بذور السعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
السعادة ليست معادلة رياضية إذا صحت كل عناصرها فلابد أن تكون نتيجتها صحيحة أيضاً وإنما هي لغز شديد الخصوصية لا يعرف أحد كل أسراره لهذا فليس في مقدرونا ونحن نتلمس خطانا على طريق السعادة سوى أن نتوخى فقط الظروف الطبيعية التي تهيئ لنا بيئة أكثر خصوبة من غيرها لنمو بذور السعادة ثم نرفع أيدينا إلى السماء داعين ألا تموت البذور وأن تثمر ثمارها الطيبة في حياتنا .
عبد الوهاب مطاوع
قرأت رسالة " حادث تصادم " التي تروي فيها طبيبة شابة من أسرة طيبة كيف تعرفت بزوجها سمكري السيارات غير المتعلم حين وقعت لسيارتها حادثة .. وكيف أحبته وتزوجته رغم رفض أهلها ومقاطعتهم لها وسعدت بزواجها منه ومازالت سعيدة وتزداد سعادتها يوماً يعد يوم .وكيف نال احترام أهلها بعد أن لمسوا سعادتها بأسرتها الصغيرة وأبنائها وأسرة زوجها التي تحبها وتحترمها في حين شقيت أختها التي تزوجت من زوج يتكافأ معها في كل شيء , ورغم تأييدي لرأيك الذي علقت به على رسالتها من أن لكل قاعدة استثناء وان القاعدة هي ضرورة الحرص على التكافؤ بين الزوجين وأن الاستثناء وإن تكرر فإنه لا يصلح لأن يكون قاعدة إلا أني رغم كل ذلك أريد أن تنشر هذه الرسالة لكي تعرف كاتبة الرسالة أن حالتها هي الاستثناء فعلا وأن تجربتها لا تصلح للتعميم لكيلا تنخدع الفتيات بوهم الحب بلا أي تكافؤ في الدين والنسب والمال والحرفة بين الطرفين , فتكون النتيجة هي تعاستهن .
فأنا زوجة لأستاذ في الجامعة ومنذ سنوات جاءني ابني الذي تخرج في كلية الهندسة ليعلن لي رغبته في الزواج من فتاة لا تناسبه في أي شيء لا في الأسرة ولا الثقافة ولا التعليم ولا أي شيء , وأصر على الزواج منها رغم معارضتنا وتزوجها ووقعت القطيعة بيننا وبعد زواجه منها بعدة شهور بدأ ينفر من طريقتها في الكلام وتناول الطعام ومعاملتها له وللناس .. ويحس بالفرق بين طريقتها معه وطريقة شقيقاته مع أزواجهن .. ثم عاد فجأة وأبلغنا أنه طلقها وفرحنا بذلك وأعطاه أبوه مبلغاً من المال لكي يعوض به زوجته عن الطلاق .
وبعد عامين بدأت أفكر في تزويجه من فتاة ملائمة له ففوجئت برفض كل من تقدمنا لهن له لا لشيء سوى لمعرفتهن بحكاية الفتاة التي تزوجها .. إلى أن أحب زميلة له مهندسة فنصحته بألا يروي لها تفاصيل كثيرة عن زوجته السابقة , ورحبت الفتاة به وتقبلت بروح طيبة حكاية زواجه السابق وقدرت أن فشله سوء حظ يمكن أن يصادف أي إنسان , ومضينا في الإجراءات ففاجأتني قبل الزفاف بعشرة أيام فقط بالسؤال عن كل التفاصيل الخاصة بزوجة ابني السابقة ورويت لها كل شيء بلا كذب فإذا بها تعتذر عن عدم إتمام الزواج وتسوق لذلك حججاً كافية لأي أسرة لأن ترفض معاشرة ابني , وانهار ابني عند هذا الحد ودخلنا في دوامة العلاج النفسي والعصبي ومضت خمس سنوات على قصته ومازال يندب حظه ويندم على خروجه على أبويه بعد أن بلغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً ولم يتزوج بعد .
هذا عن ابني أما عن أخي الأكبر الذي يشغل أرقى المناصب وله شهرته الكبيرة في مجاله فقد فوجئنا به منذ سنوات قليلة وبعد أربع وعشرين سنة من زواجه من سيدة فاضلة من بنات الحسب والنسب ..وبعد أن أصبحت ابنته طبيبة .. بأنه يرغب في الزواج من فتاة في عمر ابنته لا تناسبه من كل الوجوه وبدعوى أنه يريد أن يجدد شبابه , فرفضت أمي وحاولت أن تعيده لصوابه بلا فائدة ورفضت زوجته قبول هذا الوضع وهجرت بيتها إلى بيت أبيها .
ورفض أبناؤه أن يعيشوا معه بعد زواجه من فتاته وقاطعناه كلنا ووقفنا إلى جانب زوجته في طلبها للطلاق منه إلى أن تم بالفعل , ثم تقدم لابنته طبيب فرفضت الابنة أن يطلبها خطيبها من أبيها وأصرت على أن يطلبها من عمها بل ورفضت أن يحضر الخطبة وشجعتها أمي على هذا وأثّر كل ذلك في النهاية على شقيقي فأصيب بنوبة قلبية ولازم الفراش لفترة طويلة فإذا بمن تزوجها لتجدد له شبابه تتذمر وتضيق وتتصل بنا لكي نذهب نحن لتمريضه لأنها ليست مستعدة لدفن شبابها مع رجل مريض إلا إذا دفع لها كل شهر مقابلاً مالياً سخياً وتكشفت لنا أشياء أخرى مؤلمة وحزنت أمي لمصير ابنها الذي قالت إنه ظلم نفسه وزوجته جرياً وراء خرافة تجديد الشباب !
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
كل منا يا سيدتي يطلب السعادة لنفسه ويتوسل إليها بالوسائل التي يتصور أنها سوف تحققها له , فليس منا من يقدم على الزواج وهو " يُضْمِر " بينه وبين نفسه أن يحيا حياة تعيسة شقية وأن يشقي معه من سوف يشاركها رحلة الحياة لكن السعادة ليست معادلة رياضية إذا صحت كل عناصرها فلابد أن تكون نتيجتها صحيحة أيضاً وإنما هي لغز شديد الخصوصية لا يعرف أحد كل أسراره لهذا فقد تتوافر كل الأسباب التي ترشح الإنسان للسعادة في الزواج ثم يشقى بزواجه ويفشل , وقد ينقصه بعض هذه الأسباب أو معظمها ومع ذلك فقد يسعد بحياته ويرضى عنها , لهذا فليس في مقدرونا ونحن نتلمس خطانا على طريق السعادة سوى أن نتوخى فقط الظروف الطبيعية التي تهيئ لنا بيئة أكثر خصوبة من غيرها لنمو بذور السعادة ثم نرفع أيدينا إلى السماء داعين ألا تموت البذور وأن تثمر ثمارها الطيبة في حياتنا.
ومن هذه الظروف الطبيعية بكل تأكيد التكافؤ أو التقارب بين الطرفين في المستويات الأسرية والاجتماعية والثقافية والمادية , ومنها كذلك بالتأكيد توافر الحب والتفاهم أو على أقل تقدير القبول النفسي للطرف الآخر والتطلع الدافق للسعادة .. والرغبة المتبادلة في إعانة السفينة على الملاحة في مياه هادئة , أما تحدي العقل وقوانين الحياة والخروج على المألوف بغير دوافع اضطرارية تفرض هذا التحدي وتجعله الاختيار الذي لا مفر منه فإنه يرشح للفشل أكثر مما يرشح للسعادة .. ونجاح بعض حالاته كما قلت مراراً لا نملك معه إلا الاحتفال بسعادة أبطاله .. مع التأكيد من جديد بأن تكرار الاستثناء لا يجعل منه قانوناً ولا قاعدة , وقد قلت لك مراراً ولست بحاجة لتكراره , لكن ذلك لا ينبغي أن يمنعنا من الاطلاع على تجارب الآخرين والاستفادة بدروسها والإنصات باحترام لوجهة نظر أصحابها واستكشاف أسرار معادلتهم الخاصة التي حققت معهم لغز السعادة رغم خروج التجربة على المألوف ...وهذا ما أفعله مع مثيلات تجربة " حادث تصادم " .
وفي الحياة يا سيدتي رغم كل ما قلت الكثير مما يتفق مع قوانين الحياة لم يكن مصيره إلا الفشل والتعاسة , وفيها القليل الذي يتعارض معها وكان نصيبه رغم ذلك النجاح والسعادة وفي كل الأحوال فليس علينا في سعينا المشروع إلى السعادة إلا أن نتوخى القواعد المألوفة ونتجنب بقدر الإمكان ما يتناقض مع قوانين الحياة الطبيعية .. وفي قصة ابنك فإني لا أعتقد أن مجرد زواجه من فتاة لم تكن تناسبه اجتماعياً وأسرياً وثقافياً هو وحده الذي وقف دون زواجه من أخرى ملائمة ..وإنما اعتقد أن هناك أسباباً أخرى أهم قد يكون منها أن كثيرات يا سيدتي يتخوفن ممن يقدم على الطلاق بعد شهور قليلة من زواجه وخاصة إذا كان قد تحدى الجميع بهذا الزواج ويتصورن أن من يطلق بهذا اليسر يسهل عليه الإقدام على الطلاق عند أول عثرة .. ويحكمن على مشاعره بعدم الثبات بدليل سرعة تخليه عمن حارب الدنيا ليتزوجها بعد شهور من زواجه منها .
إذن
فهو تخوف من افتقاد الأمان معه أكثر من أي شيء آخر كما أن سهولة تحديه لإرادة أهله
تثير مخاوف البعض من الارتباط بمن يتصورن – بناء على تجربته – أنه لا يقيم وزناً
كبيراً للأهل ويستسلم للعناد بسهولة والاندفاع بلا ترو , كما قد يكون منها أيضاً
سوء فهم بعض الفتيات لأزمته النفسية والعصبية عقب فشل مشروع زواجه , وتخوفهن من
تداعياتها , مع أن كل إنسان لا يكاد يخلو من عارض نفسي أو عصبي وإن لم يهتم بعلاجه
.. وفي كل ذلك فقد يكون بريئاً من كل هذه الظنون بعد أن تعلم درس التجربة , لكنها
تبعات تجربته ولا مفر من أن يدفع ثمنها .
وعلى
أية حال فإن حل مشكلته ليس بعسير فما أكثر من هن على استعداد لتفهم ظروفه والترحيب
به , بشرط أن يكون قد استفاد من أخطائه .. وأدرك حقيقة الانطباع الخاطئ الذي أعطاه
للآخرين عن نفسه باندفاعه في تحدي إرادة أبويه .. ثم في التسليم بصحة وجهة نظرهم
بعد شهور قليلة وطلق خلالها فتاة لا ذنب لها في سوء اختياره من البداية وربما لم
تسع إليه .. ولم يكن عدلاً أن ينتظر منها أن تتعامل مع الحياة بطريقة شقيقاته .
أما
شقيقك فلعل موقف أبناءه الذين يشجعون أمهم على الزواج من غيره هو أغرب ما قرأت في
رسائل أصحاب المشاكل في الفترة الأخيرة فالوضع الطبيعي هو أن يشجعوها على العودة
إليه مهما كان استيائهم من تصرفه وضيقهم به .
ولا تفسير لذلك عندي إلا أنه فيما أتصور لم يتخلص من زوجته الثانية التي حلم واهماً باستعادة شبابه على يديها ويريد أن يعيد زوجته الأولى إلى عصمته مع استمرار التجربة المحكوم عليها بالفشل طالت أم قصرت , وطريق النجاة بالنسبة له لابد أن يبدأ بإصلاح الأخطاء وإنهاء التجربة المخالفة لقانون الحياة مع تعويض شريكته فيها تعويضاً عادلاً ...وأن يبذل جهداً مخلصاً لاستعادة أبناءه ولاسترضاء زوجته الأولى , فيكون أبناؤه حينئذ عوناً له على ترميم البيت المنهار وإعادة بناءه وهذا ما يطالبهم بها لشرع والدين وهذا أيضاً حق أبيهم عليهم مهما كانت أخطاؤه .. ومهما بلغ استيائهم مما جرى , وإلا أثموا بمقاطعته واستعداء أمهم عليه وحرمانه من حق الولاية عليهم كما فعلت ابنته عند خطبتها ..وشكراً .
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر