النــوم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

النــوم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

النــوم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

أنا كاتب معروف وصحفي زميل لك, وأنت تعرفنى جيداً,لكنى أثرت أن أكتب لك عن مشكلتي دون أن تعرف اسمي، أو أقابلك حتى لا تضطر لمجاملتي أو ينتابك حرج منى .. والذي شجعني على الكتابة إليك أنني من المعجبين بطريقة حلك للمشكلة وبإيمانك القوى , وقدرتك الفائقة على الوقوف على جوهر المشكلة ومشكلتي عائلية وغريبة, فأنت تعلم تماماَ كم يعانى الكاتب والأديب الصحفي والشاعر لكي يخرج للقراء مولوداً جديداً وكيف يتوخى الصدق والأمانة فيما ينتج وإلا أصبح ما يكتبه هراء لا قيمة ولا وزن ولا طعم له.. وتعلم أنه لكي يخرج هذا العمل للنور لابد أن تكون المقومات كلها متاحة وميسرة,وأنا أكتب وأنتج ولا أتوقف أبداً, لأني أكتب مبدئياً بشكل يومي مفروض علىّ, ولكن فى منزلي شيئاً رهيباً فزوجتي سيدة فاضلة بكل معاني الكلمة وهى تتقى الله دوماً ومصلية طول عمرها وصائمة معظمة وتعتني بى وبأولادها, وهم الأوائل بصفة مطلقة وهى راضية بما قسم الله لها ولا تطلب المزيد من المادة, ولا تكلفني ما لا طاقة لى به.

وكل هذا جميل بل .. جميل جداًّ!!!

ولكن الشئ الخطير فيها..أو العيب الذى لم أستطع أن أُقومه ولم أجد له حلاً أبداَ هو النوم, نعم النوم يا سيدي .. وهذه هى المشكلة ,وأقسم لك أنها لو ترك لها العنان وتهيأت لها الظروف الملائمة والمناسبات لما صحت من النوم أبداً بلا مبالغةَ!

إذ هل تتصور أنني لو طلبت منها كوباً من الشاي أنها تضع الإبريق على النار ثم تنام حتى تغلي المياه, ثم تصحو وتصب الشاي وتنام مرة أخرى!

إن حياتها كالأتي .. تعود من عملها تضع الطعام على النار وتنام إلى أن ينضج ثم تصحو لتطفئ النار ثم تنام مرة أخرى ثم تصحو لتتناول الغداء .. ثم تنام إلى ما قبل العشاء ثم تصحو, ثم تصحو لتشاهد مسلسل التليفزيون المسائي, وتجهز لنا العشاء وتطمئن على الأولاد فى مذاكرتهم وطلباتهم, ثم تنام مرة أخرى حتى الصباح, وهكذا دواليك.

وهذه هي حياتي معها منذ ثلاث وعشرين سنه, والكاتب والصحفي والأديب والفنان والشاعر, وكل من يستخدم عقلة وقلمه, لا ينام معظم الليل .. وتلك هى حياة المفكر بصفة عامة ولهذا..فأنا "سهران لوحدى"

ولقد حاولت معها طوال فترة زواجنا أن تتغلب على نومها, بلا فائدة ..

إنها حين تدخل إلى الفراش وقبل أن يصل رأسها للوسادة, يكون النوم قد غلبها وهى تعلم أنني أعانى على وسادتي لكي تغمض عيني ثلاث أو أربع ساعات إلى أن يأتيني النوم وعمري الآن إثنان وخمسون عاماً, أى أننى كبرت, وقد كبرت هى الأخرى وأصبحت لا أتحمل أن أسهر بقية العمر وحدي بدون أن أنيس أو جليس ووضعي الاجتماعي والأدبي يمنعنى أن أسهر خارج المنزل .. فرجائي كـأخ وصديق أن توجه لزوجتي هذه نصيحة شديدة لها لعلها تصحو وتفيق قبل أن أبحث عمن تصحو معى وتنام معى !

 

ولكــاتــب هــذه الـرسالة أقــــول:

ذكرتني رسالتك الطريفة هذه بما قاله المفكر الفرنسي فولتير ذات يوم من أن المرأة لن تسامح الرجل أبداً على شيئين هما النوم .. والعمل باعتبارهما يشغلانه عنها وعن إشباع إحتياجاتها النفسية والعاطفية لدية .. لكن فولتير قد كتب هذه الكلمة فى القرن الثامن عشر, وفى زمن كانت معظم النساء فيه يشكين الفراغ ويتلهفن على العشق, ولو عاش فى زماننا هذا لأضاف إليها أن الرجل لن يسامح المرأة أيضاً على نفس الشيئين لأنهما يشغلانها عنه, أنه إذا تسامح معها الرجل فى العمل للاعتبارات الاجتماعية والمادية المعروفة...

فقد لا يتسامح معها فى فترات النوم إذا زادت عن الحد لأنها "تغيب" فيها عنه غياباً إضافياً إلى جانب غيابها القهري فى العمل..

وكل انشغال من جانب الزوج أو الزوجة عن الطرف الآخر سواء بالعمل أو النوم أو العلاقات الاجتماعية المنفردة هو فى نهاية الأمر,غياب عنه ينبغي له ألا يتعدى الحدود المأمونة وإلا افتقده شريكه وشعر بتوحده مع نفسه بدلاً من إتحاده معه وازداد إحساسه بالغربة عنه.

وزوجتك الطيبة لها فضائلها العديدة التى لا تنكرها عليها, لكنك تشكو فقط من "غيابها" عنك بالنوم شبه المتصل ويعجزها عن مجاراتك فى سهر الليل وإطالة أوقات الصحبة, مع أن المشكلة هينة ولا تقاس بما ينكره شركاء آخرون على زوجاتهم إلا أنها يمكن أن تؤدى بالفعل إلى أن يشرد الطائر الذى يستشعر الوحدة من القفص .. ويبحث عن إشباع احتياجاته النفسية خارجه .. ولهذا فإنه من الأجدى أن تبحث مع زوجتك عن صيغة ملائمة لحياتكما معاً تزيد فيها مساحة اليقظة والالتقاء بينكما بغير تعارض مع أعباء كل طرف واحتياجاته الجسمية إلى الراحة والنوم, وأفضل ما يفعله الزوجان فى مثل هذه الحالة هو أن يحاولا ضبط ساعة كل منهما البيولوجية على مواقيت مشتركة بقدر الإمكان لليقظة والنوم, بحيث تزيد فترات الصحبة الحقيقية بينهما.. ويزداد إيناس كل منهما للآخر, وإذا كان من المتعذر على زوجتك أن تجاريك فى سهر الليالي الذى تفرضه عليك طبيعة عملك, فإنها  تستطيع على الأقل أن تحاول إطالة فترات "يقظتها" فى فترات وجودك بالبيت, وأن تعدل من مواعيد نومها وصحوها على هذا الأساس, بالإرادة القوية وبالرغبة الواعية فى إيناس شريك العمر وحمايته من الإغراءات وإن كنت أتصور أنها قد تكون فى حاجه إلى فحص طبي شامل يكشف لها عن أسباب طول فترات النوم وقلة فترات الصحو فى حياتها , فلقد ثبت علمياً أن الجينات الوراثية لها أثر واضح فيما يعانى من الأرق وإن كثرة النوم يمكن أن تكون لها أسباب فسيولوجية يسهل إدراكها وعلاجها..

فحاول إقناعها بطلب المساعدة الطبية فى هذا الشأن .. وحاول من جانبك أنت الاستفادة بقدر الإمكان من فترات صحوها المتقطع من تكثيف علاقتك بها وتعميقها كما يفعل الإنسان حين يزداد شعوره تلقائياً بالحرص على الاستفادة المثلى من الماء حين يكون قليلاً أو نادراً.

واطلبا المشورة الطبية, إذا عجزت الغريزة الأنثوية وحدها عن تنبيه زوجتك إلى ضرورة "اليقظة" قبل أن يشرد الطائر عن قفصه .. وأرض أنت من جانبك بحياتك إذا عجز العلاج الطبي أو العاطفي عن تنبيه مشاعر زوجتك وإطالة فترات صحوها وصحبتها .تسليما بالواقع وتقديراً لفضائلها الأخرى العديدة وعطائها الغامر لك ولأبنائها وأسرتها..وشكراً.

رابط رسالة لماذا أنام تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة لحظات العمر تعقيبا على هذه الرسالة


    نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1998

شارك في إعدادها / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات