ذخيرة الأيام .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

 ذخيرة الأيام .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

ذخيرة الأيام .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

 من أراد أن يعد أبناءه ليكونوا ذخيرة وعونا له على الأيام لم يتردد في حماية ذخيرته من مؤثرات التعرية وعوامل الفساد‏!

عبد الوهاب مطاوع


قرأت رسالة الأبواب المغلقة للفتاة التي ترفض تودد أبيها إليها‏ بعد أن بلغت سن الشباب لأنه قد تخلى عنها في طفولتها‏,‏ وتصر على أن تغلق كل أبواب الرحمة في وجهه بعد أن تقدم به العمر وأدرك خطأه ويريد أن تعامله كابنة ويعاملها كأب‏,‏ قرأت هذه الرسالة فنكأت جراحي القديمة سامحك الله‏..‏ فأنا رجل في الخمسينيات من العمر وأعمل في مجال مهني وعلمي راق‏,‏ وحين تخرجت في إحدى الكليات وأنا في الثانية والعشرين من عمري تزوجت على الفور ضد إرادة أهلي والأصدقاء‏,‏ وعلى عكس رجاء أبي الحار لي وبكاء أمي رحمهما الله معا لإثنائي عن هذا الزواج‏,‏ فلقد كانا يريان أن الفروق بيني وبين من أردت الارتباط بها كبيرة ليس بسبب الفقر لأنه ليس عيبا وإنما بسبب التفاوت الأدبي والاجتماعي والثقافي والديني‏,‏ ولكني أصررت على إتمام الزواج فامتنع أبي عن مساعدتي في تكاليفه‏,‏ وقمت أنا بإعداد شقة متواضعة تم فيها الزفاف‏,‏ وقاطعني الأهل تماما ستة أشهر كاملة بعد الزواج إلى أن علموا بحمل زوجتي فبادروا بمباركة زواجي‏,‏ وأعد لي أبي شقة ملائمة في  عمارته أنتقلنا إليها‏..‏ ورزقنا الله بطفلة رائعة الجمال‏,‏ وتوالت الأحداث بعد ذلك كما توقعها أبي من قبل الزفاف كأنما كان رحمه الله يقرأ من كتاب مفتوح‏..‏ وشهدت حياتي الزوجية مشاكل وخلافات كثيرة من غيرة حمقاء إلى تهجم علي مكان عملي إلى تربص بالأهل والأصدقاء إلخ‏,‏ وخلال خمس سنوات فقط من الزواج كان الطلاق قد وقع بيني وبين زوجتي هذه ثلاث مرات عدا مرات الغضب وهجر البيت لشهور طويلة‏,‏ كما رزقنا أيضا بطفل آخر‏.‏

وبعد الانفصال توالت المشاكل وضاعف منها قرب منزل أهل زوجتي من منزلي فكانت أم أبنائي تتربص بزواري صباحا ومساء وتنال السيدات منهم بأقذع الألفاظ متصورة أن بيني وبينهن علاقات خاصة‏..‏ حتى اضطررت إلي ترك الوطن كله وسافرت إلى إنجلترا لاستكمال دراستي ونيل درجة علمية في مجال تخصصي‏.‏
وبعد الحصول عليها عملت لبضع سنوات في الخليج وواظبت خلال ذلك على إرسال نفقات ابنائي مع مطلع كل شهر‏,‏ كما واظبت على السؤال عنهم ومحاولة رؤيتهم بكل السبل الممكنة طوال مراحل دراستهم‏,‏ وتخرجت ابنتي في كلية نظرية وتخرج الابن‏,‏ فبذلت كل جهدي لتعيينه في شركة خاصة لدى صديق لي بمرتب محترم‏..‏ وتقدم عريس لابنتي وجاءني يطلب يدها فرحبت به وباركت زواجها ودفعت قيمة مستلزمات الفرح‏,‏ وكنت خلال رحلة السنين قد تزوجت ورزقت بطفل كما تزوجت أيضا أم الأبناء‏..‏ لكنها كانت قد أجرت لابني وابنتي منها عملية غسيل مخ تجاهي وصورتني لهما بأبشع الصور سامحها الله وشفاها‏,‏ مع أني  يشهد الله لم أذكرها يوما بسوء لهما‏,‏ وكنت كلما أبلغاني بنجاحهما خلال الدراسة أقول لهما إن الفضل في ذلك لأمهما العظيمة وتربيتها الناجحة‏.‏

والمشكلة الآن هي أنني بعد أن تخرج ابني وابنتي وتزوجا توقفت عن إرسال مصروفهما الشهري إليهما لكي أتفرغ لتربية ابني الأصغر الذي يبلغ من العمر الآن عشر سنوات‏..‏ وما أن فعلت ذلك حتى حدثت القطيعة من جانب ابني وابنتي لي وأصبحت أيام الأعياد أياما كئيبة بالنسبة لي أجلس فيها منتظرا مكالمة منهما للتهنئة بالعيد فتجيئني مكالمات التهنئة من عديدين‏,‏ ولكن ليس من بينهم ابني أو ابنتي وحين ألتقي بابني مصادفة في الشارع أو في المسجد وأتهلل لرؤيته وأستعد لكي أخذه في أحضاني فإنه يشيح عني بوجهه ويمضي إلى سبيله‏,‏ وأشكوه إلى زوج والدته وهو رجل فاضل فيقول لي صادقا إنه قد حاول الكثير معه ومع ابنتي لكي يكفا عن مقاطعتي ويتعاملا معي كما يتعامل الإبن مع أبيه فلم تنجح جهوده‏.‏
والمؤلم حقا أنني كنت بارا بأهلي وحين توفي أبي وأنا في الخارج ورجعت إلى مصر قمت بنقل رفاته إلى مثوى جديد يليق به وحين مرضت أمي كنت أسارع بخدمتها وماتت وهي بين ذراعي وتدعو لي‏..‏ كما أنني أنا أكثر أخوتي زيارة لمثواهما الأخير‏,‏ وأدعو لهما في كل صلاة بالرحمة فمن أين جاء جحود أبنائي لي؟‏!‏
وكيف لا يعرف طفلي أن له أخوة تزوجوا وأنجبوا‏.‏
وكيف يكون لي أحفاد أحترق شوقا لرؤيتهم ولا أجد سبيلا إلى ذلك بل وكيف أخبر ابني الصغير بوجود أخوة له في  الحياة‏,‏ وهم من كنت أريد أن أعتبرهم ذخيرتي للأيام ؟


ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

لا عذر للأبناء في قطيعتهم لآبائهم أو أمهاتهم مهما تكن دوافعهم لهذه القطيعة قوية وكافية من وجهة نظرهم‏!‏
ولقد أفضت في ردي علي رسالة الأبواب المغلقة في الحديث عن الجانب الديني من قضية جحود الأبناء ولا أريد تكراره‏..‏ وإنما سأقول فقط لابنك وابنتك ان أي خلاف مع الأب ـ ظالما كان أو مظلوما ـ لا يبيح لأي منكما قطيعته ومباعدته وحرمانه من أحفاده‏,‏ فكل شيء من أموركما معه قابل للنقاش حوله إلا بركما به وصلتكما لرحمه وحسن معاملتكما له‏..‏ سخا عليكما أم قبض يده عنكما‏..‏ كان ملتزما بواجباته تجاهكما خلال رحلة العمر أم كان غير ذلك‏..‏ ذلك أن قطع رحمه إثم كبير لا طاقة لأحدكما بتحمل جريرته‏,‏ ولعله الإثم الوحيد من بين كل الآثام وما أكثرها الذي قد يعجل الله لصاحبه بعض عقابه عنه في الدنيا مع ما يدخره له من عقاب أعظم عليه في الآخرة‏,‏ كما أن المقاطعة النهائية ليست الطريق السليم لحل المشكلات‏.‏
والواضح يا سيدي هو ان ابنك وابنتك مقتنعان بأنك على يسار كبير يتيح لك إذا رغبت الاستمرار في مساعدتهما ماديا بعد زواجهما دون أن يؤثر ذلك على أوضاعك المالية أو يجور على حقوق أخيهما الأصغر‏.‏
وهذا الاعتقاد ـ بالإضافة الى آثار الماضي ـ يرجح لديهما أنك تقبض عنهما يدك ليس عن اضطرار وإنما عن عدم رغبة في العطاء لهما بعد أن شبا عن الطوق‏..‏ والمسألة على أية حال قابلة للمراجعة لأن ما قد تراه أنت دخلا كافيا لابنك  أو ابنتك لكي يعيشا حياة كريمة لا يحتاجان معها إلى مساعدتك لهما‏,‏ قد يريانه هما غير ذلك‏,‏ كما قد يريان أيضا أن استمرار العطاء لهما قد يسهم في تيسير الحياة عليهما أكثر أو يقربهما من المستوى المادي الذي يتطلعان إليه باعتبارهما ابنيك‏,‏ أو يدنو بهما من المستوى الذي يعتقدان أن أخاهما الأصغر يعيش فيه في كنفك‏,‏ وكل ذلك قابل للتفاهم حوله معهما‏,‏ بل لعله من مقتضيات الحكمة ونظرا إلى حرمانهما السابق من حق النشأة الطبيعية بين أبوين يعيشان تحت سقف واحد‏,‏ ألا تكف أنت عن العطاء لهما ولو بشكل رمزي استرضاء للنفوس وتأليفا للقلوب وإعانة للابن على أن يبر أباه‏,‏ فضلا عما يستشعره الأب نفسه من رضا عن النفس لإعانته لأبنائه وحاجتهم إليه مهما تقدم بهم العمر‏..‏ فالأب عطاء دائم‏..‏ ونبع لا يجف مهما كبر الأبناء أو تحسنت أحوالهم ولا بأس بذلك أبدا مادام قادرا عليه دون إجحاف بنفسه أو بحقوق من يعتمدون في حياتهم عليه‏..‏
فصل ما انقطع من عطائك السابق لهما‏..‏ ولو بجزء منه تعبيرا عن معنى العطاء في حد ذاته‏..‏ وشفاء للنفوس من مراراتها القديمة ونفيا لمظنة إيثار الزوجة الجديدة والابن الصغير على حسابهما‏..‏ ولا تأس علي ذلك لأن من أراد أن يعد أبناءه ليكونوا ذخيرة وعونا له على الأيام لم يتردد في حماية ذخيرته من مؤثرات التعرية وعوامل الفساد‏!

رابط رسالة الأبواب المغلقة

نشرت سنة 2002 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة

راجعها وأعدها للنشر
نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات