السؤال الصامت .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1993

السؤال الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993 

السؤال الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

إن السعادة في الحياة الزوجية لا تصنعها الصحة أو الجسم السليم أو سلامة الأعضاء .. وإنما تتحقق بالتوفيق الإلهي  قبل أي شئ ومن بعده الحب الصادق المتبادل والتفاهم والتراحم والتآلف وحسن الاختيار.

عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة

لن أطيل عليك بمقدمات طويلة .. لكني سأقول لك مباشرة إنني شاب أبلغ من العمر تسعة وعشرين عاماً وقد تخرجت في إحدى كليات القمة .. كما يسمونها وناجح في عملي الذي يدر عليّ دخلاً ثابتاً يكفي لأن يؤمن لي مستقبلي بإذن الله .. ومنذ عام تقدمت لخطبة فتاة رشحتها لي أسرتي فوجدت فيها شريكة حياتي التي كنت أحلم بها .. وأسرتني مزاياها من حس مرهف ورقه وحنان مع شخصية سوية وقدرة غريبة على أن تحب كل من حولها .. وتمت الخطبة وتكررت لقاءاتنا وبدأنا في إعداد عش الزوجية المرتقب وفي كل يوم تنمو بيننا بذور الحب وتتفتح ورودها حتى أصبح كلانا خلال وقت قصير متيما بالآخر, ومنذ فترة قصيرة جدا ذهبت خطيبتي لشراء بعض مستلزمات عشنا الجديد فإذا بصبي لا أعرف كيف سمحوا له بقيادة السيارات يقود سيارة يابانية فاخرة .. فتختل عجلة القيادة في يده ويقتحم الرصيف الذي تسير عليه فتاتي ويصدمها صدمة مروعة نقلت على أثرها للمستشفى وكشفت الفحوص عن كارثة هي: أصابتها في الساقين للأسف الشديد.

ولن أطيل في وصف المأساة وما خلفته من أحزان في أسرتها وأسرتي ولدى كل من عرفها أو اقترب منها .. لكن لك أن تتخيل فقط منظر فتاة جميلة رقيقة كالنسمة في الخامسة والعشرين من عمرها وهي ترقد بلا حراك بعد أن كانت تملأ الدنيا حولي حبا وحناناً .. ودموعها تنساب باستمرار من مقلتيها , ولا أملك إلا البكاء ومحاولة التخفيف عنها بقدر الإمكان , ووسط كل هذه الآلام والأحزان ألمح في عينيها سؤالاً صامتاً كأنما تسألني بغير كلام: هل ستتخلي عني بعد أن جرى لي ما جري؟

ومنذ أيام جمعتني جلسة مع بعض من يهمهم أمري فكان محور حديثنا بالطبع هو ما جرى لفتاتي , واتفقت الآراء على أنه أمر بالغ السوء وأنها إنسانة سيئة الحظ إلى أقصى درجة وتستحق كل عطف لظروفها ولشخصيتها الرقيقة لكنني من ناحية أخرى يجب أن أنسحب بهدوء من مشروع الزواج لأنه كما قيل .. لا يجوز أن أقترن بفتاة لا تستطيع أن تحيا  حياة طبيعية , ولن أزعم لك أنه لم تساورني مثل هذه الهواجس والأفكار لكني سأقول لك باختصار أنني وجدت نفسي بعد قليل أقرر الاقتران بها والمضي في مشروع زواجنا كأن شيئاً لم يكن .. ووضعني هذا القرار في مناظرة مع هؤلاء الذين يهمهم أمري وكان منطقي في الدفاع عن قراري هو: ماذا كنت سأفعل لو كنت أنا ضحية هذه المأساة وتركتني فتاتي بسببها؟.. وكم من الآلام كنت سأعانيها بسبب انسحابها وتخليها عني..ثم ماذا لو كانت هذه المأساة قد تأخرت عامين مثلا ثم وقعت بعد أن تزوجنا وأنجبنا؟...هل كنت سأتخلى عنها أو اتركها!..

وأين الوفاء وأين نبل المشاعر في حالتي لو انسحبت من حياتها الآن..أو لا يستطيع الحب وحده أن يتغلب علي أمثال هذه المصاعب؟!

أما هم فقد كان منطقهم هو أن كل هذه المشاعر سوف تموت تدريجيا وتختفي مع مرور الأيام ؟؟ ولن تبقي سوي الإعاقة التي ستحول دون ممارستي لحياة طبيعية

من حقي كأي شاب أن أعيشها ولهذا فإنني يجب أن أتروي لأن مشاعري كلها نابعة من الإحساس بالإشفاق عليها.

إنني يا سيدي مازلت مصمما على موقفي لأن مشاعري هي مشاعر الحب الصادق وليست مشاعر الشفقة ولن تكون فتاتي موضع شفقتي في يوم من الأيام.إنما موضع حبي اليوم وغدا، بل إني لأرجو أن يكون ما جري لنا من اختبار قاس قبل بداية حياتنا الزوجية عاملاً إضافياً لتقوية علاقتنا وحبنا أكثر وأكثر .لكني من ناحية أخرى لا أريد أن أفقد صلتي بمن يهمهم أمري لهذا فإن لي عندك حاجتين. الأولي هو أن توجه إليهم كلمة وهم من قرائك الدائمين تناشدهم فيها ألا "يخسروا" من لا يحمل لهم إلا كل التقدير والحب..أي لا يخسرونني بسبب هذا الموقف .. والثاني أن تناشد قراءك أن يكتب أي إنسان منهم واجه تجربة مماثلة لتجربتي قصته  معها وكيف واجهها وتغلب عليها لأستفيد بخبرته العملية في محنتي هذه .. وشكرا له مقدماً ولك ولكل القراء الذين يتشاركون ويتبادلون الخيرات والتجارب.

 

ولكـــاتـب هـــــذه الـرسالة أقـــــول:

 

هناك مواقف دقيقة في الحياة يواجه فيها الإنسان الاختيار الصعب بين العقل..والعاطفة قبل اتخاذ بعض القرارات المصيرية في حياته..والأهل أو من "يهمهم أمرنا" في الحياة يحسمون في مثل حالتك هذا الاختيار الصعب بتحكيم العقل المجرد وحده بلا تردد حتى وهم يرثون لفتاتك ويشفقون عليها من أقدارها الحزينة..لكنك على الجانب الآخر لا تستطيع أن تحتكم إلى العقل المجرد وحده في اختيارك لأن العاطفة شأن خاص بك..ولا نستطيع أن تغفلها من حساباتك..لهذا فهم منطقيون مع أنفسهم ومع رغبتهم الطبيعية في تجنبك المعاناة والشقاء.

وأنت كذلك منطقي مع نفسك ومع عاطفتك ونبل مشاعرك ورغبتك في الارتباط بمن تري سعادتك في الالتصاق بها حتى نهاية العمر.

ولابد من التوصل إلى نقطة التقاء بينكم ,وهو أمر ليس بعسير إذا استهدينا بالحكمة وبمبادئ ديننا  التي حددت لنا الحدود الفاصلة بين واجب الآباء في إرشاد الأبناء الراشدين إلى ما فيه خيرهم, وبين حق الأبناء في أن يختاروا لأنفسهم بعد الاستهداء بنصح الآباء..فللآباء أن يبصروا أبناءهم الراشدين بالعواقب التي قد تغيب عن إدراكهم لقلة خبرتهم بالحياة أو لاستلامهم لمشاعرهم العاطفية وتجاهل أحكام العقل وللأبناء أن يستهدوا بحكمة الآباء وبثمار خبرتهم في الحياة أو يعتذروا عن ذلك ويتمسكوا بحقهم في أن يخوضوا تجربتهم بأنفسهم..ويتحملوا تبعات اختيارهم فإن سعدوا بحياتهم سعد الأهل لسعادتهم, وإن شقوا بها لم يلوموا إلا أنفسهم..وهذا هو الخط الفاصل بين النضج ..وبين الإرغام والإملاء..ولو التزمنا به وجاهدنا أنفسنا عليه لتجنبنا الكثير من المشاكل ولقد أعجبني منطقك في مناقشة من يهمهم أمرك حين تساءلت عما كنت ستحس به من آلام لو كنت أنت ضحية هذا الحادث المؤلم وتخلت عنك فتاتك بسببه ,ولعلي أضيف إليه تساؤلا آخر هو: بل وماذا كان سيعاني أيضاً من يهمهم أمرك من أحزان إضافية إلى جانب همهم بما أصابك لو تخلت عنك فتاتك في مثل هذه الظروف فضاعفت من آلامك وآلامهم وأفقدتهم الثقة في الوفاء ونبل المشاعر ؟ بل وماذا سيكون رأيهم فيها في مثل هذه الحالة..وهل يرضون لك بمثل هذا الرأي من جانب فتاتك وأهلها؟.

نعم..نحن جميعا نريد لأنفسنا أن نتجنب الآلام والمشاكل والصعوبات لكننا لا نستطيع من ناحية أخرى أن نتجاهل "الآخرين" الذين تتعارض سعادتنا كما نريدها لأنفسنا مع سعادتهم التي نستطيع أن نحققها لهم ولنا لو تنازلنا عن شئ من إشفاقنا الغريزي على النفس من تقديم أيه تنازلات عما نريده لأنفسنا..ولابد لنا دائماً أن تتمثل مشاعر الآخرين لو واجهنا نفس مواقفهم ونضعها في الاعتبار بقدر الإمكان والسعادة في الحياة الزوجية في النهاية لا تصنعها الصحة أو الجسم السليم أو سلامة الأعضاء..وإنما تتحقق بالتوفيق الإلهي  قبل أي شئ ومن بعده الحب الصادق المتبادل والتفاهم والتراحم والتآلف وحسن الاختيار ..ولا عجب في ذلك لأن أكبر قدر من سعادة الإنسان إنما ينبع من عقله وقلبه وروحه وليس من جسده أو أجساد الآخرين أو من الظروف المحيطة به, ومن يظفر بالسلام الداخلي والرضا عن النفس وعن اختيارها لطريقها في الحياة ولمبادئها من أهم أسبابه "لا تقوى أن تزعزعه"_كما يري الأديب الأمريكي وليم شيرر _أيه عاصفة أو حدث من أحداث الزمان وكوارثة.

وقد ذكرتني رسالتك بقصة بطلة العالم الأمريكية في التزحلق على الجليد التي انكسر عمودها الفقري في إحدى البطولات فأصيبت بالشلل التام وانطوت على أحزانها تبكي أحلامها الموءودة في البطولة والشهرة والحب والزواج إلى أن التقت بشاب عرفها في ظروفها الصحية هذه وأحبها وأحبته..وراح ينتقل بها من مكان إلى مكان وهو يحملها فوق ظهره ثم تزوجها وأنجب منها ثلاثة أطفال وبعد15 عاما من زواجهما سئل عن تجربته معها فأجاب بأن ما أعطته له زوجته من سعادة لم تكن لتستطيع أن تهبها له أي  امرأة أخري في العالم.

ورغم كل ذلك فإني مع منطق ذويك في أن الإشفاق والعطف لا يصلحان وحدهما أساساً لزواج متين البنيان ,ولقد فهمت من رسالتك أن هذا الحادث الأليم قد وقع منذ فترة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع ,وفي تقديري أن الفترة الماضية لا تكفي للحكم علي صدق رغبتك فيها بعد هذه الظروف الجديدة.لهذا فإني أطالبك بأن تمتحن صدق مشاعرك تجاه فتاتك وتختبر صلابة حبك لها وقدرته على الصمود ومواجهة التحديات ولن تستطيع أن تتوصل إلى نتائج صادقة بهذا الشأن في ظلال جو المأساة والإحساس بالخجل ومن فكرة التخلي عنها باعتبارها أمراً منافياً للشهامة اللذين يخيمان على علاقتك بها,ولهذا أنصحك بأن تعطي نفسك مهلة كافية من الوقت لتختبر خلالها مشاعرك بغير التأثر بهذين العاملين لكي تستطيع أن تفرز خلالها مشاعر الرثاء والعطف التي لا تصلح أساساً للزواج ..من مشاعر الحب الصافية..وتتخذ قرارك علي ضوء نتائج الفرز.

فإذا جاءت النتيجة في صالح الاستمرار في مشروع الزواج فامض في طريقك على بركة الله وواصل إقناع ذويك بأنك قد اخترت لنفسك ما ترى فيه سعادتك ولا يتعارض مع كرم أخلاقك أو نبل مشاعرك,وإن كانت غير ذلك..فلعله أكرم لفتاتك وأقل إيلاماً لها أعانها الله على أمرها أن تتجرع آلام التخلي عنها ووأد الحب والأحلام الجميلة قبل الزواج.. من أن تضاف تعاستها الزوجية إلي معاناتها الجسدية والنفسية بعده فتكابد الأمرين معاً..وقد ينتهي الحال بها إلي الانفصال  بعد أن تكون قد اعتمدت عليك نهائياً في حياتها..ويشق عليها احتمال الغدر بها, فدعها لأقدارها إن لم تكن واثقاً من صدق تمسكك بها .. عسى الله أن يمسح على آلامها ويعوضها عما أصابها ويضع في طريقها من يسعد بها ويسعدها ويحملها علي ظهره بين أرجاء الأرض سعيداً باختباره وراضياً عن حياته..وعفواً لأية كلمة شاردة تكون قد آذت مشاعر فتاتك الرقيقة من حيث لم أرد ولم أرغب..  ..والسلام..

رابط رسالة إجابة السؤال تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة الطفل المشاغب تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة الهدية تعقيبا على هذه الرسالة

  نشرت في سبتمبر عام 1993 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة 

نقلها من مصدرها / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات