درجات السلم .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

 درجات السلم .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

درجات السلم .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000


بعض البشر ينطبق عليهم بالفعل ما جاء على لسان بروتوس في مسرحية " يوليوس قيصر " لشاعر الإنجليزية الأكبر وليم شكسبير حين قال: بعض الرجال يصعدون درجات السلم فما أن يصلوا إلى النقطة الأعلى حتى يزدروا الدرجات التي حملتهم إليها ! 

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة


أنا شاب نشأت بين أب حنون وأم طيبة وأخوة كثيرين‏,‏ وقد تفتحت عيناي على جو الأسرة الذي يسوده الحب العائلي ‏..‏ وتربيت على أن الأب هو صاحب الكلمة العليا في الأسرة‏,‏ فقد كانت أمي تحترم أبي بالرغم من قسوته عليها في بعض الأحيان‏,‏ بل لقد كانت تحبه حبا شديدا‏..‏ فترسخ في ذهني نموذج الزوج المحبوب من زوجته والمحترم منها‏..‏ وحلمت بأن أكونه في المستقبل‏.‏
وبعد تخرجي في إحدى الكليات العملية عملت في إحدى الشركات الاستثمارية‏,‏ ورحل أبي عن الحياة مبكيا عليه من الجميع ووجدتني بلا سند ولا نصير في الحياة سوى ساعدي وإرادتي‏ ..‏ فبدأت حياتي من الصفر أو ما تحت الصفر‏,‏ وتحملت مسئولية الأسرة‏,‏ وتكاتفت مع أمي على  استمرار سفينة الحياة‏ ..‏ وبعد عدة سنوات اطمأننت خلالها على استقرار أحوال الأسرة التقيت بالمصادفة في عرس أحد الأصدقاء بفتاة ذات جمال مريح هاديء أعجبني إتزانها وثقتها في نفسها‏,‏ فسألت عنها وتحريت أحوالها فعلمت أنها فتاة ملتزمة أخلاقيا ومن أسرة طيبة متدينة‏,‏ فتقدمت لخطبتها‏..‏ ولم أكن حتى هذه اللحظة قد ارتبطت عاطفيا بأية فتاة من قبل‏,‏ فأحبتني بكل جوارحها‏..‏ وتجاوزت عن ضعف إمكاناتي المادية وأبدت ترحيبها بأن تتحمل معي صعوبات البداية‏..‏ وتقبل بأية حياة استطيع توفيرها لها‏..‏ وتزوجنا بعد خطبة استمرت نحو عشرين شهرا كانت فتاتي خلالها نبعا للحب الجارف والعطاء لي‏..‏ واستطعت بصعوبة بالغة توفير التزامات الزواج‏..‏ وحصلت على شقة ضيقة جدا بضواحي المدينة وفقا لإمكاناتي المادية‏..‏ وخشيت أن تعترض عليها فتاتي لبعدها عن أسرتها ووسط المدينة‏..‏ فإذا بها تشجعني على التعاقد عليها وتقول لي إن عش الحب يتسع للمحبين مهما تكن مساحته وان بعده ليس مهما‏..‏ لأننا شباب ونستطيع تحمل عناء المواصلات إلى أن تتحسن الأحوال‏..

 

‏ واكتملت استعدادات الزواج في النهاية‏,‏ لكنها استنزفت آخر ما معي من نقود‏..‏ حتى لم يكن معي يوم الزواج مليم واحد‏,‏ وشعرت خطيبتي بذلك فإذا بها تدس في يدي خفية بضعة جنيهات كانت كل ما تملك‏,‏ وتطلب مني أن أدبر حالي بها لأن حياتنا قد أصبحت واحدة ولا فارق بين نقودي ونقودها‏,‏ وبدأنا حياتنا الزوجية في سعادة ووئام‏..‏ وأحاطتني زوجتي بكل الحب والرعاية ورأيتها دائما كالفراشة التي لا تهدأ تحوم دائما حولي وتوقظني من نومي بابتسامة‏..‏ وتودعني بابتسامة وتستقبلني عند عودتي بابتسامة ولا تستطيع أن تتحمل غضبي منها إذا غضبت بضع دقائق‏..‏ ولا تستريح إلا إذا استرضتني وبذلت كل ما تملك من جهد لإرضائي حتى لقد حاولت تقبيل قدمي لكي أرضى وأصفح حين غاضبتها ذات مرة‏..‏ وتماديت في خصامها بعض الوقت‏..‏
أما عن معاملتها لأهلي وأسرتي فلقد أسعدتني بها أكثر من أي شيء أخر‏,‏ فهي تلقاهم بالحب والترحيب والوجه البشوش حتى أسرت قلوبهم ودفعت أمي لأن تحثني على حسن معاملتها لأنها كما قالت لي فتاة طيبة وأصيلة‏.‏


ولقد مضت بنا الأيام فأنجبنا طفلين‏..‏ وتجاوزنا سنوات البداية الصعبة بفضل توفيق الله سبحانه وتعالي وفضل تدبير زوجتي المحبة الحكيمة‏..‏
وبعد عدة سنوات من الزواج تحسنت أحوالي المادية إلى حد كبير‏..‏ وترقيت في عملي وتضاعف دخلي‏ ..‏ واستطعنا توفير مبلغ من المال‏..‏ حصلت به على شقة أوسع وأكثر قربا من وسط المدينة التي نعيش فيها بالأقاليم‏..‏ وأصبح للطفلين غرفة نوم جميلة‏,‏ بها سريران ودولابان ومكتبان صغيران‏ ..‏ وتغطي صور الأطفال جدرانها‏..‏ وتملأها اللعب الجميلة‏..‏ وأصبح لدينا مطبخ واسع مجهز نتناول فيه وجبات الطعام‏..‏ وشرفة جميلة نشرب فيها الشاي وقت الأصيل ‏..‏ وبعد أن كنت أعطي زوجتي في بداية حياتنا الزوجية مائتي جنيه فقط كمصروف للبيت تدير بها حياتنا ومعيشتنا واحتياجات الطفلين طوال الشهر‏..‏ أصبحت أعطيها الآن ستمائة جنيه‏..‏ وأصبح لكل طفل دفتر توفير‏..‏ ولي كذلك دفتر  آخر أضع فيه كل شهر مبلغا من المال‏,‏ وبدأنا ندفع قسطا شهريا لشاليه في المصيف القريب من مدينتنا لكي نقضي فيه عندما نتسلمه شهرا ونؤجره للمصيفين شهرين كل صيف فيدر علينا دخلا إضافيا‏..

 

‏ وبعد أن أمضيت عامي الأول بعد الزواج ببنطلونين اثنين و‏4‏ قمصان وبلوفرين‏..‏ أصبح الجانب المخصص لي من دولاب الملابس مزدحما بالبدل الشتوية والصيفية والبنطلونات والقمصان‏,‏ أما زوجتي فقد ظلت ترتدي الملابس التي اشتراها لها أهلها عدة سنوات بعد الزواج وترفض شراء أي فستان جديد‏..‏ وتشتري لي من مصروف البيت القمصان الجديدة دون علمي‏,‏ وتفاجئني بها لأن مظهري يجب أن يظل محترما كما تقول‏..‏ ولم تقبل بشراء فستان أو حقيبة يد إلا بعد سنوات من الزواج وبإلحاح شديد مني‏.‏
إذن ما هي المشكلة التي أكتب لك عنها رسالتي هذه يا سيدي ؟
المشكلة هي أنني قد وجدت نفسي منذ نحو عامين أبتعد تدريجيا عن زوجتي هذه فلا أتكلم معها كثيرا كما كنت أفعل من قبل‏..‏ وإذا تحدثت هي إلي لم أجدني راغبا في إطالة الحديث معها‏..‏ وأفضل الصمت خلال وجودي في البيت‏,‏ ولقد شعرت زوجتي بالقلق لما طرأ علي من تغير نحوها‏..‏ وراحت تسألني عما ألم بي‏..‏ وتلح في السؤال‏:‏ هل هناك امرأة أخرى؟‏!‏ فأقسمت لها أنه لا وجود لأية امرأة سواها في حياتي‏ ..‏ لكني لا أدري ماذا أصابني‏..‏ ولا ماذا ألم بي ؟
واضطربت حياة زوجتي‏..‏ وبدأت تتألم آلاما مبرحة‏..‏ وتبكي كثيرا‏..‏ وتحاول الاقتراب مني وفهم سبب تحولي  عنها‏..‏ وألحت علي ذات يوم في أن تعرف ماذا أصابني فوجدت نفسي أقول لها إنها قد أصبحت في نظري قصيرة القامة وذبل وجهها ونقص وزنها ولم يعد شكلها يرضيني‏!‏
وانفجرت زوجتي في البكاء حتى شعرت بالندم على مصارحتها بما أشعر به‏..‏ لكن الكارثة هو أن هذا هو ما أصبحت أشعر به بالفعل تجاهها فلقد أصبحت أرى أنها لم تعد تناسبني بعد أن نقص وزنها كثيرا‏,‏ كما أصبحت أراها قصيرة إلى حد لا يتناسب مع طولي‏,‏ وقام سد حائل بين قلبي وقلبها وأصبحت أفكر كل ليلة في الزواج من امرأة أخرى ذات شكل مناسب وقوام ممشوق وأقارن بين زوجتي وبين من هم في سنها من الفتيات وأتعجب لحالها‏..‏ لكن السؤال هو وما ذنب أبنائي في هذه الخواطر والأفكار والأمنيات ؟‏,‏ وكيف استطيع الخلاص من هذا الجحيم الذي يشقيني ويشقي زوجتي‏,‏ وهي التي أراها تتعذب أمامي وتتوسل إلي أن نرجع حبيبين وصديقين ونخرج من هذا الجو الكئيب الذي صنعته‏..‏ فلا أستطيع الرجوع بالرغم من توسلاتها ودموعها‏.‏
إنني أعرف أنك سوف تغضب لرسالتي وتنفعل علي وتتهمني بالجحود والتنكر لعهد الوفاء‏..‏ لكني أريد أن أتخلص من هذه الحالة ولو كان تعنيفك لي هو الثمن‏..‏ فأرشدني إلى فهم نفسي‏..‏ وتفسير حالتي وكيفية الخروج منها‏..‏ وهل يكون بالزواج من أخرى أم بماذا خاصة وأنني رجل أخاف الله وأرعى حدوده وأخشى أن يعاقبني على هذا البعد عن زوجتي وعن معاملتي غير الطيبة لها‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:

أعترف لك بأنك قد استدرجتني لقراءة رسالتك هذه‏..‏ وأنك قد أسرتني ببدايتها المضيئة بالحب والكفاح والتعاون بين قلبين محبين راضيين عما أتاحته لهما ظروف الحياة من خير يسير‏,‏ حتى إذا استنامت مشاعري إلى ذلك وتطلعت لختام سعيد للرسالة إذا بك تفزعني بنهايتها المتناقضة تماما مع بدايتها‏..‏ وإذا بي أقرأ أسوأ نهاية لأحسن بداية لقصة شابين صغيرين جمعت بينهما الحياة في عش صغير‏.‏
فماذا صنعت بنفسك وزوجتك أيها الشاب وكيف تتفق هذه البداية الجميلة مع هذه الخاتمة الكئيبة ؟
إن تفسيرك لتحول مشاعرك عن زوجتك بمواصفاتها الجسمية تفسير عجيب لا يقبله منطق ولا دين‏..‏ إذ أنه من المقبول أن تتحول المشاعر بسبب سوء العشرة‏..‏ أو خيانة الحب‏..‏ أو كثرة الجفاء والخلافات‏..‏ أو غير ذلك من الأسباب‏,‏ أما أن تتحول المشاعر لأنك قد أصبحت ترى زوجتك المحبة المخلصة التي تحسن عشرتك وتتفنن في إرضائك وطلب مودتك‏,‏ قصيرة القامة ذابلة الوجه‏..‏ ناقصة الوزن‏..‏ فهو أمر لا تفسير له إلا بأن طوفان مشاعر زوجتك العاطفية الذي أغرقتك به منذ ارتبطت بك لم يصادفه للأسف طوفان مماثل أو أقل منه سخاء من جانبك‏,‏ وغاية ظني هو أنك قد استمتعت بحبها وعطائها لك بغير أن تبادلها مثل هذا الحب الغامر أو أقل منه درجة‏..‏ وإنما اكتفيت باستقبال الحب دون التواصل معه بإرسال مماثل صادر عنك‏..‏
فإذا كانت زوجتك المحبة قد تبدت لك فجأة قصيرة القامة مع أن هيئتها لم تتغير من هذه الناحية على الأقل منذ رأيتها لأول مرة‏,‏ فلأن عين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساويا.


أو لأن اتساع الوقت أمام الإنسان للتفكير فيما ينقصه بعد تحسن الأحوال وقد كان من قبل مشغولا بالكفاح لشق طريقه في الحياة قد يفتح الباب أمام النفس الأمارة بالسوء لأن ترى صاحبها دائما جديرا بالأرفع والأفضل حتى ولو كان ما بين يديه مرضيا له ومحققا لكل مطالبه من الحياة‏.‏
أو لأن بعض البشر ينطبق عليهم بالفعل ما جاء علي لسان بروتوس في مسرحية يوليوس قيصر لشاعر الإنجليزية الأكبر وليم شكسبير حين قال‏:‏ بعض الرجال يصعدون درجات السلم فما أن يصلوا إلى النقطة الأعلى حتى يزدروا الدرجات التي حملتهم إليها‏!‏
فاختر لنفسك ما يناسبك من هذه التفسيرات أما أنا فإني سأقول لك فقط إن السعادة في الزواج لا تتحقق بالقوام الممشوق أو المواصفات الجسمية‏,‏ وإنما بالحب المتبادل وائتلاف الأرواح والعشرة الطيبة والفهم الصحيح لحقائق الحياة‏..‏ فكم من أزواج شقوا بزوجات توافرت فيهن المواصفات الجسمية المثالية‏,‏ وافتقدن ما هو أهم منها من العطاء وحسن العشرة والإخلاص‏,‏ وكم من زوجات شقين بأزواج لا يعيبهم نقص جسماني أو شكل خارجي‏..‏ وافتقدوا أيضا أسباب الوفاق والسعادة مع زوجاتهن‏.‏
وليس أبعد عن الحكمة وفهم حقائق الحياة من هذا التصور الساذج للسعادة الذي يربط بينها وبين طول القامة‏..‏ ووزن الجسم وهيئة الوجه‏..‏
ولقد أذيت زوجتك المخلصة كثيرا حين صارحتها بأسباب تحولك عنها ولخصتها لها في هذه الأسباب الجسمانية الجارحة‏,‏ ذلك أنه من القسوة المعنوية أن يلام المرء على ما لا حيلة له فيه من مواصفاته الجسمية‏..‏ فراجع نفسك طويلا أيها الشاب قبل أن تظلم نفسك وتحرمها من سعادتها الحالية جريا وراء أمل كاذب في سعادة وهمية‏..‏
وفكر طويلا في هذه العبارة الحكيمة التي قالها أمام المتقين علي بن أبي طالب‏:‏
رغبتك في زاهد فيك مذلة نفس. . وزهدك في راغب فيك نقصان حظ.


فلا تزهد زوجتك الراغبة فيك بدلا من أن تشكر أقدارك على هديتها السخية لك‏,‏ فتضيع حظك السعيد بيديك‏,‏ ولا تتطلع إلى من لا تضمن ألا يزهدك وألا يكافيء رغبتك فيه برغبة مماثلة فتحكم علي نفسك بالمذلة وعلى زوجتك بالشقاء وعلى طفليك بالتعاسة‏..‏ وشكرا‏.


  نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 2000

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات