سجن الأحزان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
هذه رسالة من الرسائل التي أفضل عادة الرد على
أصحابها برسائل شخصية تجيب على تساؤلاتهم وأفضل دائما عدم نشرها لكيلا تتسبب في
إيلام أحد أو إثارة مخاوف البعض ممن قد تتشابه ظروفهم بالصدفة مع ظروف كاتب أو
كاتبة الرسالة.
لكني اضطررت لنشرها هذه المرة لأنها خالية من
العنوان ولأني لم استطع أن أتجاهل تساؤل كاتبتها الذي لم أتلق تساؤلا مثله من سيدة
من قبل .. ثم أيضا لآني أردت بحق أن أشارك
كاتبتها مشاعرها الحزينة وأن أشير عليها بالرأي فيما طلبته منى قدر جهدي.
تقول كلمات الرسالة:
أكتب إليك بعد عذاب طويل لأني أريد أن يشاركني أحد
مشكلتي ولو بالإنصات إليها.
أنا سيدة في الثلاثين من عمري أعطتني الدنيا
الكثير والكثير .. وعشت كل مرحلة من مراحل حياتي كما ينبغي أن تكون ، وحين بلغت
الخامسة والعشرين زففت إلى احد أقربائي وهو شاب تتمناه أية فتاة وبالرغم من أن
زواجي به كان تقليديا إلا أنى بمرور الوقت بعد الزواج تفجر في قلبي حبه كأنه ينبوع
كان مكتوما وينتظر من يفتحه فأصبح زوجي هو كل حياتي وأصبح حبه يجرى في دمائي
وأتنفسه مع الهواء الذي استنشقه وساد التفاهم بيننا فى كل شىء.
وزوجي رجل أعمال ناجح جدا والحمد لله.. وأنا خريجة
جامعية لكنني لم اعمل لأتفرغ لرعاية مملكتي .. فلدي كل ما تتمناه سيدة في مستواي
المادي والاجتماعي ولدي شقة مؤثثة بأغلى الأثاث .. وأهم من ذلك أن الحب يظللها من
كل جانب ، وبعد عامين من الزواج أمضيناها في السعادة .. والذكريات الجميلة وقضاء
الأجازات فى الخارج ، تحقق أكبر أحلامي وجاءت اللحظة التي قلت فيها لزوجي وأنا أحس
مزيجا من الفرح والفخر والخجل ، "أنا حامل" ولا تتصور سعادتي بهذا الحمل
.. فلقد طرت فرحا به ورحت أعد الأيام الباقية على وصول مولودي الأول وأتخيل نفسي
وأنا أهدهده .. واسهر عليه .. وأرعاه وجاء الطفل جميلا كما تخيلته وفرحت به فرحة
العمر وكذلك زوجي .. لكن ظلا ثقيلا كان يخيم عليه منذ أيامه الأولى فالطفل مريض
ولكن بأي مرض؟ لا احد يعرف ! كل ما اعرفه أنى أمضيت الشهور الأولى بعد ولادته فى
سهر وأرق وعذاب وبكاء وطواف على الأطباء بغير أن يشفى احد غليلنا .
وذات صباح كئيب وطفلي عمره 6 شهور بالضبط مات حلم حياتي وماتت معه أشياء كثيرة في داخلي .. والتف حولنا الأهل والأصدقاء يخففون عنا آلامنا وسمعت كلمات مواساة عديدة وقيل لنا إن هذا يحدث كثيرا وان علينا أن ننسى ما جرى وان نواصل حياتنا وننجب طفلا غيره وبعد شهور من هذه الصدمة تمالكت نفسي قليلا وعشت حياتي لكن شيئا من الحزن العميق كان قد تسلل إلى قلبي واستقر فيه وبعد شهور أخرى حملت من جديد وأنساني الحمل بعض آلامي وتعلقت نفسي بالأمل مرة أخرى وحرصنا هذه المرة على أن نستشير كبار الأطباء فى كل خطوة وسار الحمل سيره الطبيعي إلى أن جاءت الولادة ووضعت طفلا ثانيا كان لدهشتي كأنه تؤام لوليدي الآخر الذى انسحب من الحياة .. تؤام له فى كل شىء فى شكله وملامحه وفى بكائه وسهره وعذابه .
ولكاتبة هذه الرسالة الأليمة أقول:
وما ذنب زوجك المكلوم يا سيدتي لكي تضاعفي
من آلامه بالتفكير فى الانفصال عنه جريا وراء أمل غير مضمون في الإنجاب؟ إنني اقدر
تماما ما تعانين من آلام قد لا تسمح لك حاليا بالتفكير السليم لذلك فإني أشاركك
التفكير فى أمرك وأسألك .. لماذا أولا جزمت بما لا يجزم به الأطباء حتى الآن وهو
أن قرابتكما هي السبب الوحيد لما جرى؟ لقد طرح الأطباء احتمالا غير مؤكد فقط ،
والاحتمال قد يصدق وقد لا يصدق.. ولا أحد يستطيع أن يجزم بثقة انك سوف تحرمين من
الإنجاب إلى الأبد إذا استمرت زيجتك هذه وكثيرا ما رأينا فى الحياة تجارب كثيرة
مماثلة ذبلت فيها الزهرة الأولى مبكرا وأحيانا الثانية ثم جادت الحياة بعد ذلك على
الزوجين بباقة من الزهور نمت وأينعت وأسعدت القلوب الحزينة وأنستها آلامها القديمة
.
لا يا سيدتي إنني لا أؤيدك أبدا فى فكرة الانفصال
عن زوجك ولا أشجعك عليها وإنما أطالبك بأن تزدادي قربا منه وارتباطا به وبأن يكون
كل منكما للآخر عزاءه وسلواه وفدية الحياة له عما حرمته منه ، فتجتازان معا هذه
المحنة ، وتخرجان منها بإذن الله أكثر انصهارا وارتباطا وحبا فالتجارب الأليمة
أيضا يا سيدتي يمكن أن تجمع بين القلوب ولا تفرق بينها والدنيا عموما " شجون
تلتقي " كما يقولون وحزين يتأسى
بحزين .. وفى حالتك هذه بالذات ينبغي أن يتأسى كل منكما بالآخر لا أن يفارقه ، إننا
نرفض دائما هذه الفكرة من أساسها بالنسبة للرجل حين يفكر فى هدم عشه جريا وراء أمل
الإنجاب ، ونذكره دائما بتجارب الحياة ودروسها التي كثيرا ما أخلفت الظنون وأورثت
بعض من أقدموا على هذه المخاطرة الندم والحسرة بعد أن أضاعوا من أيديهم الحب
الحقيقي فكيف نقبل بها بالنسبة للمرأة ..
وبالنسبة
لك أنت على وجه الخصوص ؟
إنك
تقولين لي أنك تتنفسين حب زوجك وأنه بالنسبة إليك الزوج والأب والأم والأخ .. فكيف
تفقدين مثل هذا الزوج .. ومن أدراك انك سوف تسعدين مع غيره أو انك أصلا سوف تنجبين
من غيره ولم لا تجعلين منه الزوج والأب والأخ .. والابن أيضا فتفرغي فيه أمومتك
وحنانك ؟ وأنت في أقصى الاحتمالات قادرة إذا ما يئست تماما من الإنجاب على رعاية
طفل محروم تسدين إليه يدا وتقدمين للحياة نفسا أنقذتها من الحرمان .
إن الحياة تطالبنا دائما بأن نتواءم مع واقعنا
فيها مهما كان أليما وان نتقبل شاكرين ما تعطينا .. وان نقبل راضين بما تحرمنا منه
.. لأن هذا هو الطريق الوحيد لاحتمال الحياة ولقد نشرت فى نفس هذا المكان منذ
أسبوعين رسالة لزوجة لديها عدة أبناء وسعيدة مع زوجها لكنها تعانى من بعض الحرمان
ومن بعض تطلعاتها لحياة مادية أفضل.. ففكرت فى التخلي عن احد أبنائها لمستثمر ثرى
محروم من الإنجاب مقابل مبلغ من المال ثم تراجعت فى النهاية ساخطة غاضبة ! ألا
يعنى ذلك إن الأمومة وحدها لم تحقق لها السعادة التي ترضاها وان لكل إنسان من همه
ما يشقيه .. إنني أقول لك ذلك يا سيدتي لكي تستردي نفسك وتخففي من أحزانك وتواصلي
الحياة.
فلا تشغلي نفسك طويلا بأمر المستقبل .. فما يشقى الإنسان بشىء فى حياته بأكثر من انشغاله الزائد بالمستقبل كأنه هو من يصنعه ويتحكم فيه وليس الله سبحانه وتعالى . إنني لست ضد الاهتمام بأمر المستقبل والاستعداد له.. لكنى ضد المغالاة فى ذلك إلى حد أن يدفعنا إلى الانشغال المستمر به فنخسر أيامنا التي نعيشها ونرتكب الأخطاء الفادحة تحسبا للمستقبل الذي لا يضمن احد مجيئه .. فثقي بربك واتجهي إليه بمشاعرك وأعطى الآخرين من نفسك ومالك ما تتقربين به إليه ثم سليه من فضله يعطك ما يشاء ويمسح عنك آلامك انه على كل شيء قدير.
رابط رسالة شمعة على الطريق من طبيب مصري يعرض مساعدته للعلاج بالخارج على كاتبة الرسالة
رابط رسالة أبطال الحياة تعقيبا على هذه الرسالة
راجعها وأعدها للنشر/ نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر