التاريخ القديم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
اللهم وسع من ساحة الرومانسية في حياة الجميع .. إذ ما أحوجنا إليها لنواجه طغيان المادية والبهيمية على تفكير وتصرفات أبناء عم أشجار الصنوبر.عبد الوهاب مطاوع
قررت أن أكتب لك قصتي لعل فيها ما يفيد غيري ..
فمند عشرين سنة كنت طالبة في بداية مرحلة الجامعة على قدر من التفوق وعلى قدر آخر
من الجمال، وكانت تربطني بزميلاتي وزملائی علاقة تسودها الثقة والاحترام وفي أحد
الأيام تقدم مني أحد زملائي وقال لي أنه يحمل لي مشاعر خاصة وأني فتاة أحلامه التي
يتمنى أن يرتبط بها للأبد وبالرغم من أني سعدت فعلا بما سمعته منه إذ كانت أول مرة
في حياتي يعبر لي فيها شاب عن مثل هذه المشاعر إلا إنني اعتذرت عن عدم الارتباط به
لأننا في سن صغيرة لا تسمح لنا بالحكم الصائب على المشاعر التي قد تتغير من مرحلة
إلى مرحلة من العمر ولأنني أيضا كنت شهدت بدايات قصص ارتباط بين زملاء وزميلات ولم
تطل ولم تخلف لصاحباتها سوى الألم.. والسمعة .
وتوالت الأيام .. ونسيت هذا الزميل تماما .. ثم تعرضت لقصة غريبة مع زميل آخر نجح في استثارة تعاطفي معه بقصة مؤلمة عن يتمه وكفاحه وإعالة إخوته خاصة شقيقته التي ناشدتني في رسالة تسلمتها بالبريد في الكلية ألا أتخلى عنه حتى لا يزداد انهيارا وتضيع أسرة بأكملها يعولها من عمله الليلي وتعاطفت معه فعلا ثم فوجئت بالزميل الأول ينصحني بالابتعاد عنه لأنه شاب عابث يشيع بين أصدقائه أنه مرتبط بي فضلا عن أنه ليس يتيم الأب فوالده على قيد الحياة وهو الذي يعول الأسرة وليس هذا الزميل الذي لا يعمل عملا ليليا كما يزعم.. وإنما يصادق بعض أصحاب السوء وله مغامرات وعلاقات كثيرة وإلى جانب ذلك فليست له أخت صغيرة أو كبيرة وقد زيف الرسالة التي تلقيتها لاستدراجي للارتباط به وذهلت مما سمعت وأصابني ما يشبه الانهيار وعدت إلى بیتی فرميت شرائط الأغاني العاطفية وروايات الحب في صندوق القمامة وقطعت صلتی به ولم أعد أطيق مجرد رؤيته عن بعد، واقتنعت تماما بإن الحب وهم كبير وأن الرومانسية خزعبلات يتمايل بها بعض الشبان على الفتيات لتحقيق ما يهدفون إليه، وقررت ألا أتزوج إلا زواج العقل وحده، ومضت سنوات الدراسية وفي العام الأخير جاءتني زميلة لي وأبلغتني أن الزميل الأول وهو قريبها مازال متمسكا بي وقد اشتری دبلة ذهبية وحفر داخلها اسمي وتاريخ اليوم ويرتديها في إصبع يده اليمني.. ويسألني أن أنتظره حتى يتخرج ويعمل ويتقدم لي. فثرت في وجه زميلتي هذه وأكدت لها أني لا أريد الارتباط بأي إنسان، وواجهت هذا الزميل بقسوة وأبلغته أنني لن ارتبط بأحد ونصحته بأن يوجه اهتمامه لدراسته بدلا من مثل هذه الخزعبلات، ولم اكتف بذلك وانما سخرت من دبلته التی يرتديها بطريقة قاسية فلم يزد عن أن أحنى رأسه ثم انصرف صامتا وهو في قمة الخجل.
وتخرجت في كليتي وابتعدت عن مجتمع الطلبة اللهم
إلا بعض الزميلات التي استمرت صداقتي بهن، وفى إحدى الحفلات العائلية رآني شاب من
أقارب أمي وأعجب بي ووافق عليه أهلي لأنه میسور الحال، ووافقت عليه بناء على
موافقتهم.
وتزوجنا وأنا لا أحس تجاهه سوی بمشاعر القبول
العادية آملة أن يحدث التقارب بيننا بعد الزواج، فمضت ثلاث سنوات دون أن أنجب وبدأ
القلق يسيطر على أسرته وينعكس على حياتنا وبدأت أمه تحثنا على إجراء الفحوص الطبية
وأجريناها فازداد القلق منذ أثبتت قدرته الكاملة على الإنجاب في حين كشفت الفحوص
عن ضعف قدرتی علية، ومضت السنوات ونحن نطوف على الأطباء حتى مللت كل شيء بالرغم من
لهفتي على الأمومة وازداد تدخل أسرته في حياتنا بسبب هذا الأمر.. وبدأ زوجي يطلب
مني السماح له بالزواج من أخرى لكي ينجب، وشيئا فشيئا تحول إلى شخص آخر يسب ويلعن
اليوم المشئوم الذي راني فيه، وكثرت المشاحنات وفترات الخصام بيننا.. وفی إحدى هذه
النوبات طلبت منه الطلاق لكی يتزوج غيری ويستريح، ووافق بشرط التنازل عن مؤخر
الصداق وطلقني فعلا بعد ۱۰ سنوات كاملة من الزواج ووجدت نفسي في سن الثالثة والثلاثين
مطلقة وعرفت مدى بشاعة كلمة المطلقة في مجتمعنا.. وكنت منذ تخرجي بالكلية لم اعمل
فوجدت نفسی غير قادرة على احتمال الحياة بلا زوج.. ولا أطفال.. ولا عمل.. فبحثت عن
عمل مناسب وعملت به وركزت فيه كل همي وبدأت اتشاغل عن أحزاني .
وذات يوم زارتني الزميلة قريبة الزميل القديم صاحب
الدبلة الذهبية وتطرق الحديث إلى زملاء زمان فألمحت لي أن قريبها قد عاد من الخارج
بعد رحلة عمل طويلة حقق خلالها نجاحه، وبدأ مشروعا في مدينتنا، وسعدت بنجاحه
واستقرار حياته.
وبعد شهور أجريت لي عملية الزائدة الدودية.. فزارتني
صديقتي هذه وزوجها وفوجئت بالزميل القديم معهما .. وتأثرت بوفائه وحرصه على
مجاملتي في مرضي.
ثم خرجت من المستشفى .. وبعدها بأيام أبلغتني
صديقتي بأن زميل الجامعة القديم يريد أن يتقدم لي من جديد .. واختلطت الدهشة
بالفرحة وسألتها متعجبة : بعد كل هذه السنوات.. وأنا مطلقة..؟
وهل يعرف حكاية الإنجاب ودهشت حين قالت لي إنه
يعرف عني كل شيء من زوجها طوال السنوات الماضية وأنه لم يرتبط للآن ولم يتزوج.. بل
ولم يقرر الاستقرار في مدينتنا وبدء مشروعه فيها إلا بعد أن علم بطلاقي.
ووجدت دموع التأثر تطفر من عيني ولم اعرف ماذا
أقول.. وتعجبت من الدنيا ومما تفعله بنا .. وطلبت مهلة قصيرة للتفكير فلم يمض
يومان إلا ووجدته في بيتنا على غير موعد يطلب يدي .. بل ويهددني بأنه لن يغادر
بيتنا هذه المرة إلا وأنا في عصمته فإذا بينبوع من المشاعر يتفجر داخلي ويغرقني
ويحول مشاعر الزمالة إلى مشاعر من نوع آخر.
وبدأنا نستعد للزواج وأصر الزميل القديم على أن
يقيم لي فرحا كبيرا في أحد الفنادق كأنني فتاة بكر لم تتزوج من قبل وتزوجت مرة
أخرى وأنا في الخامسة والثلاثين من عمري وقضينا شهر العسل في أحد المصايف وأدركت
خلاله كم كنت غبية حين حرمت نفسي من هذا الإنسان الطيب المتدین رفیق المشاعر..
دافيء القلب ولم تمض أسابيع حتى كان قد أقنعني برقة وبلا ضغط بارتداء الحجاب
والانتظام في الصلاة .
وبعد عام من زواجنا .. اصطحبني إلى الرحلة
المباركة لأداء فريضة الحج معا، وبعد عام آخر فاجأني باصطحابی معه في رحلة صيف إلى
انجلترا بدعوى السياحة والاستمتاع بنعمة الله علينا.. وهناك اصطحبني لزيارة طبيب
كبير بناء على حجز مسبق لديه منذ شهر، واخبرنا الطبيب بأن الأمل ضعيف لكنه قائم..
فلم اصدم لأني كنت قد سلمت أمري لله في هذا الأمر لله
منذ زمن بعيد.. لكني أشفقت عليه هو من أن يخيب
أمله، وواظبت على العلاج والمتابعة في مصر وبعد ستة شهور عدنا إلى نفس الطبيب
وأجريت لی جراحة أخرى، ورجعت لمصر وتابعت العلاج تحت إشراف طبيب هنا فإذا بي اشعر
وأنا في التاسعة والثلاثين بشئ غريب ومثير يتحرك في أحشائي وإذا بمن إذا قال للشيء
كن فيكون يأذن لى أن ألد مولود الجميل وإنا في الأربعين من عمري فسبحانك ربي تعز
من تشاء وتذل من تشاء وأنت على كل شيء قدير.
ولقد عاهدت نفسي منذ ولادتي من شهرين أن اكتب لك
قصتي لأشكر ربي على عطيته ونعمته ولأؤكد لقرائك ما تقوله أنت لهم كثيرا من أن
الحياة قد تدخر أحيانا للإنسان ما يحلم به من سعادة ثم تعطيه جوائزها حين يشتد
ضيقه وكربه ولا يرى في حياته سوى الحزن والدموع وهذا هو جزاء الصابرين الشاکرین.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
"وما تشاءون إلا أن يشاء
الله" صدق الله
العظيم، هذا هو مغزی قصتك الجميلة هذه وأهم دروسها إلى جانب دلالات الآيتين
الكريمتين اللتين تتفكرين في معانيهما كثيرا الآن، إن قصتك يا سيدتي مثال جديد على
سعي الحياة الدائم لتصحيح أخطائها، كما كان يقول شاعر الهند العظيم طاغور، "وما
أكثر الأخطاء وما أكثر من يتمنون لو اتسعت لهم فسحة العمر ليشهدوا تصحيحها.. أو ينالوا جوائزهم
وفي القلب بقية من استعداد للاستمتاع بالحياة. "
وبالرغم من كل ذلك فإن الإنسان يستطيع أن يستعين
على ما يشقيه بالتعلق دائما بالأمل في رحمة الله وبألا يشتد جزعه حين تحرمه الحياة
من بعض ما يصبو إليه، انتظارا لدوره في تصحيح الأخطاء وجوائز الحياة للصابرين
الراضين بأقدارهم.
وهناك حكمة هندية تقول:
"كل ما تأتي به الحياة خير، وكل شيء مكروه سيصبح مألوفا بعد حين" ..
وبمفهوم هذه الحكمة فإن علينا أن نتقبل أقدارنا
بغير سخط.. ثم نسعى بقدر الجهد لتغيير ما نستطيع تغييره من أوضاع تسبب لنا
الشقاء ، ونصادق ونألف ما لا نستطيع تغييره منها.
ويبدو أن هذا هو ما فعله زوجك الحكيم يا سيدتي
فلقد تقبل أقداره بلا ولولة ولا بكاء على الإطلاق، ثم تمسك بحلمه شبه المستحيل إلى
أن ساعدته دورة الأيام على تهيئة الظروف الملائمة لتحويله إلى حقيقة، وكل شيء يأتي
لمن صبر كما يقولون.
والحق أن كثيرين يسيئون فهم الرومانسية ويتصورون أنها لا تعني سوى الحب الحالم الذي
يتناقض مع أحكام العقل أو تعني العاطفة الهوجاء بلا مرشد من عقل أو حكمة، في حين
أن المفهوم الصحيح لها تختلف كثيرا عن ذلك.
على أية حال مبروك عليك عودة الرومانسية والسعادة
والاستقرار إلى حياتك ودعاء لك بأن يحفظ الله عليك كل أسباب سعادتك وأن يوسع من
ساحة الرومانسية في حياة الجميع.. اذ ما أحوجنا إليها لنواجه طغيان المادية
والبهيمية على تفكير وتصرفات أبناء عم أشجار الصنوبر.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر