اللقاء الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

اللقاء الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

اللقاء الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


شجعتني على الكتابة إليك رسالة التاريخ القديم للسيدة التي رفضت في بداية حياتها الشاب المبتديء الذي يحبها بصدق لأنها لم تكن تؤمن بالحب وتسخر من زميلاتها اللاتي يتحدثن عنه ثم تزوجت من العريس الميسور القادر على أن يحقق لها أحلامها في الحياة اللامعة فشقيت معه وطلقت منه بعد مشاكل مريرة وانتهت إلى الإيمان بما لم تكن تؤمن به وتحققت سعادتها الحقيقية مع فتاها القديم الذي رفضته في البداية .

فمنذ 18 عاما كنت طالبة أعيش في بلدة صغيرة يعرف معظم أهلها بعضهم البعض ، من أسرة معروفة بها .. وعلى قدر لا بأس به من الجمال أذهب إلى مدرستي كل صباح وقلبی مفعم بالأمل في السعادة والحياة ، ويجمع الطريق بيني وبين شاب يكبرني بعام أو عامين وتلتقي نظراتنا الصامتة معبرة عما تحمله القلوب الغضة من مشاعر بريئة واستمر هذا التفاهم الصامت بيننا عدة سنوات ، ولم يزد ارتباطنا عن لقاء العيون اليومي ، واختلاس الكلمات من حين لآخر وانتظار موعد اللقاء قبل

الذهاب للمدرسة أو بعد العودة منها ، واستمر الحال هكذا حتى بلغنا مرحلة الدراسة الجامعية ، وكالعادة تقدم العريس الميسور الذي لا أعرفه وتحمس أهلي للضغط علي وإقناعي بقبوله لأن الرغبة في زواج الابنة الكبرى والفرح بها قوية .. والحبيب الذي ارتبطت به نفسيا وعاطفية عدة سنوات مازال في منتصف الطريق وليس قادرا على المنافسة أو إقناع الأمل بجدارته وانتظاره سنوات طويلة.

 

 وبعد محاولات يائسة من جانبه سلمنا معا بأننا الجانب الأضعف وأن قضيتنا خاسرة رغم ما يكنه كل منا للآخر من حب بریء وخطبت لمن تقدم لي فبدأت الخلافات بيني وبينه منذ اليوم الأول ، ولم تسعفني خبرة سن العشرين في إدراك أن مؤشرات هذه الخلافات ليست مما يعد بحياة هادئة ومستقرة بعد الزواج . ولم تنصفني أيضا خبرة الأهل فتدرك ما فات إدراكه علي وتحميني منه وإنما تجاهلوا هذه الخلافات الصريحة في فترة الخطبة الجميلة وأسموها بفترة الاختبار وبشروني بأنها كلها ستنتهي تماما حين يجمعنا بيت واحد.

 

وجهزنی آبی للزواج جهازا مشرفا يترجم أول فرحة للأسرة بإحدى بناتها ورفض كعادة الأسر الطيبة أن يطلب من زوجي قائمة بجهازي أو بأي شيء يخصني في بيت الزوجية ، وقال لمن نبهه إلى ذلك : إنني أعطيه ابنتي وديعة عنده وأئتمنه عليها فكيف لا أئتمنه على بعض المتاع والمصاغ ؟.

وتزوجت فإذا بالخلافات والمشاكل تبدأ أيضا منذ أول يوم للزواج وبدأ تدخل الأهل والوسطاء بيننا لفض المشاكل وتصفية الخلافات ، واستمر ذلك عامين طويلين ثم ظهرت في حياتي مشكلة أكبر هي مشكلة الإنجاب فبدأنا

رحلة أخرى من العذاب النفسي والطواف على الأطباء ومعامل تحاليل، وهربت من مشكلتي الأولى في التعاسة الزوجية إلى المشكلة ثانية وهي الإنجاب على أمل أن يكون سببا في إصلاح ما بيننا أو على الأقل في تكيفنا مع حياتنا ومع الأمر الواقع ، وبعد رحلة عذاب طويلة اكتشفنا أو تأكدنا من عدم قدرتنا عليه ، وفي هذه الفترة توفی أبی رحمه الله ومضت حياتنا معا من خلافات إلى خلافات ومن ترك للبيت والعودة لأهلي إلى مفاوضات للصلح والعودة له بلا أي تغيير في حياتنا .

 

وزوجي لا يساعدني على تجنب الخلافات ولا طموح له في الحياة إلا المال والظهور بمظهر اجتماعي يليق به من زوجة من عائلة طيبة إلى بيت فخم ولا شيء يهم بعد ذلك . ومضت سبع سنوات من حياتنا لم يكن الإنجاب خلالها هو مشكلتنا الأساسية وإنما كان الشماعة التي تعلق عليها خلافاتنا ومشاكلنا وضاعت أحلى سنوات عمري في الشقاق .. واجترار الأحزان .. والمشاكل .

ثم فجأة مللت كل شيء وظهرت علي أعراض الإرهاق النفسي والجسدي وكرهت البيت والحياة وكل ما أفعله حتى وظيفتی ، وأصبحت أكره موعد عودته للبيت ، وأكره أيام الأجازات التي تجمعنا معا فيه ، وأحس بالملل بمجرد عودتي من عملي أو من زيارة أهلي وفقدت الاهتمام بكل شيء في الحياة مهما كان ثمينا وزاد من مشاكلي أن زوجي ضعيف الشخصية ومنقاد لأهله إلى حد غريب فأصبحت أعيش معه في وضع من التحفز الدائم وعدم الأمان ، فاليوم قد يكون زوجی معي .. وغدا سيكون ضدي وفقا لما يتأثر به من فحيح الأهل .

 

 ثم حدثت بيننا مشكلة من مشاكلنا العادية فتركت على أثرها البيت وعدت إلى بيت أهلي ولم يكن ذلك أمر غير مألوف في حياتنا کما لم تكن تلك المشكلة أكبر مشاكلنا بل لعلها كانت أقلها حجما .

لكن غير المألوف هو أنني وجدتني فجأة أرفض العودة إلى زوجي هذه المرة بإصرار غريب وأتمسك بذلك لكي أنقذ البقية الباقية من كرامتی وأعصابي وعمري . وبدأت الوساطات هذه المرة بيننا فتمسکت برفضي للعودة ولمس زوجي إصراري الشديد هذه المرة فراح يقدم الترضيات والتنازلات العديدة التي ربما لا يقدر عليها بشر لكي أعود إليه وأصررت على الرفض ، فإذا به يتحول إلى شخص آخر تماما غير الشخص الذي كان يرجو ويتنازل ويقدم الترضيات العديدة ، وأصر على أن يجردني من كل شيء لي عنده .. ومن كل حقوقي مقابل الطلاق ووافقت صاغرة على كل ما أراد فجردنی بالفعل من مالي وأثاثی وذهبی وساومني في كل شيء وماطلني في كل شيء ولم أحصل منه سوى على ما خرجت به .

 

وخرجت من تجربة زواج تعس لمدة 9 سنوات صفر اليدين إلا من وظيفتی و من لقب المطلقة البغيض فكانت فترة من أقسى فترات حیاتی، وبدأت أحاول استعادة نفسي من جديد والتكيف مع حیاتی كمطلقة ذات تجربة مريرة .. ففوجئت بالحبيب القديم الذي كان ينتظرني على ناصية شارع المدرسة في أجمل سنوات العمر يظهر فجأة بعد اختفاء طویل وعرفت أنه عائد لمصر في أجازة من بعثة للدكتوراه في إحدى دول أوروبا وأنه قد عرف من الأقارب والجيران بما لقيته من سوء حظ في زواجي فجاء ليلتقی بی، وعرفت منه أنه بعد "هزيمته" في المعركة قرر أن يثبت لنفسه هو قبل كل شيء أنه كان جديرة بي فقرر استكمال تعليمه بعد تخرجه وحصل على الماجستير من خلال قصة كفاح مجيدة ثم سافر لإعداد الدكتوراه منذ عامين وسوف يحصل عليها خلال عامين آخرين أو ثلاثة، وكان ظهوره مرة أخرى مفاجأة كاملة لي لأني لم أكن أعرف عنه أي شیء طوال سنوات زواجي ، وبلغت المفاجأة قمتها حين طلب منی الزواج ، وأجبته بأنه لم يعد لدي ما أستطيع أن أقدمه له لأن الحب قد مات في قلبي بعد عذاب السنين الماضية .

 

لكنه لم يأبه لهذا الجواب وقال إلى أنه قد انسحب من "الملعب" في المرة الأولى لأنه لم يكن قادرا على المنافسة مع الغريم المنافس، أما الآن فهو قادر على اللعب ولن يتراجع مهما كانت الأسباب ووقف إلى جانبي إلى أن بدأت أسترد بعض الثقة في نفسي .. وحدثته عن مشواري الطويل مع محاولة الإنجاب فلم يهتم بما أقول وتعجلني لإتمام الزواج قبل موعد انتهاء أجازته لأننا كما قال نريد أن نتزوج لكي يرتبط كل منا بالآخر ثم فليفعل الله بنا ما يشاء بعد ذلك .. وتزوجته على بركة الله وسافرت معه إلى مقر دراسته لأبدأ حياتي معه من الصفر مرة أخرى بعد أن فقدت كل شيء في زواجي الأول ، وأحسست معه منذ اللحظة الأولى التي احتوانا فيها بيت واحد بالأمان وبكل معاني الحب والاستقرار والرجولة التي لم أحس بها من قبل ، ومضى على زواجنا شهر واحد ففوجئت بأعراض الحمل تظهر علي.

 

وكذبت نفسي في البداية ورفضت أن أصدق أنني حامل حتى أكد الأطباء على ذلك، وأنجبت طفلتي قبل أن يمر عام على زواجنا .. وأنهى زوجي رسالة الدكتوراه بتوفيق من الله وعمل عملا مؤقتا لمدة شهور بأحد مراكز الأبحاث ليستطيع تدبير تکالیف حياتنا وتحسنت أحوالنا المادية بعض الشيء ورزقنا بطفلة أخرى ملأت مع شقيقتها حياتنا صخبا وضجيجا ، ونحن الآن نستعد للعودة لكي يعمل زوجي بإحدى الجامعات ونبدأ في بناء حياتنا بكفاحنا ومن عائد عملنا نحن الاثنين وأنا أعرف جيدا أن رحلة الحياة لن تكون سهلة ميسورة لكني أعرف أيضا أنني قد كسبت بزواجي من فتای القديم أشياء لا تقدر بمال ولا يقاس بها كل ولا أضعاف ما خسرته من مادیات .

 

 ولقد كتبت لك قصتي لأني كنت أقرأ لك ما تكتبه عن السعادة المؤجلة، التي قد يدخرها الله سبحانه وتعالى لبعض المهمومين والمكروبين في الدنيا بعد سنوات العناء .. وقد يدخرها لهم في الآخرة . وأدعو ربي أن يكون لي نصيب منها في الحياة قبل أن يضيع العمر .. فشملتني رحمة ربي حين بلغت قمة اليأس وفقدت أي أمل في بداية حياة جديدة ولاشك أن الآلاف يمرون بمثل ما مررت به من فترات يختفي فيها بريق الأمل في السعادة وأريد أن أقول لهم بقصتي أن رحمة الله واسعة ، وأنه سبحانه لا يختار لنا أحيانا ما فيه بعض الضرر والعناء لنا إلا وكانت له منفعة قد تخفى علينا أو كان سببا مؤجلا لسعادة آتية بإذن الله لمن يصبر.

 


 فهناك في الحياة أشياء لا تستطيع كنوز العالم شراءها أو تحقيقها لمن لا يجدن السعادة مع أزواجهن . وفي الختام أشكرك على ما بشرتنی به وأنا في قمة معاناتي من سعادة مؤجلة .. كدت أيأس من تحققها فتحققت والحمد لله .. الحمد لله على ذلك وأدعو الله أن يحققها برحمته وكرمه لكل قرائك وقارئاتك من المهمومين .

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

رسالتك تقول الكثير مما لا نتعلمه ولا نقتنع به غالبا إلا بدروس الألم.

فمنذ قديم الزمان وأهل الحكمة يقولون لنا أن السعادة لا تشترى بكنوز الدنيا بأسرها إن لم تتآلف القلوب والأرواح أو على الأقل إذا لم تتنافر منذ البداية كما حدث لك منذ اليوم الأول ، ومع ذلك فلسوف يطلع النهار كل يوم على بعض من يتوهمون أن الماديات وحدها قد تكفي لتحقيق السعادة وتعويض نقص الوفاق والائتلاف . ويقولون لنا أن الوفاق هو سياج الزواج الأول الذي يحميه من التصدع والانهيار وأن الخلافات المستمرة بين طرفي أي مشروع للزواج تنبیء بعدم توافق الميول وتنذر بتفاقم المشاكل واتساع الفجوة بين الطرفين بعد الزواج ، ورغم ذلك فمازال هناك من يخدعون أنفسهم ويتعامون عن النار التي تسري تحت الرماد ، ويمضون في المشروع المحكوم عليه بالفشل منذ البداية ولا يقتنعون بفشله إلا بعد أن يدفعوا ضريبة الشقاء وقد يدفعها معهم أطفال أبرياء لا ذنب لهم في سوء اختيار الأبوين لحياتها ولا في تجاهل الأهل لنذر الشقاء القادم والواضح لكل ذي بصيرة .

 

ويقولون لنا أن الخطبة ليست سوى مشروع للارتباط يحتمل الفشل كما يحتمل النجاح وأنه من الأفضل إذا تيقنا من غلبة احتمالات الفشل فيه على احتمالات النجاح أن نبادر بالاعتذار عن عدم المضي فيه من باب الأمانة مع النفس ومع الآخرين وبلا لوم على أحد ولا عار لأحد ومع ذلك فإن كثيرين يمضون في مراسم مشروع محكوم عليه بالفشل كأنما يوقعون بذلك على وثيقة استسلام لعدو منتصر لا يملكون مقاومته أو الفكاك منه مع أنه من حقائق الحياة البديهية أن من لا يناسبنا قد يكون هو نفسه ضالة غيرنا الذي لن يسعد إلا معه ، لأن النفوس تتنافى وتتألف بلا قانون واضح وتنافر شخصين لا يعيب أحدهما ولا ينقص من قدره ولا من جدارته بالسعادة مع الرفيق الملائم له .

إن الاختلاف بين الشركاء من طبيعة البشر ، وليست هناك علاقة قوية تجمع بين طرفين لا تعتريها بعض الاختلافات العابرة حول أمور الحياة المتشابكة وأفضل خلق الله أجمعين الذي قال "خيركم خيركم لأهله

لا خيركم لأهلي" قد غاضب زوجاته وغاضبته زوجاته في بعض الأحيان، لأن الخلاف طبيعة بشرية ولو وجد على سطح الأرض شخصان تعاشرا وتشاركا في حياة طويلة متصلة ولم يختلفا مرة واحدة حول أمر هين ذات يوم لوجب عرضهما على الطبيب النفسي وربما طبيب الأمراض العقلية أيضا ، لأن البشر ليسوا متماثلين في كل شيء كقوالب الطوب ، لكن الفارق بين الحياة السعيدة والحياة الشقية هو ألا يكون الخلاف هو الأصل وهو طابع الحياة الذي يغلب عليها ويكون الوفاق هو الاستثناء النادر.

 

 وحين تغلب الخلافات على الحياة فإن ذلك لابد أن ينبه المتغافلين إلى أنهم ليسوا الأشخاص الملائمين كل منهم للآخر ولابد أن يدفع ذلك كل منهم للبحث عمن يلائمه إذا لم يكن في حياته من يدفعونه لتغليب سعادتهم على سعادته الشخصية وهم أبناؤه . فالأبناء هم المبرر الشريف الوحيد لاحتمال حياة لا تحقق للإنسان احتياجاته الإنسانية من السعادة والوفاق والإشباع النفسي والعاطفي ، وهم أيضا الحافز الوحيد لقبول لأن يجاهد كل طرف لإصلاح الطرف الآخر والتواؤم معه .. فإذا خلت الحياة الزوجية منهم يصبح تصحيح هذه العلاقة الخاطئة والعدول عنها أمرا واجبا لكلا الطرفين وإلا كان استمرارها لدوافع أخرى كالحاجة المادية .. أو كالخوف من مواجهة الواقع أو المجتمع أو کالرغبة بالاستئثار بمميزات يوفرها هذا الزواج الخاطئ ، وكلها كما ترین دوافع أنانية لا تضع في الاعتبار سعادة المرء ولا سعادة الطرف الآخر والأقدار الرحيمة قد ترفق بنا أحيانا فتتولى عنا تصحيح ما أخطأنا نحن بسوء اختيارنا ، وتجمعنا بمن فرقت بيننا وبينهم ظروف الحياة وقصر نظر بعض الأهل ، وهذا ما صنعته معك حين لم يقدر الله لك الإنجاب من زوجك الأول .. وهذه ظاهرة أخرى كثيرة في قصص عديدة مشابهة لقصتك هي أن تحرم فتاة من الزواج بمن أحبت وتتزوج راغمة بمن لا تريده فتفشل في الإنجاب منه رغم كل المحاولات ، ثم تجمعها الأقدار في ظروف غريبة بمن أحبت وتتزوجه فإذا بمسامها المغلقة تتفتح من جديد ويتحرك جنين الحب في أحشائها على غير انتظار.

 

على أية حال لقد أحسنت بنفسك حين أقدمت على تصحيح علاقة زواج خاطئة لم يكن لها ما يبرر استمرارها من أبناء ، وضحيت في سبيل ذلك بما لا قيمة له عند العقلاء من مادیات هي رخيصة مهما غلا ثمنها إذا قورنت براحة المرء وسلامة النفس .

فعسى أن تقرأ الأمهات والآباء رسالتك ويتفكروا في معانيها وعسى أن يحفظ الله عليك سعادتك ويحقق لك كل ما تأملين فيه لنفسك بكفاحك الشريف مع من سكن القلب إليه واستراح ، وشكرا لك على أمنياتك الطيبة لكل التعساء والمهمومين .

رابط رسالة التاريخ القديم

رابط رسالة عبير الأحلام تعقيبا على هذه الرسالة

*نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" في أكتوبر 1992

                             راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات