حادث تصادم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

 

حادث تصادم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

حادث تصادم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

وطن الإنسان الأول هو أسرته وأهله وعشيرته ..ونحن كما قال بطل مسرحية " سوء تفاهم " لألبير كامي وهو يبحث عن أمه وأخته اللتين هجرهما في صباه " لا نستطيع أن نسعد في المنفى أو في النسيان ولا نستطيع أن نظل غرباء على الدوام "

عبد الوهاب مطاوع

يسعدني أن اكتب إليك للمرة الأولى بعد أن قرأت رسالة " سائق الأتوبيس " التي تحكي قصة زواجه من طالبة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومعارضة أبيها لهذا الزواج .. وتمنيت بعد أن قرأت الرسالة أن ألتقي بوالد هذه الفتاة وأن أحكي له حكايتي لعله يجد فيها ما يطمئن خواطره ويدفعه لأن يخفف من إصراره على طلاقها ولأن يتركها لاختبار الحياة كما نصحته أنت بكلامك الجميل مادامت قد تزوجت وقضي الأمر ولم يعد يُجدي الإصرار على الطلاق . 


فأنا سيدة شابة نشأت في أسرة ميسورة تقيم في أحد أحياء القاهرة الراقية وعند نجاحي في الثانوية العامة والتحاقي بكلية الطب اشترى لي أبي سيارة لكي أذهب إلى الكلية وأعود بها في أوقات متأخرة, ثم عدت ذات يوم متأخرة بعد انتهاء يوم الدارسة فوقع حادث تصادم بين سيارتي وسيارة شخص آخر وتعرضت سيارتي لأضرار كبيرة , وكان قائد السيارة الأخرى مخطئاً فعرض علي تسوية الأمر وديًّا وأن يدفع لي مبلغاً من المال كتعويض فرفضت قبول المبلغ وطلبت منه أن يتولى هو إصلاح السيارة وإعادتها إلى ما كانت عليه بمعرفته, ووافق على ذلك وذهبنا معاً إلى محل لسمكرة السيارات وتحدثت مع السمكري الشاب الذي يقوم بالعمل عن تكاليف الإصلاح والفترة التي يستغرقها , وتركت له مفاتيحها واسمي وعنوان الكلية ليبلغني بعد انتهاء إصلاح السيارة وأثناء جلوسي في الورشة التي تقع في حي شعبي عاملني الشاب بكرم وحياء وعرفت أن الورشة يملكها والده ...

 

 

وتركته وهو يطمئنني إلى أن السيارة ستعود أحسن مما كانت وسوف يرسلها بعد السمكرة للدهان وسيتم كل شيء على ما يرام , وعدت إلى بيتي فوجدتني أفكر في هذا الشاب وفي كرم أخلاقه ورجولته .

وبعد أسبوع جاءني السمكري الشاب في الكلية لتسليمي السيارة فاقترحت عليه أن نجلس في مكان عام لأشكره على مجهوده معي ...ولا اخفي عليك أن قلبي كان يخفق بشدة حين اقتربنا من المكان الذي سنجلس فيه , أما هو فكان في شدة الخجل والحياء .

 

وجلسنا وشكرته كثيراً وطالت الجلسة وأعطيته رقم تليفوني ومواعيد وجودي في الكلية , وبدأنا نلتقي يوم إجازته الأسبوعية من الورشة وربط الحب بين قلبينا وتعاهدنا على الزواج بعد انتهاء دراستي بكلية الطب .

 

وطلبت منه شيئاً واحداً هو أن تكون له ورشة سمكرة خاصة به ليكون له كيانه المستقل ووعدني بتحقيق ذلك خلال الفترة الباقية من دراستي , وعند نجاحي أهداني سلسلة وخاتماً من الذهب كانا بالنسبة لي أثمن من كل كنوز الأرض , وابلغني أنه قد اشترى نصيب أبيه وشقيقه في الورشة وأصبحت ملكاً خالصاً له , وجاء اليوم الذي سيتقدم فيه لأسرتي , فجاء إلى بيتنا ومعه والده وأمه وأخوته وأخته المتزوجة .. ورحب به أبي ثم بدأ يوجه إليه الأسئلة التقليدية فسأله عن شهادته والكلية التي تخرج فيها وعمله ألخ ..وكنت بالطبع أعرف كل شيء عنه وأعرف أنه لا يحمل أي شهادة لكنه تخرج بامتياز في كلية الحياة التي تعلم فيها كيف يعامل الناس ولم يكن أبي يعرف شيئاً من ذلك , وانتهت الجلسة وانصرف الضيوف وبعد مشاحنات ومشاكل كثيرة انتهى أبي إلى رفض هذا الزواج نهائياً , ولاقيت بالطبع الأمرّين في المعاملة من أسرتي لتمسكي بهذا الشاب حتى هددني أبي بمنعي من الذهاب إلى عملي بالمستشفى لكني لم أتنازل عن حبي وأملي .. وبعد محاولات طويلة ذهبت مع حبيبي إلى المأذون ومعنا اثنان من الشهود وعقدنا قراننا في مكتب المأذون , ولست بالطبع أشجع الفتيات على أن يفعلن مثل ذلك فلاشك أنه خطأ كبير لكني كنت يائسة من إقناع أبي بقبوله وقبلت الذهاب للمأذون على غير إرادة أبي وأنا في أشد حالات اليأس من أن يغير موقفه .

 

وعرف أبي بعقد القران فهددني بإرغامي على الاستقالة من عملي وبإبلاغ الشرطة ضد زوجي واتهامه بخطفي .. وتم استدعاء زوجي فأظهر قسيمة الزواج وانتهى كل شيء .

وكان زوجي قد أعد عش الزوجية في الجيزة فانتقلت إليه وقاطعتني أسرتي وبدأت أفكر في حياتي الجديدة مع زوجي الذي يختلف عني في كل شيء , لكن شخصيته القوية وأخلاقه ورجولته وحسن تفكيره عطت على كل الفروق .

 

وعشت معه أيامي السعيدة ووفر لي كل متطلبات الحياة الزوجية وعلمني أشياء كثيرة في الدين لم أكن أعلمها وأنا الطبيبة الجامعية , واصطحبني معه لأداء العمرة أكثر من مرة ..وأدينا فريضة الحج معاً وأصبح زوجي كل شيء في حياتي ومنحني أسرة صغيرة جميلة من بنتين وولد ووهبني الحنان والحب والاحترام واستمررت في عملي وكنت اترك أطفالي في بيت والدته لأن أسرتي استمرت على مقاطعتها لي , ثم بدأت الحياة تعود إلى مجاريها بيني وبين أسرتي بعد أن رأتني أعيش في سعادة واستقرار مع زوجي السمكري وأقولها بكل فخر بحياة إحدى قريباتي المتزوجة من زوج تتوافر فيه كل الشروط العائلية ومع ذلك فهي تعيسة معه لأن شخصيته ضعيفة ويهمل بيته وأسرته , وأهم شيء عنده هو جمع المال وليس لديه اعتبار لزوجته وأولاده ويتصرف وكأن البيت مجرد لوكاندة للنوم فقط .

 

هذه هي قصتي يا سيدي وأريد أن أقول : " تُنكح المرأة لأربع لمالها وجمالها وحسبها ودينها , فاظفر بذات الدين تربت يداك " كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ...وأرجو أن يتذكر هذا الأب الذي يصر على طلاق ابنته أيضاً الحديث الشريف الذي يقول ما معناه : " إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه , فإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " .

 



ولكاتبة هذه الرسالة أقول :


 لكل قاعدة استثناء دائماً يا سيدتي .. وإذا كنا نقول إن قوانين الحياة العادية أولى دائماً بالإتباع فلأننا لا نستطيع أن نقيس على الاستثناء ولا نستطيع أن نجعل منه قاعدة عامة تصلح لكل زمان ومكان .

والتكافؤ والتقارب بين الزوجين في المستوى الأسري والاجتماعي والثقافي شرط من أهم شروط النجاح في الزواج , ونحن نحرص قدر جهدنا على أن نتوخاه بدافع الأمل في تجنيب أعزائنا سوء الحظ ومرارة الفشل في الزواج وقد نتوخى كل الشروط التي يقضي بها العقل والدين ثم نُصدم بعد ذلك بفشل الزواج وانهياره , وقد يُخالف زواج كل هذه الشروط ثم يكتب الله له النجاح والاستقرار لكننا مع ذلك لا نستطيع إلا أن نتبع قوانين الحياة وأحكام العقل حتى وإن كانت لها استثناءات مخيبة للآمال .. ولا نستطيع من ناحية أخرى إزاء قصة كقصتك إلا أن نسعد بسعادة طرفيها وأن نتمنى لهما دوام السعادة والهناء...

والتوفيق في الحياة الخاصة – في النهاية يا سيدتي – هبة يهبها الخالق سبحانه وتعالى لمن يشاء ويحرمها من يشاء والسعادة أيضاً لغز شخصي لا يبوح بأسراره إلا للموعودين بها .

 

على أنك لو راجعت نفسك لعرفت أن سعادتك الخاصة بزوجك وأطفالك لم تخلص كاملة إلا بعد أن عادت المياه إلى مجاريها بينك وبين أسرتك ...وإلا بعد أن غفرت لك أسرتك خروجك عن طاعتها وزواجك في مكتب المأذون كمن لا أهل لها ولا عشيرة ..ولولا ذلك لظل هناك دائماً ما يُنغص عليك سعادتك ويذكرك دائماً بأنك تعيشين في " المنفى " وليس في "وطنك " الخاص .

 

ووطن الإنسان الأول هو أسرته وأهله وعشيرته ..ونحن كما قال بطل مسرحية " سوء تفاهم " لألبير كامي وهو يبحث عن أمه وأخته اللتين هجرهما في صباه " لا نستطيع أن نسعد في المنفى أو في النسيان ولا نستطيع أن نظل غرباء على الدوام " وقد عُدت من منفاك الاختياري حين عدت لأسرتك وعادت إليك , ولاشك أن شخصية زوجك المتدينة الرصينة التي تعلمت منها الحكمة وحسن معاملة الناس في " كلية الحياة " كما تقولين قد قربت المسافات بينك وبين أسرتك , فلقد حقق لك آمالك في الحياة الزوجية المستقرة وأحسن عشرتك , وأسرتك حين رفضته إنما رفضته خوفاً عليك من أن تشقي بحياتك معه بعد أن تهدأ العواطف المشبوبة وتمتحن الحياة صدق المشاعر وعمق الارتباط , ومادامت حياتك معه قد بددت مخاوفها وأثبتت لها عكس ظنونها ففيم يرغب الآباء والأمهات أكثر من أن تسعد فتياتهم بالزواج وتستقر بهم سفينة الحياة ؟

مع تمنياتي لك ولزوجك بصادق السعادة ودوام الهناء إن شاء الله .   

                             
نشرت بتاريخ 8 نوفمبر1991 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة

راجعها وأعدها للنشر
نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات