أبطال الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987
أرجو أن تنقل
هذه الرسالة إلى السيدة كاتبة رسالة "سجن الأحزان"، لعلها تجد فيها بعض
العزاء .. لقد كتبت إليك تشكو أحزانها لفقد وليدين لها بعد أشهر من مولد كل منهما
.. وتبث شكوكها من أن يكون سبب هذا القدر هو أنها متزوجة من أحد أقاربها .
ولقد تألمت
لأحزانها .. ووجدت نفسي أكتب إليها هذه الرسالة لأقول لها أنني رجل في الخامسة
والخمسين من عمري وأعمل موظفا صغيرا بإحدى الشركات العامة في إحدى مدن الأقاليم
وقد تزوجت من سيدة طيبة ليست من قريباتي منذ حوالي ثلاثين عاما وأنجبت منها ثمانية
أبناء، وكانت سعادتي بأولادي كبيرة رغم أنه كان ينقصنا المال لأني عشت شريفا طوال
حياتي ولم تمتد يدي يوما إلى الحرام وكانت صلتي وزوجتي قوية دائما بالله سبحانه
وتعالى .. ثم كان الامتحان .. وكان الصبر .. فأما أبنائي الذكور فقد كان ابني
طالبا بدبلوم التجارة حين ذهب مع قرنائه في رحلة مدرسية إلى شاطئ بلطيم فكان
القضاء وقضى غريقا شهيدا .. وكان ابني المدرس في السويس حين اشتدت معارك حرب
الاستنزاف فاختاره الله شهيدا إلى جواره، وكان ابني الثالث متطوعا بالقوات المسلحة
حين وقع حادث بالمعسكر بمنطقة الإسماعيلية راح ضحية له وشهيدا عند ربه.
وأما بناتي فلقد قضيت الأولى بمستشفى المنيرة بالقاهرة بعد مرض قصير وقضيت الثانية في المستشفى العام بمدينتي التي أقيم فيها في ظروف مشابهة وقضيت الثالثة بمستشفى المعادي بعد مرض عضال ويفصل بين رحيل كل منهن عدة سنوات .. وكان آخر هذه المآسي منذ فترة قريبة.
وهكذا يا سيدي
ترى أن لي عند الله ستة من الأبناء .. وله عندي اثنان ولم افقد إيماني ولا صبري ..
لأن ما مر بي هو امتحان وكذلك زوجتي ، بل كنا بعد كل ابتلاء نزداد قربا إلى الله
وتمسكا بكتابه .. وأنصح كل مؤمن بأن يلجأ إلى كتاب الله عند كل ابتلاء وأقول لزميلتي
في الامتحان كاتبة الرسالة اصبري يا سيدتي حتى تنالي الجزاء الأوفى من الله ..
فلقد فقدت ولديك وهما رضيعان
أما أنا فقد فقدتهم وهم في سن الشباب لكنهم شهداء عند ربهم يرزقون .. وليس لنا سوى
الصبر والامتثال .. والحمد لله من قبل ومن بعد وبشر الصابرين .. والسلام عليكم
ورحمة الله .
ولكاتب هذه الرسالة المؤلمة أقول :
لقد ترددت
طويلا يا سيدي قبل نشر رسالتك هذه خوفا من أن تجدد أحزان البعض أو تنكأ جراح بعض المبتلين .. لذلك كتبت إليك
برسالة مواساة شخصية وبعثت بها إليك وقررت الاكتفاء بذلك .. ثم راجعت نفسي فيما
بعد .. لحرصي من ناحية على أن تقرأها كاتبة رسالة سجن الأحزان التي لا أعرف لها
عنوانا حتى الآن .. ولأني من ناحية أخرى لمست فيها أيضا من الإيمان العميق بالله
وزادا من الحكمة الفطرية التي صنعتها تجارب الحياة وآلامها يستحق أن يطلع عليه
الآخرون ليتزودوا بقبس منه .. وليعرف البعض
أن في دولة المبتلين أبطالا لم تهزمهم شدائد الحياة ولم تهز ثقتهم بربهم .
فأنت فعلا یا سیدي أحد أبطال الحياة الذين صمدوا للشدائد وخرجوا منها أكثر إيمانا وأعمق فهما لحقائقها .. ولقد ذكرتني رسالتك بقصة الفيلسوف اليوناني القديم زينون الذي نعى إليه النعاة ولده فقال لهم متصبرا : لقد أنجبت ولدا يموت .. ولم أنجب ولدا يقهر الموت .. وأنت قد عرفت ذلك بلا فلسفة ولا دراسة وتقبلت قضاء الله رغم تكراره .. ثم أردت بعد كل ذلك أن تخفف عن زميلتك في الامتحان بعض آلامها برسالتك هذه .. فأي نبل .. وأي شفافية وأي رغبة مخلصة في التخفيف عن الآخرين رغم ما عانيت تكشف عنها رسالتك هذه ؟
إني أشكرك يا
سيدي .. وأحييك .. وأرجو لك أياما تعوضك الحياة فيها بعض ما عانيت ومن فقدت خلال
رحلة آلامك الطويلة.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر