطلب تكاليف باهظة, للبحث العلمي فتم التنسيق
بين كليتي وبين مركز البحوث, وأصبحت أعمل في الصباح بمستشفى الجامعة, وأقضي
بقية اليوم في أكاديمية البحث العلمي, وكنت قد ارتبطت عاطفيا بزميلة لي وتمت خطبتنا
فبدأ أهلي يطلبون مني التعجيل بالزواج.. خاصة وأنه قد تخرجت خطيبتي, وحصلت أنا
على الماجستير.. وعملي في الكلية موضع رضا أساتذتي وكل شيء يدعو للابتهاج
والتفاؤل .
واستجبت لرغبة الأهل وبدأت مع خطيبتي في
إنهاء عش الزوجية والاستعداد للزفاف فإذا بي اسقط مغشيا علي وأنا أقوم بفحص أحد
المرضى وأفقت من غيبوبتي فوجدتني ممددا فوق أحد أسرة المستشفى الذي أعمل به..
وبجواري عدد من زملائي الأطباء.. وفوجئت بأقربهم إلي يبلغني بأن مستوى السكر لدي
يبلغ خمسة أضعاف المعدل الطبيعي, وأنه سبب هذه الغيبوبة المفاجئة! وتساءلت
متألما سكر في هذه السن؟ ثم سرعان ما استعدت توازني.. وأعانني على ذلك التفاف
الأهل والأصدقاء حولي.. لكني فوجئت بعد ذلك بفتور خطيبتي تجاهي وفوجئت بها تكثر
من الحديث المتشائم معي عن المشاكل الصحية المتوقعة في المستقبل بالنسبة لمرضي..
والمضاعفات.. والمحاذير الخ.. وكأنني مريض تفحصه ولا تربطها به صلة ولست
خطيبها.. وأدركت الموقف المؤلم.. وأحسست بالمرارة.. وخلال فترة قصيرة كانت
قد انسحبت من حياتي تاركة وراءها غصة في النفس والقلب, وكمحاولة من جانب أبي لأن
يخفف عني بدأ يلح علي في أن ارتبط بابنة أقرب أصدقائه إليه.. ولم أجد ما يمنعني
من الاستجابة لرغبته خاصة وأنها فتاة مهذبة وزوجة صالحة لمن يرتبط بها.
وبدأنا نتحدث في الأمر مع والدها.. ووجدت من
واجبي أن أصارحه بمرضي فأبلغته به.. فانفرد بي جانبا وأبلغني بطريقة مهذبة أنني
إذا أصررت على هذا الارتباط فلن يعارضه لكنه يفضل لو جاء التراجع أو الرفض من
جانبي أنا.. وليس من ناحيته حرصا على صداقته لأبي.. وأبت علي كرامتي أن استغل
حرج والد الفتاة من أبي واستمر في مشروع الخطبة فعزفت عنها دون إبداء أية أسباب
لأبي.. لكني تساءلت ممرورا وهل ضمنت خطيبتي الأولى أو الثانية ألا يصاب من ترتبط
به برباط الزوجية بالمرض في المستقبل؟ وهل الزواج هو مجرد علاقة جسدية أو مادية
فقط.. وسلمت أمري لخالقي وعرفت أن الله سبحانه وتعالى سوف يعوضني خيرا وأسدلت
الستار على موضوع الارتباط والزواج في حياتي.. وانخرطت في العمل باهتمام
مضاعف.. وكرست كل وقتي له وزاد دخلي كثيرا والحمد لله.. وبدأت في التفكير في
إنشاء مركز صغير متخصص في مجالي.. وشجعني أبي أكرمه الله على هذا المشروع
وساعدني عليه ماديا.. وأشركت معي أخلص أصدقائي.. وحصلنا على المكان..
وتعاقدنا على الأجهزة.. واحتاج الأمر إلى بعض عمليات الهدم والبناء الداخلية
ورشح لنا الأصدقاء إحدى الشركات المتخصصة في هذا المجال وطلبنا موعدا مع مسئول هذه
الشركة وذهبنا إليه فإذا به مهندسة شابة جميلة ومريحة.. وتم الاتفاق وبدأ تنفيذ
الأعمال.. ووجدتني أتردد على المكان كثيرا.. واختلق الأعذار والأسباب لأتصل
بالمهندسة المشرفة وأتحدث إليها.. وسلمت داخليا أن ينبوع الحب المحبوس داخلي قد
تفجر منذ رأيت هذه المهندسة وتعاملت معها..
وانتهت الأعمال.. وشعرت بأن الفرصة تضيع
من بين يدي فتجرأت وسلمتها ورقة صغيرة أعبر لها فيها عن مشاعري الصادقة وأسألها عن
رأيها في. وفي المساء اتصلت بها متوجسا وحدثتها فبكت وصارحتني بأنها تبادلني
مشاعري لكني استحق من هي أفضل منها لأنها مطلقة ولديها طفلة صغيرة, وأنهت
المكالمة دون أن تدع لي أي مجال للمحاولة معها واتصلت بوالدها فوجدته يعرف بما حدث
وروى لي عن سوء حظها في زواجها السابق وكيف تزوجت من اختاره هو لها وهو ابن أحد
أصدقائه ولم يكن يعرف الكثير عن هذا الابن, وكيف تبين بعد الزواج بثلاثة أسابيع
فقط ولسوء الحظ أنه مدمن وكيف انتابته حالة هياج مدمرة ضربها خلالها بعنف شديد
فكسر يدها وأصابها إصابات متعددة فرجعت إلى بيت أبيها وطلبت الطلاق وحصلت عليه,
وبعد شهرين فقط من الطلاق مات زوجها السابق بجرعة زائدة لكنها كانت قد اكتشفت أنها
حامل, ورفض هو أي محاولة لإجهاض ابنته.. واعتبر مولودتها حين جاءت إلى الحياة
أختا صغرى لها.. وتقدم لها بعد الطلاق كثيرون لكنها عزفت عن الزواج تأثرا بمرارة
تجربتها الوحيدة معه.
وشعرت أنا بأن تمسكي بها قد ازداد عمقا بعد
أن عرفت كل ذلك عنها وطلبت من والدها أن التقي بها في بيته وقابلتها عدة مرات
وأحببت طفلتها الصغيرة وتعلقت بها, وعرضت الأمر كله على شقيقي الأكبر فباركه
وتعرف على تلك السيدة الشابة وأحبها واحترمها.. وعرفتها بأبي وأمي وأختي فأحبوها
ورحبوا بها وتنبهت إلى أنني لم اخبرها بعد بمرضي.. وربما لأنني خشيت أن تتركني
إذا عرفت؟ واستخرت الله سبحانه وتعالى وصارحتها فبكت وتساءلت.. وماذا لو كانت هي
التي مرضت بهدا المرض.. أكنت سأتركها وأنصرف إلى غيرها؟.. ثم شاركتني الاهتمام
بأسلوب الغذاء والرعاية والمتابعة لدى الطبيب المعالج بحب ومودة.. وأحسست بطعم
السعادة الحقيقية معها وبمجرد رؤيتها وسماع صوتها, وحانت اللحظة الحاسمة لإبلاغ
أبي وأمي وأختي بظروفها الاجتماعية كمطلقة وأم لطفلة صغيرة, فلم تغير والدتي
وأختي رأيهما فيها.. أما والدي الحبيب فلقد رفض ارتباطي بها بعنف شديد قائلا
لي, إنني قد خنت الثقة ولم أصارحهم بظروفها منذ بداية التعارف وها هو ما أعترف
به بالفعل لأنني لو كنت قد صارحتهم بالتفاصيل في البداية لما سمحوا لي بتقديمها إليهم
ولضيقوا علي الخناق حتى لا أعرفها.

ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لا خلاف على أنك قد
أخطأت بتعمدك إخفاء حقائق الظروف الاجتماعية للسيدة الشابة التي ترغب في الارتباط
بها عن أبيك منذ بداية تعرفه عليها. ولا يشفع لك في ذلك تخوفك من أن يرفضها على
التو إذا عرف بظروفها في تبرير هذا الخطأ, لهذا فهو محق تماما في إحساسه بأنك قد
حاولت استدراجه للقبول بارتباطك بها بغير أن تضع أمامه كل الحقائق الصحيحة
عنها.. ومحق كذلك في استنكاره لهذا التصرف من جانبك لأنه يتعارض مع الثقة التي
يمنحها الأب لابنه.. ومع أمانة هذا الابن في عرض الأمور عليه فالحقيقة خير دائما
من أي زيف.. وفارق كبير بين أن يختلف الأب مع ابنه في تقديره لبعض الأمور
اعتمادا على الحقائق الصحيحة.. وبين أن يستدرجه هذا الابن لتأييد بعض المواقف أو
الاختيارات بالتعمية على بعض الحقائق أو إخفائها. ففي الحالة الأولى يكون الأمر
خلافا مشروعا في الرأي والرؤى بين الأب وولده أما في الحالة الثانية فإنه يكون خطأ
أخلاقيا مؤسفا من جانب الابن في حق أبيه ولهذا كله فأنت مطالب أولا وقبل كل شيء
بالاعتراف لأبيك بهذا الخطأ والاعتذار عنه.. ومن ثم يبدأ الحوار حول رؤية كل
منكما لمن ترغب في الارتباط بها.
وفي كل الظروف والأحوال فلابد أن نسلم بأن دوافع أبيك للاعتراض على هذا الاختيار
هي في الأصل دوافع تتعلق بحدب هذا الأب عليك.. وحرصه على سعادتك الشخصية من وجهة
نظره ورغبته في سعادتك وفقا لمفاهيمه واستطرادا لأمنية كل أب لأن ينال ابنه دائما
أفضل عطايا الحياة والحد الأقصى من الأشياء ومن زاوية الرؤية هذه فإنه يرى أن هذا
الزواج ليس الاختيار الأمثل لك لأنه يتضمن تنازلا عن الحد الأقصى للأشياء وقبولا
بعبء عائلي لا يرى أن ظروفك كشاب لم يسبق له الزواج تضطرك للقبول به وهو طفلتها
الصغيرة غير أنه لا يغيب عن حكمة أبيك في الوقت نفسه أن السعادة مطلب عزيز
المنال, وأنه إذا استشعر الإنسان صدق الحب والرغبة في السعادة مع طرف آخر تتوافر
فيه كل المزايا والفضائل الأخرى ولم يكن هناك ما ينكره البعض عليه سوى مثل هذه
الظروف الاجتماعية التي قد تتعرض لها أي فتاة كريمة رغما عنها.. فإن الحكمة
تطالبه بالنزول عن بعض هذا الحد الأقصى من المطالب من الحياة وبالقبول بما يحقق له
الأمل في الهناء بغير أن يتوقف كثيرا أمام هذا الاعتبار.. كما أن الإنصاف أيضا
يقتضي من أبيك الرحيم كذلك ألا يركز بصره فقط على ما تنازل عنه ابنه في سبيل الفوز
بالسعادة في هذا الارتباط, وأن يمد بصيرته أيضا إلى الطرف الآخر في هذه القصة
ليعترف لهذه السيدة الشابة أنها هي الأخرى لم تكن أقل استعدادا لتقديم القرابين في
سبيل نيل الحب والسعادة والأمان.. فهي لم تتوقف على سبيل المثال أمام ما سبق أن
توقفت أمامه خطيبتك السابقة وحطمت من أجله مشروع الارتباط القديم.. وتوقف أمامه
أيضا صديق والدك الحميم وأشفق علي ابنته منه وإذا كان والدك يشفق عليك من عبء
الطفلة الصغيرة.. فإن حكمته لابد وأنها تدرك كذلك أن ما قد يراه من يحكم على
الأمور بالمنطق المجرد عبئا وهو هذه الطفلة الصغيرة قد يكون في رؤية المحب الراغب
بشدة في السعادة مع أمها امتدادا لحبه لها وليست عبئا إنسانيا كما يتصور, والمفكر
الفرنسي الكبير فولتير يقول إن من أحب الشجرة أحب أغصانها! وهذه الطفلة الصغيرة
هي الغصن الذهبي لشجرة هذه السيدة الشابة فإذا صدق حبك لها صدق بالضرورة حبك
لابنتها.. وامتد إليها.
وبحسن المعاشرة تدوم المحبة كما يقول لنا المفكر الأمريكي ايمرسون وليس بمثالية
ظروف الطرفين ولا بخلوها من أية أعباء إنسانية ولا بتوافقها مع الحدود القصوى
للأشياء, فإذا لم يكن لدى أبيك من الاعتبارات الأخرى ما يعترض عليه سوى ظروف هذه
السيدة الشابة كمطلقة وأم لطفلة.. وتوافرت فيها كل الشروط والمزايا الأخرى وكان
الحب متبادلا وصادقا.. والرغبة في أن يعوض كل منكما الآخر عما ينقصه ويشد أزره
في الحياة ويعينه علي أمره, حقيقية ومخلصة فلابد أن تنجح عشرتكما وتثمر ثمارها
الطيبة بإذن الله.. غير أن كل ذلك لن يتحقق لك إلا إذا استكملت أسباب الأمل في
السعادة الشخصية بنيل رضاء أبيك ومباركته لاختيارك وحياتك وثق من أنه لن يضن عليك
بتأييده لك إذا كانت كل الاعتبارات الأخرى متوافرة في شخصية فتاتك وإذا استشعر
كذلك انك مستمسك بهذا الاختيار إلي النهاية.. ستظل صابرا ومتصبرا إلي أن يشفق
عليك من أن يحرمك إلي ما لا نهاية في سعادتك ولاشك في أن والدك ممن يقدرون جيدا
نعم ربهم الجليلة عليهم ويعرفون تماما أن من أجمل هذه النعم أن يكون للمرء أبناء
راشدون, زمام أمورهم بأيديهم ويستطيعوا أن يفعلوا بحياتهم ما يشاءون لكنهم
يقبضون علي قيمهم الدينية كما يقبض المرء علي الجمر ولا يجرؤون ـ حبا وكرامة ـ على
الخروج علي طاعة آبائهم وأمهاتهم ولا تهنأ لهم حياتهم إلا إذا استشعروا رضاء الأهل
الأقربين عليهم.. ومباركتهم لاختياراتهم!

برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر