سائق الأتوبيس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991



سائق الأتوبيس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

 سائق الأتوبيس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

أفضل أن أنشر هذه الرسالة بغير تدخل مني في صياغتها أو محاولة لتصحيح أخطائها اللغوية إلا في أضيق الحدود وبما يساعد فقط على فهم بعض عباراتها .. ولقد اخترت ذلك لانه رأيته أكثر ملاءمة لفهم المشكلة التي تعرضها تقول كلمات الرسالة :


أنا يا سيدي شاب في السابعة والعشرين من العمر من أسرة  " ميسرة " والحمد لله ونلت "قصت" من التعليم " و"لاكن" ولظروف الحياة اشتغلت 

(سائق) وفي عملي نلت احترام جميع رؤسائي ومنحت (العامل المثالي) ومن أجل هذا تم ترشيحي "إلي " خدمة الطالبات والطلاب في جميع جامعات مصر ومنذ سنوات وأنا أعمل في الأوتوبيس الخاص بالجامعة و أحب الجميع والجميع يحبونني وكنا نتعامل كأخوة ونتناقش في جميع الأشياء ويشهد لي الجميع أني "مثقف" جدا، وفي يوم من أيام عام 89 أحببت فتاة من ركاب الأوتوبيس وكتمت حبي لها من خوفي من الرد فأنا سائق وهي طالبة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية إلي أنا جاء يوم تكلمنا فيه مع بعض وإذا بها تبادلني نفس الحب وفرحت جدا و امتلأت حياتنا بالأمل و كنا كالظل واحد لا يفرقنا عن بعض سوى النوم وعشنا أجمل قصة حب عرفها " التاريخ المعاصر " إلي أن جاء يوم أسودت فيه الدنيا أمامنا وانقلبت فيه رأسا على " جنب " كأنني دخلت دائرة محرمة فقد عرف والدها بالقصة وفي نفس اليوم ذهبت إلي بيتها وطلبت يدها فإذا بوالدها يوجهه لي الاهانات و التهديدات ونفذ في حبيبتي تهديده و منعها من " مرواح " الجامعة السنة الماضية وهو " دائم " يردد كلمته المشهورة أذاي اجوز بنتي لواحد شحات ، و تكرر طلبي ليد حبيبتي مرات ومرات و في كلمة مره الإهانة والطرد ، إلى أن كان يوم وطلبني لأن اذهب عنده و أخذت أخوتي معي و سأله أخي : هل يوافق علي طلبي ليد أبنته ؟ فأجابه بأن هذا لا يشرفه أبدا و لو كان أخر واحد في الدنيا فإذا بحبيبتي تقول له ولهم بأنه يشرفها أن تكون زوجة لي، فسألها أبوها متضايقا : هل تبيعيننا من أجله ؟ ، فأجابت : وأبيع عمري فبدأ الأب يتحدث في الموضوع و يضع شروطه طالبا مني أن ابتعد عنها حتى ينتهي هذا العام الدراسي ولا أراها حيث أني إذا رأيتها فلن يسمح لها بالخروج " ولاكن " كيف ذلك يا سيدي فطبعا كنا نتقابل سرا وتعاهدنا علي الزواج  أمام الله مهما واجهنا من صعوبات " وأرشدنا الله " إلى أن نعقد القران من ورائهم وكان أسعد يوم في عمرنا وبعد القران نلت حقوقي الشرعية منها لمدة سبعة شهور ثم عرفوا أننا نتقابل و "أرونا " أياما سوداء وتم حبسها في البيت بعد أداء امتحان آخر العام وكنت لا أراها إلا في الشباك ولا نتصل ببعضنا إلا في التليفون أحيانا ثم فوجئت بها أمامي في عملي تقول لي إنها لم تعد تطيق العيش مع أهلها و تطلب مني مفتاح الشقة لتقيم فيها فهدأتها ورفضت ذلك لأن والدها كان في الحج ولا يصح أن أخذها " هذا " في غيابه وأرجعتها إلى بيتها ففوجئت بأنني مطلوب في قسم الشرطة لأنني خطفتها، وذهبت ولم أتكلم لكني اضطررت لإطلاع المأمور علي قسيمة الزواج فذهلوا واتهموني بأنها مزيفة لكن المأمور قال لوالدتها إن كل شيء قانوني وأن من الأفضل أن تعطيني زوجتي و مع ذلك رفضت أن يحدث ذلك في غياب والدها في الحج و تركتها تعود إلى بيتها ثم عاد والدها فطلبني فذهبت إلى بيته ودخلت وسلمت على الجميع، وسألني عما أريد منه بالضبط، فأجبته باني لا أريد إلا أن يكونوا راضين عنا ، فقال لي انه لن يكون أبدا راضيا عن هذا الزواج و طالبني بالطلاق رغم علمه بما حدث فأكدت له إنني لن أطلقها أبدا إلا اذا طلبت هي مني الطلاق و سألها فأعلنت أمامهم أنها لا يمكن أن تطلب مني الطلاق لأنها تحبني و سألني والدها عما يضمن له أني لن أبهدلها ولن " أرميها " بعد أن أزهق منها فأبلغته أنني وقعت لها شيكا علي بياض ضمانا لكل حقوقها واني مستعد لأي ضمانات أخرى يطلبها فطلب مني أن أوقع علي قائمة بالأثاث ووجدت القائمة بمبلغ 40 ألف و مع ذلك وقعت عليها رغم رفض زوجتي لان افعل ففوجئت به أيضا يطلب مني إيصال أمانة بمبلغ 20 ألف جنيها قيمة المهر والشبكة فكتبت الإيصال بخط اليد ووقعته أمامه و انتظرت أن يرضى عنا بعد ذلك ، خصوصا وأنه قد " أمضى " زوجتي تنازلا عن ميراثها، وابلغني أني سآخذها بالملابس التي عليها فقط ورحبت بكل ذلك لكنه لم يرض أبدا  يا سيدي، و فوجئت به بعد أيام يطلب من زوجتي أن يعرضنا معا علي طبيب نفسي لأنه يعتقد أننا من المجانين ووافقت علي ذلك رغم احتجاج زوجتي و أقنعتها  بالذهاب معي و معه إلى الطبيب فقال له الطبيب إننا عاقلان وذكيان، ولم اغضب و الله وإنما صبرت و اتصلت به بعد أيام ففوجئت بكلام كالرصاص يخرج بالإهانات منه رغم علمه انه لن يفرقنا شيء سوا الموت .



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

   الزواج يا صديقي كالبناء المرتفع يحتاج إلى أساس متين وغائر في الأرض  لكي يصمد لدواعي الانهيار ولا شك أنكما تعجلتما الأمور ولم تطيلا الحفر في الأرض لإرساء هذا الأساس بإقدامكما علي عقد القران سرا في وجه معارضة ضاربة من أسرة فتاتك للزواج، و بإقدامكما على ممارسة الحياة الزوجية قبل أن تنجحا في إزالة الصعوبات التي تعترضكما ذلك إن فرض الزواج المرفوض بالخروج عن طاعة الأهل و بالإقدام عليه و تحويله إلى أمر واقع ليس الحل الأمثل لمثل هذه المشاكل خاصة حين تكون الزوجة فتاة قليلة التجربة صغيرة السن لم تكمل بعد دراستها التعليمية كفتاتك، و حين يكون الزوج أيضا شابا من أواسط العشرينات لم تكتمل خبرته بالحياة و نضجه مثلك .

 

   لذا فلقد كان الأحرى بك أن تستجيب لرغبة الأب في تأجيل الارتباط فتضع بذلك حبكم أمام اختبار الزمن فإذا صمد وازدادت فتاتك تمسكا بك بعد تخرجها ، فالمؤكد أن أباها لم يكن ليستطيع الاستمرار في معارضة الزواج و ما كان ليملك إلا التسليم به لأنه في النهاية أب لا يطلب إلا سعادة ابنته كما يتصورها أما إذا لم يصمد وذرته الرياح في طريقها وقد كان احتمالا قائما فلقد نجوتما معا من بداية خاطئة لحياة لا ترشحكما للسعادة و الاستقرار .. أما الإقدام على المغامرة والتعامل مع القصة بروح الاستشهاد العاطفي و تحمل الإيذاء النفسي و المعنوي فليس مما يساعدكما معا علي الحكم السليم علي عمق العاطفة وقوتها و احتمال صمودها للنهاية لأنكما بذلك تعيشا جوا خادعا يضفي على الحب قوة صناعية ليست أصيلة فيه هي قوة المقاومة ورد الفعل لرفضه لهذا فقد نشهد أحيانا بدايات ملحمية لبعض قصص الحب و الزواج المماثلة ثم تصطدم فيما بعد بتأثيرات عوامل التفاوت الثقافي والاجتماعي والمادي وبتفاعلات استمرار الروح العدائية الرافضة لها من جانب احدي الأسرتين فتؤتي نتائجها العكسية بعد عدة سنوات وتنتهي القصة الملتهبة بنهاية تعيسة مثقلة بالكراهية والمعاناة والأبناء و يكون الانفصال هو خاتمتها المناقضة تماما لبداياتها .

 

   ولقد كنت تستطيع أن تتجنب كل هذه الاحتمالات لو التزمت بوعدك لأبيها بتأخير الارتباط بفتاتك إلى ما بعد انتهائها من دراستها ، لكنك لم تفعل ولم تساعدك فتاتك أن تفعل بتعجلها الأمور وخروجها عن إرادة أبيها وأسرتها ولا شك أنها أخطئت بذلك خطا فادحا فأصبحت المشكلة الآن " في الأمر الواقع " الذي يرفض صهرك الاعتراف به و يصر علي تدميره .

 

  ورغم تفهمي لمحنته ودوافعه وإدانتي لتصرفكما أنت و فتاتك فاني لا أرى في إصراره على هدم هذا الزواج الآن عدلا وحكمه لسبب بسيط هو انه يتجاهل في كل ذلك إرادة ابنته ورغبتها في استمراره ، فلقد حدث ما حدث و ابنته ترفض الطلاق و تتمسك بمن تزوجته فما معني إصراره إذا على نطح الصخر وإرغامها علي فسخه حتى ولو كان يرى في ذلك مصلحتها البعيدة .

  إن طلاق المكره عي الطلاق لا يقع شرعا ولا شك في أن ضغطه القاسي عليها وحبسها عن استكمال تعليمها إكراها لها علي الطلاق لا يليق بأب عادل فليعترف إذا بما ليس منه بد حتى وإن لم يرض عنه إذ ليس من حق احد أن يرغمه على الرضا به أو الفخر به ، لكن العدل يطالبه بأن يسلم مع العقلاء بأن حياتنا لا تسير أحيانا وفقا لما نراه نحن صوابا وعدلا ، لان كثيرا من العوامل المؤثرة في أحداثها خارج دائرة سيطرتنا، وليقل ما قاله أب حكيم في موقف مماثل : من المؤسف حقا أننا قد نفقد سيطرتنا علي أبنائنا في الوقت الذي يكونون فيه في أشد الحاجة إلى إرشادنا ، فلا نملك إرغامهم علي ما نريد و لا نملك إلا التسليم لهم باستقلال إرادتهم والنصح لهم والدعاء .

 

   أو فلينظر للأمر من نظرة فلسفية و ليقل كما قال الفيلسوف الألماني نيتشه مهونا علي نفسه ألامها : إنني لم اخلق الدنيا ولا لوفون سالوم وهو أسم الفتاة التي أحبها ورفضته فأدي فشله معها إلى اتجاهه للتأمل في الأخلاق، ثم ليدع الأمر كله لاختبار الأيام الحاسم لتثبت أيهما كان ابعد نظرا ، فإن سعدت ابنته بزواجها لم يكن له إلا أن يسعد لسعادتها وإن شقيت به عرفت له صدق نواياه ولم يكن له إلا أن يلبي نداءها إذا دعته لنجدتها و لم يكن له أن يتقاعس عن ذلك لأنها في النهاية ابنته ولأن الدم أكثر كثافة من الماء كما يقول المثل الايطالي القديم ، وفي الحالتين فإن نصيحتي الملحة لكما هي أن تأجلا الإنجاب عدة سنوات بعد الزواج وأن تلتزما بذلك بلا أية محاولة للالتفاف حوله ليكون الاختبار أمينا وموضوعيا ولتكون نتيجته عادلة ومرضية لكل الأطراف إن شاء الله .

 

* نشرت بتاريخ 27 سبتمبر 1991

 

كتبها من مصدرها بأرشيف جريدة الأهرام

سالي ياسر

راجعها وأعدها للنشر

نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات