الهدية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا طبيب أستاذ في جراحة العظام قرأت رسالة "السؤال الصامت" للشاب الذي أصيبت خطيبته بشلل في ساقيها نتيجة لاصابتها بكسر في فقراتها القطنية إثر حادث صدمتها فيه سيارة طائشة .. وأود أن أروي لكاتب الرسالة قصة حقيقية عاصرتها عن قرب بحكم عملي كطبيب لعله يجد فيها ما ينير الطريق إلى الاختيار الصحيح.
أسجل في البداية ملاحظة هامة هي أن الشلل في طرفي فتاته قد يكون جزئيا من وجهة النظر الطبية وبعد ذلك أقول أنني استدعيت منذ عشر سنوات لفحص فتاة ترقد مصابة بأحد المستشفيات , فوجدت نفسي أمام فتاة في غاية الجمال يكسو وجهها الهدوء وترتسم عليه ابتسامة الرضا بقضاء الله وقدره رغم مأساتها المؤلمة .. وعرفت أنها كانت منذ أيام تحاول المرور بين أتوبيسين واقفين في الطريق فجاء أتوبيس وصدم أحدهما فانحشرت الفتاة بين الأتوبيسين الواقفين وأصيبت بكسر مضاعف بأعلى عظمة الفخذ وبقطع في الشريان الرئيسي للطرف السفلي وضاعف من معاناتها أصابتها بغرغرينا وفشل كلوي مما اضطرنا لاجراء عملية بتر عاجلة لساقها من مفصل الفخذ لإنقاذ حياتها .. وتعرضت الفتاة بعد ذلك لمضاعفات أخرى مألوفة في مثل حالتها وقاست الكثير والكثير فلم تفقد يوما ابتسامة الرضا بأقدارها والتسليم بمشيئته حتى أكرمها الله بالشفاء في النهاية.
وخلال ذلك فوجئت ذات يوم بخطيب هذه الفتاة يزورني في عيادتي ويشكو لي من ضغط أهله عليه لكي يترك خطيبته بعد أن أصابها ما أصابها ووعدته بأن أناقش أهله في رفضهم لإتمام الزواج .. واستقبلتهم في عيادتي وناقشتهم في مبرراتهم للرفض .. وبدون الدخول في تفاصيل النقاش فقد وجدت نفسي أجيب عن حجتهم قائلا :
إذا ضمنتم لي أن يعود "عريسكم" هذا إلى بيته اليوم سالما .. فلا تتموا الزواج واختاروا له فتاة أخرى صحيحة ! وانهيت النقاش بهذه العبارة .. فاهتز كبيرهم وبدا عليه التأثر بها ونهض قائلا أنه سيذهب إلى المسجد ويؤدي الصلاة ويستخير ربه فيما يفعل في هذا الأمر ثم يجمع أسرته ويتخذ قراره .. وغادر الجميع عيادتي .. وانشغلت بما يشغل الإنسان من أمور الحياة ولم أعرف ماذا انتهى إليه قرار الأهل والخطيب , لكني تتبعت حالة مريضتي من الناحية الطبية إلى أن أكرمتها الدولة بالسفر إلى الخارج وتركيب طرف صناعي لها , ومضت الشهور .. وكنت ذات يوم في عيادتي فإذا بهذه الفتاة تزورني وهي تمشي على قدمين أحداهما طرف صناعي وفوق ذراعها طفلة وليدة ومعها ذلك الخطيب الشاب الذي شكا لي قبل عام من ضغط أهله عليه , وفي يد الشاب لفافة قدمها لي مبتسما وراجيا قبولها كهدية بسيطة دهشت حين عرفت أنها فطير مشلتت.
ووسط سعادتي بهما ودهشتي سألت الزوج الشاب عن سر هذه الهدية غير المألوفة ففسره لي بأن العادة عندهم قد جرت على أن يهدوا لمن يستعيرون اسمه لأحد أبنائهم هدية من الفطير المشلتت وهما يقدمان لي هذه الفطائر لأنهما قد استعارا اسم ابنتي لطفلتهما الوليدة .. وابتهجت كثيرا بهذه الهدية المعبرة عن معان جميلة عديدة وسعدت برؤيتهما كثيرا وتأملتهما طويلا فلم أر فيهما إلا البساطة والسعادة و"جمال الله" الذي يحيط بهما .. ورأيت الشاب يداعب طفلته سعيدا ولا أثر للمحة ندم واحدة على وجهه على اختياره لشريكة حياته .
وقد علمت أن كليهما يعمل ويكافح في الحياة ويتعاونان معا عليها بمحبة صادقة ورضا كامل بحياتهما .. وقد رزقهما الله بعد ذلك بتوءم آخر لتستمر أنغام الرضا والسعادة تتردد في حياتهما.
وقد أردت أن أروي هذه القصة للشاب الذي يواجه الآن السؤال الصامت في عيني فتاته سيئة الحظ هل يتركها أم يتمسك بها رغم ما أصابها عسى أن تبدد بعض ظلام حيرته وتهديه للقرار الصحيح .. وفقه الله إلى ما فيه الخير والسعادة ووفق الجميع لهما , والسلام.
ولكــاتــب هــذه الــرســـالـــة أقـــول :
"كلما عظمت النفس الإنسانية .. ازداد الحب عمقا" .. هذه العبارة قالها الفنان العظيم ليوناردو دافنشي ولا أجد أفضل منها لأعلق به على رسالتك الجميلة هذه.
إن الحب بمعناه الواسع الذي يشمل حب الآخرين وحب الخير والحق والعدل والجمال وكل ما يدفع الحياة نحو مثلها الأعلى .. هو حقا سمة النفوس الكبيرة , والكره والحقد والأنانية .. وكل ما يؤخر الحياة ويخصم منها هو سمة النفوس الصغيرة التي تتعثر في صغائر الحياة وشرورها.
ولا شك أن هذا الشاب وهذه الفتاة الجميلة الباسمة الراضية بقضاء الله وقدره من أصحاب النفوس الكبيرة التي وهبها الله القدرة على التفريق بين ما يستحق أن يتمسك به الإنسان ويسعى من أجله .. وبين ما لا يستحق.
لقد استوقفتني في رسالتك عبارة فريدة وصفت بها جو الصفاء والمحبة الذي يظلل العروسين الشابين حين زاراك في عيادتك ومعهما فطائر انتصار الحب والوفاء .. على صغائر الدنيا التي لا أمان لها , فقلت أنك تأملتها طويلا فلم تر إلا البساطة والسعادة .. و"جمال الله الذي يحيط بهما".
يا إلهي .. من أين جئت بهذا التعبير الأخاذ الذي قد لا يبدعه قلم كاتب محترف وقد يبدعه صدق الحس والشعور والانفعال بالتجربة !
نعم إنه "جمال الله" الذي يحيط بذوي النفوس الخيرة الجميلة فتنطبع به وجوههم مهما كان حظها من جمال الشكل , والله جميل يحب الجمال وفي النفوس قبل الأشكال .. وفي كل شئ في الحياة وقد أحبهما الله لجمال المخبر قبل المظهر فوهبهما السعادة وراحة القلب والضمير وما مجيئهما إليك بهذه الهدية الصغيرة الجميلة إلا نوع آخر من جمال النفس .. اسمه العرفان !
إنني أضع رسالتك هذه أمام أنظار كاتب رسالة "السؤال الصامت" وأرجو أن يتصل بي لأبلغه بعرض كريم تلقيته من طبيب كبير للمخ والأعصاب يرى أن حالة فتاتة قابلة للعلاج بشرط الاسراع ببدئه قبل أن تتضارب حول حالتها الشخصيات ومحاولات العلاج .. وأيضا لكي أعرض عليه تعليقات أخرى تلقيتها من قراء أفاضل آخرين قد يفيده الاطلاع عليها. وآمل أن يتسع وقتك إذا رغب هذا الشاب في أن يسمع منك المزيد عن هذه القصة الحقيقية الجميلة بما يساعده على اتخاذ القرار الصحيح.
وشكرا لك على رسالتك القيمة المبهجة هذه وأرجو أن يظلل "جمال الله" حياة كل من نرجو لهم الخير والسعادة في الحياة إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر