الزهور السوداء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
إن الحياة تجارب وعثرات والإنسان استمد قدرته على البقاء من قدرته على امتصاص الألم واحتماله .. وما أكثر التجارب الناجحة التي سبقتها تجارب مؤلمة فاشلة. بل لعل التجارب المؤلمة تنضج شخصية الإنسان على نار هادئة وتساعده على تفهم الحياة والتعامل معها.
وإلا فما فائدة الألم إذن .. إذا لم نتعلم من تجاربنا ؟ .
عبد الوهاب مطاوع
لم أتردد فى الكتابة إليك لأنني أشعر بحاجتي إلى
صديق أبثه همومي فى زمن عز فيه الأصدقاء .. ولأبدأ من البداية البعيدة فأقول لك يا
سيدي إنني شاب فى أوائل الثلاثينات أحمل مؤهلا فوق المتوسط .. وقد نشأت فى أسرة
متوسطة بين أبوين كريمين وبدأت حياتي العملية بعد تخرجي فى المعهد فى وظيفة
بالقطاع العام ، ومضت الأيام هادئة إلى أن اكتشفت أنني قد بلغت السادسة والعشرين
وآن لى أن أرتبط بإنسانة أبنى معها عش حياتي فوجدتها فى شخص قريبة لزميل لى فى
العمل. وتعرفت إليها ودخلت المنزل من الباب وتمت الخطبة وحصلت على أجازة بدون مرتب
وسافرت إلى للعمل فى أحدى الدول العربية لأجمع ما يكفي للحصول على شقة وتأثيث عش
الزوجية .
واغتربت يا سيدي وذقت طعم الغربة من أجل غرض محدد
هو المال .. ولا أستطيع أن أصف لك ما لقيته خلال رحلة غربتي من عناء وهوان ومشقة
وكبت نفسي واجتماعي لكنني رغم ذلك تحملت وشقيت وعملت مضاعفا فى أسوأ الظروف فكنت
أعمل دائما فى الصحراء وفى الجبال فى سبيل حافز مادي أكبر، وعملت أكثر من وردية
عمل فى اليوم الواحد وعملت فى نوبات العمل خلال الليل لأحصل على نقود أكثر ، وحرمت
نفسي من كل شىء عدا ما يقيم أودى من الطعام ، لأوفر ما أحتاج إليه من مقدم للشقة
ومن كماليات ، ورغم ذلك فلقد كنت سعيدا لأنني أشقى من أجل هدف سعادتي مع الإنسانة التي
اخترتها.
ومرت الأيام ثقيلة بطيئة لا يعرف ثقلها إلا من
عانى الغربة والوحشة .. يكفى أن أقول لك أنني كنت أخط خطا على حائط غرفة نومي كلما
طلع النهار سعيدا بانقضاء يوم سوف يقربني من تحقيق حلمي وكلما اكتملت 7 خطوط شطبت
عليها سعيدا بانقضاء أسبوع واقترب جمع الشمل وكلما تجمع لدى مبلغ من المال حولته
إلى مصر حتى استطعت خلال 4 سنوات استئجار الشقة وتأثيثها بكل الكماليات ، وجاء يوم
العودة وعدت إلى مصر طائرا على جناح السعادة ، وبعد أسابيع من عودتي تم الزفاف
ودخلت عش الأحلام الذي بنيته طوبة طوبة بشقائي واغترابي لكني أحسست بعد أيام من
بدء حياتي الجديدة بشىء غامض فى جوها لا أعرف كنهه .
أحسست بأن جوا من الفتور يخيم على عش الأحلام وبدأت
أحس بأنني غريب فى بيتي .. وأن فتاة أحلامي ليست على ما يرام معي.
وقلت لنفسي لعلها الغربة الطويلة التي باعدت بيننا
ولعل الأيام تتكفل بإذابة الجليد لكن الأيام حملت لى بعد ذلك أكثر من تطور هام
فبعد الزفاف بأسبوع أحضرت زوجتي سريرا صغيرا وضعته فى غرفة الصالون وأصبحت
تقضي معظم وقتها وحيدة فيه ، وصدمت صدمة هائلة ..لكنى لم أفقد الأمل فى تغيير
الأحوال بعد أن تخلق العشرة الروابط العميقة بيننا ، وكتمت آلامي .. وواصلت الحياة
فى صبر ، وعدت للعمل بعد الأجازة آملا أن يخفف عنى العمل ما أعانيه .
وسألت أهل الخبرة من زملائي .. فقالوا إن هذه هي أحوال
بعض الفتيات الصغيرات فى بداية حياتهن الزوجية ..حيث تتغير حياتهن فجأة ويجدن
أنفسهن بعيدات عن الأهل وبيت الأهل الذى نشأن فيه ، وأن الفتاة تألف بعد قليل
حياتها الجديدة وتتمسك بها ، وأنه فى هذه الحالة بعض اللمسات الرومانسية البسيطة
كهدية صغيرة أو باقة زهور .. مع كلمات رقيقة أو فسحة فى الخارج ، واسمح لى أن أقول
لك أنني حتى هذه اللحظة لم أكن قد اشتريت فى حياتي باقة زهور ولا أعرف عنها شيئا
لكني سألت فدلني زميل على محل قريب ونصحني بشراء زجاجة عطر وتقديمها مع الزهور
ففعلت ودخلت فى الشوارع حتى وجدت سيارة تاكسي للعودة إلى البيت لكيلا تتمزق الزهور
فى الأتوبيس ، وعدت حاملا الزهور و(لفة) الهدية مترقبا أثر المفاجأة على وجهها
الحزين.
وفتحت باب
الشقة متوثبا ففوجئت بمنظر مازال محفورا حتى الآن فى ذهني .. فوجئت الشقة خالية
تماما من كل شىء .. من زوجتي التى اغتربت من أجلها 4 سنوات ، ومن الأثاث والسجاد
والستائر .. والتليفزيون ومن كل الكماليات ، درت فى غرف الشقة كالمجنون فوجدتها
خالية تماما وليس فيها سوى البلاط وبعض ثيابي ملقاة على الأرض.
وتبينت فى
هذه اللحظة فقط أن زوجتي قد حزمت أمرها ودبرته ونفذته وأنا غائب تماما عن الموقف
متصورا أن الأمر مجرد رهبة للحياة الجديدة وأنها سوف تألفها بعد قليل.
وبقدر ما تحملت من آلام نهضت فجأة وذهبت إلى بيت
أسرتي وطلقتها بلا تردد وبعد أيام بدأ الرسل يتوافدون بين الأسرتين لإنهاء الأمور
التقليدية ..ولم أتوقف عند أي شىء وخلال الأيام والأسابيع السوداء التى تلت ذلك
تكشف لى ما لم أكن أعرفه ، فبعد ثلاثة شهور بالضبط من طلاقي لها تزوجت بمن تحب وهو
زميل لها فى العمل نمت بينهما علاقة الحب خلال اغترابي .. وكرهت الدنيا وأصررت على
أن أحيا وحدي فى الشقة الخالية لكيلا أرى أحدا أو يراني أحد وعدت إلى شقتي ولست
بحاجة لأن أقول لك أنني لم أكرر بعد ذلك تجربة شراء الورد فى حياتي مرة أخرى بل
لعلي كرهته .. ومرت 3 سنوات .. وعدت أشعر من جديد بالوحدة وبدأ الحنين يراودني إلى
الزوجة والأطفال والأسرة مرة أخرى لكنى جريح .. وفارغ الجيوب بعد أن وضعت كل
مدخراتي فى العش المنهار .وقطار العمر يمضى ..فهل تراني أستطيع أن أبدأ حياتي من
جديد وماذا على أن أفعل هل أغترب مرة أخرى لأعود وأنا فى الأربعين وهل ترى أنني
سوف أستطيع أن أنسى ما حدث بسهولة ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
نعم
يا سيدي تستطيع أن تبدأ حياتك متخلصا من آثار هذه التجربة المريرة عليك .. بل لابد
أن تبدأ حياتك من جديد ،فليس من المنطقي أن يضيع الإنسان عمره فى اجترار آلامه
..وفى البكاء على الأطلال ولا شك أنك تعرضت لتجربة قاسية ..ضاعف من آثارها ما يبدو
لى من سلامة طويتك ونقص خبرتك بالحياة وبالبشر فلاشك أن النهاية الدراماتيكية التى
شهدها عش الأحلام كانت لها مقدمات طويلة تنمو تحت السطح لكنك لم تلتفت إليها فى
غمار كفاحك لبنائه بالغربة وبالعمل المضاعف والشقاء ،لكن ما مضى قد فات ولا يفيد
الآن البكاء على اللبن المسكوب بل ولا يشرف الإنسان وهو فى مكتمل رجولته وحياته أن
ينهار انهيارا تاما أمام تجربة مهما كانت مرارتها ،فقف على قدميك مرة أخرى وتعلم
أن الحياة تجارب وعثرات وأن الإنسان استمد قدرته على البقاء من قدرته على
امتصاص الألم واحتماله .
والحق أنني رغم احتقاري لتصرف فتاة أحلامك
وانتهازيتها التى سمحت لها باستكمال المشوار معك وهى مرتبطة بغيرك إلا أنني أرى أن
ما حدث هو أفضل كثيرا من استمرارها معك وهى غير مخلصة لك ولو بمشاعرها فما أقسى أن
يحيا الإنسان مع من تهفو نفسه إلى غيره ، وما أوحش أن يعيش تحت سقف واحد مع من لا
يرى فيه شريك أحلامه وكم من مآس يصنعها هذا الحال ..فاشكر الأقدار التى أرادت أن
تجنبك هذا المصير بلا مآس اجتماعية .. كوجود أطفال يعقد وجودهم الأمور .
فاستعد نفسك يا صديقي فقصتك قديمة قدم التاريخ
وقدم عذاب الإنسان وحيرته ،لكنها ليست من قوانين الحياة بل هى فى النهاية استثناء
من القاعدة والاستثناء موجود دائما .. والقاعدة السليمة الخيرة موجودة أيضا دائما
فليست كل الفتيات كفتاتك ولا يعنى امتحانك بهذه الفتاة أنك سوف تمتحن بغيرها ،بل
لعل ضريبة الألم التى دفعتها ترشحك لأن تنال حقك العادل من الحياة ولأن يعوضك الله
عما لقيت بمن تضمد جراحك وتعيد إليك ثقتك بنفسك وبالحياة والبشر والخير ،وما أكثر
التجارب الناجحة التى سبقتها تجارب مؤلمة فاشلة.بل لعل التجارب المؤلمة تنضج
شخصية الإنسان على نار هادئة وتساعده على تفهم الحياة والتعامل معها .
والحق أنك إنسان شهم مضح فلقد انسحبت من حياة
فتاتك الظالمة بهدوء ولم تتردد فى طلاقها ..ولم تفكر فى مماطلتها .. أو تعليقها أو
جرجرتها فى المحاكم كما يفعل الآخرون وهذه (فروسية) تتفق مع شخصيتك وتتلاءم
معها أما السفر إلى الخارج فأمره متروك لك لكنى أتصور أن وجود الشقة وحده
يذلل عقبات الزواج وبالتالي فلا حاجة لرحلة اغتراب جديدة تبدأ بالارتباط الأسمى مع
فتاة ثم تتركها لتبحر من جديد فى بحار المجهول لفترة طويلة لا أحد يعرف ماذا يمكن
أن يحدث فيها فإذا ارتبطت مع أخرى فلتتعاونا على بدء حياة جديدة هنا تتشاركان فى
بنائها معا ،لتكونا أنتما الاثنان حريصين على نجاحها واستمرارها ..ومسؤلين معا عن
ذلك..
... وإلا فما فائدة الألم إذن .. إذا لم نتعلم من
تجاربنا ؟.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر