إجابة السؤال .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
إن سعادة الإنسان لا تعتمد على حالته المادية أو الصحية وإنما على ما يحس في قلبه من صفاء وسكينة ومودة لمن يحب ومن يبادله هذه المشاعر النقية بإخلاص.
عبد الوهاب مطاوع
أود في
البداية أن أشكرك على ما شملتني به أنت وقراؤك من اهتمام حين نشرت مشكلتي منذ
شهور. فأنا يا سيدي الطبيب الشاب الذي كتبت لك رسالة نشرتها بعنوان "السؤال
الصامت" ورويت لك فيها أنني قد خطبت فتاة جميلة رشحتها لي أسرتي.. وبدأنا
نستعد للزفاف فتعرضت خطيبتي فجأة لحادث سيارة فقدت بسببه قدرتها على السير، ووقفت
إلى جوارها في الأيام الصعبة التالية للحادث.. ورأيت السؤال الصامت في عينيها
يسألني بإشفاق هل سأتخلى عنها بعد ما حدث لها أم سأتمسك بها للنهاية كما كنا نخطط
قبل الحادث. ثم بدأت أسرتي تدخل معي في مناقشات طويلة محصلتها أنه رغم الأسف لما
حدث لفتاتي
فإنني يجب أن أبحث عن مستقبلي بعيدا عنها ومعارضتی لأسرتي في ذلك مؤكدة لها أنني
إذا فعلت ذلك فسوف أفقد احترامي لنفسي لأن فتاتي لا ذنب لها فيما حدث.
وقد نصحتني
في ردك علي بالتأني في اتخاذ قراري بشأن مستقبلي لكي يكون صادرا عن اقتناع کامل
ورويت لى قصة بطلة العالم في الانزلاق على الجليد التي أصيبت بشلل كلي في حادث
مؤلم .. فلم يتخل عنها فتاها وتزوجها وراح يتنقل بها من مكان إلى مكان حاملا إياها
فوق ظهره وفخورا بها وكيف سعد بزواجه منها وأنجب منها عدة أطفال ونجح زواجهما حتى
الآن.
وقد شارك
قراء آخرون في التعليق على قصتي وروى لك احدهم وهو طبيب كبير قصة مماثلة لفتاة
جميلة تعرضت لنفس الظروف وهي مخطوبة وأشرف على علاجها ثم زارته في عيادته بعد
سنوات مع خطيبها الذي أصبح زوجها ومعهما طفلهما الأول.. وكيف رأی "جمال
الله" يحيط بالزوجين الشابين وأسرتهما السعيدة. وقد وجدت من واجبي أن أصارحك
القول إنني كنت موزع المشاعر خلال تلك الفترة ولا استطيع الاستقرار على رأي ومع
إني قد ملت بكيانی وروحى إلى حبيبتى فلقد آثرت التريث حتى لا يكون قراري متأثرا
بظروف فتاتي المؤلمة ثم اندم عليه فيما بعد.
واستمرت
المناقشات العائلية بيني وبين أسرتي حول هذا الأمر وكلها تطالبني بالانسحاب في
هدوء. ولأننا قد نشأنا على الاستقلالية وعدم إرغام أحد على ما لا يريد والاكتفاء
بتوجيه النصح والمشورة إليه فقد تركتني أسرتي في النهاية لأتخذ قراری بملء إرادتی
وكفت والدتي وشقيقتای بعد فترة عن مناقشتي في الأمر لكن شيئا آخر كان يجري تحت
السطح دون أن أدري فقد كنت أؤدي عملي بالمستشفى صباح كل يوم ثم أتوجه إلى
خطيبتي لأقضى معها فترة الغداء لمدة ثلاث ساعات ثم أتوجه بعد ذلك إلى عيادتي وأعود
متأخرا إلى بيت الأسرة فلاحظت أني رغم تأخر الوقت أعود غالبا فأجد شقيقتي مع إحدى
صديقاتهما يتسامرن ثم يحرصن على تناول العشاء معي.. وتطلب مني شقيقتای توصيل
صديقتهما إلى بيتها لأن الوقت قد تأخر بها فلا أتردد في أداء هذا الواجب رغم
إرهاقي. وفي البداية ظننتها مجرد مصادفة لكنها تكررت كثيرا ومع أكثر من صديقة من
صديقاتهما وبنفس الترتيب.. وفطنت في النهاية إلى أن أمي والشقيقتين يتعمدن إحاطتي
بفتيات جميلات صحيحات البدن في سن الزواج لكي أقارن بينهن وبين وضع خطيبتي وظروفها
الصحية المؤلمة.. وتأكدت من ذلك حين اضطرت شقيقتي الصغرى الأكثر قربا مني لمصارحتي
بذلك وتبريره لی بحرصهن على مصلحتي وخوفهن من أن أتخذ قرارا عاطفيا ربما اندم عليه
في المستقبل مع التسليم الكامل بأنه لا ذنب لخطيبتي في سوء حظها ومع التعاطف
الصادق أيضا معها.
ومن ناحية
أخرى فقد ظل السؤال الصامت، يتراءى أمامي في عيون خطيبتي دون أن أجيب عنه إجابة
صريحة.. وقد انفرد بی والد خطيبتي بعد أيام من الحادث وصارحني وهو متألم أنه لا
يلزمني بشيء لو أردت الانفصال عن ابنته وأنه سيعيد إلي شبكتي في أية لحظة ارغب في
ذلك وبلا لوم ولا عتاب من جانب أسرته بل سيلتمسون لی العذر إذا رأيت ذلك.
ولم اجبه
إجابة قاطعة وإنما قلت له إن هذا الأمر سابق لأوانه وأن كل ما يعنيني الآن هو أن
تسترد فتاتي صحتها النفسية والبدنية. ثم أقدمت بعد ذلك على خطوة هامة فقد نقلت
خطيبتي من المستشفى الذي تعالج فيه إلى المستشفى الذي أعمل به مبررا ذلك بتوفير
رعاية أفضل لها. ولكني في الحقيقة تعمدت ذلك لكي اقضي معها أكبر وقت ممكن واستطيع
أن أبتعد عن التأثيرات الأخرى. وقد أتاح لى وجودها معي بالمستشفى فرصة قضاء وقت
طويل معها كنت خلاله احتضن يدها بين يدي وأتأملها صامتا ونستسلم معا للصمت والسكون
والتفاهم الذي لا يحتاج إلى كلام.. وفي هذا الصمت الحانی استمعت بصفاء إلى صوت
قلبي وتأكدت من إنني أريدها بكل كياني وعقلي وقلبي، ولا أريد سواها .. صحيحة كانت
أم مريضة وانتهيت إلى قراري هذا بعد أن وازنت طويلا بين عقلي وقلبي واستشرت عدة
أطباء نفسيين في كيفية التعامل مع فتاتي بعد الحادث كما استشرت أيضا طبيبها
المعالج ووجدت في فتاتي في النهاية خير زوجة لى وخير حبيبة.
وأعلنت
أهلي بقراري هذا وبعد مناقشات صاخبة وانفعالية وصلت أحيانا إلى حد التهديد
بالقطيعة، أذعنوا لقراري على مضض.. وبعد استشارتي للطبيب المعالج.. انتظرت حتى جاء
والد فتاتي لزيارة ابنته وخلت الغرفة علينا نحن الثلاثة ثم فاجأته بطلب تحديد موعد
زفافنا ومهما حدثتك عن تأثير ذلك على فتاني فلن أستطيع أن أصف لك تلك اللحظة
المؤثرة ولا النظرة الدامعة بالحب والسعادة والابتهاج حين سمعتني اطلب ذلك من
أبيها. وتم الزفاف بعد ذلك بقليل في حفل بسيط بناء على رغبة حبيبتي. وحضر أهلي
جميعا حفل الزفاف بعد أن زالت أسباب الخلاف الطارئ، وظهرت عاطفة المحبة والمودة
الكامنة في النفوس، وكان من توفيق ربي أن حصلت على مسكن قريب من أسرة زوجتي حيث
تقوم والدتها وشقيقتها بمساعدتها في بعض الأعمال التي لا تقوى عليها، وإن كانت هي
تحاول بكل جهدها ألا تقصر في شيء وان تثبت لنفسها أولا أنها قادرة على أداء أي
عمل، وكما تألفت مع زوجتي فقد تألفت مع أسرتها ومع أبيها وهو رجل فاضل وناجح في
عمله ومع شقيقتها وهي طبيبة امتیاز تعمل معي بنفس المستشفى.
وقد أصبحت
زوجتي الآن يا سیدي حاملا في شهرها الثاني.. ولا تسلني عن تأثير ذلك على حالتها
النفسية والمعنوية ولا عن فرحتها الطاغية بدبيب الحياة الجديدة التي تنمو في
أحشائها. لقد أطلت عليك في رواية قصتي لكني أردت أن أطمئنك في النهاية واطمئن
قراءة الأفاضل إلى أن الله سبحانه وتعالى قد وفقني إلى إجابة السؤال التي سعدت بها
ولم أندم عليها ولكى أقول للجميع أن سعادة الإنسان لا تعتمد على حالته المادية أو
الصحية وإنما على ما يحس في قلبه من صفاء وسكينة ومودة لمن يحب ومن يبادله هذه
المشاعر النقية بإخلاص وشكرا لك ولقرائك والسلام.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
مهما تخيلت
فلن تعرف كم أسعدتني رسالتك هذه.
لقد
نصحتك بالفعل بأن تتريث في اتخاذ قرارك بشأن مستقبلك مع فتاتك لأنك كتبت إلي
رسالتك الأولى بعد ثلاثة أسابيع فقط من وقوع الحادث وظلال المأساة تخيم على
الموقف، وخجلك من أن تتخذ موقفا يتنافى مع احترامك لنفسك أو مع الشهامة واضح في
سطور رسالتك لهذا فقد نصحتك بان تختبر أولا صدق مشاعرك تجاه فتاتك وتتأكد من
أنها مشاعر حب حقيقية صادقة غير مختلطة بمشاعر الإشفاق والتعاطف والرغبة في الناي
بالنفس عما لا يليق بها. لأن هذه المشاعر رغم نبلها لا تكفي لزواج متين البنيان.
ورجوتك بعد أن تتأكد من عمق المشاعر وصدقها أن تمضي في إقناع ذويك بمباركة اختيارك
إذا استقر قرارك عليه.. وحسنا فعلت حين تريثت وقتا كافيا دون أن تجيب عن السؤال
الصامت حتى سمعت نداء القلب الصادق في صفاء السكون والبعد عن المؤثرات.. فجاءت
النتيجة في النهاية لصالح الصدق مع النفس وكسبت الحياة عشا صغيرا سعيدا .. وقلبين
متعاطفين امتحنت روابطهما الأقدار فصمدا للاختبار، وكسبت الحياة قيما سامية جديدة
هي قيم الوفاء والإخلاص والفهم الصحيح للسعادة الحقيقية.
لقد أجبت
عن "السؤال" أنبل إجابة وأشرفها وفهمت دوافع والدتك وشقيقتيك حين اختلفن
معك حول هذا القرار، الفهم الصحيح فعرفت أنه لم يكن سوى خلاف أحباء أرادوا بإخلاص
لك السعادة حسبما يتصورونها .. وسرعان مازال الخلاف كأنه سحابة صيف عابرة حين
تمسكت باختيارك لسعادتك كما تراها .. وسلم لك الأحباء بما تريد.
إن الحب في
أحد وجوهه هو أن نهتم بأمر من نحب ونطلب سعادته ومصلحته حتى ولو أخطانا التقدير
فيما نتصوره محققا لهذه السعادة . وما أجمل أن يجد الإنسان من يهتم بأمره إلى حد
الاختلاف معه حرصا عليه وطلبا لسعادته. وما أحرى ما حدث بينك وبين والدتك وشقيقتيك
أن يزيدك حبا لهن وإدراكا لعمق محبتهن لك.. وما أنبل أن تتجاوز زوجتك عن هذا
الموقف العابر من جانبهن تقديرا لدوافعهن الأسرية المخلصة وتسليما بأن موقفها هي
نفسها لم يكن ليتغير كثيرا عن موقف أسرتك لو كان شقيقها قد واجه نفس الاختيار الذي
واجهته أنت وذلك قبل أن تسلم له في النهاية بما سلمت لك به .
ولهذا فإني
أتصور أنها سوف تتجاوز عن هذا الموقف العابر الذي صنعته المشاعر العائلية الصادقة
ولن تسمح له بان ينقص من تقديرها لأسرتك المتحابة.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر