أنت كما تفكر ! .. بقلم / عبد الوهاب مطاوع كتاب الرسم فوق النجوم


أنت كما تفكر ! .. بقلم / عبد الوهاب مطاوع


 وعلى كل إنسان إثم ما يفعل، فليكثر منه أو فليقلل كما شاء .. فلكل إنسان أن يضع نفسه حيث يراها جديرة به .. ولكل أفعاله ثمن واجب السداد إن لم يحن اليوم فسيحين غداً ..هذه هي خلاصة التجربة كلها .. لكن من يقرأ ومن يتعلم؟!

عبد الوهاب مطاوع

 

أجاهد صادقاً لكي أتخلص من هذه "النظارة" فأنجح في بعض الأحيان وأفشل في أحيان أخرى!

 

وأصل الحكاية أنه حين كنت صبياً صغيراً ظهرت "أعجوبة" جديدة تسامعنا بها وتشوقنا إلى رؤيتها .. هي السينما المجسمة ! وقيل وقتها إنها طريقة جديدة لتصوير الأفلام بأجهزة خاصة وبزوايا معينة تهيئ للمشاهد حين يراها مستعيناً بنظارة خاصة أن يرى البعد الثالث للأشياء .. وهو البروز عن الشاشة ، وانتظرت بشوق عرض أول فيلم من هذا النوع في مدينتي الصغيرة بالوجه البحري ، فطال الانتظار ولم تتحقق الأمنية .. ثم قرأت ذات يوم خبراً سعيداً في إعلانات "أين تذهب هذ المساء" يقول إن دار سينما الأهلي في دمنهور تعرض أول فيلم من هذا النوع ، فتلهفت على رؤيته وسافرت إلى هناك ، وغادرت محطة القطار إلى دار السينما مباشرة .. وقطعت تذكرة لدخول دار العرض .. ولاحظت أن موظف الشباك قد أعطاني مع التذكرة نظارة ورقية ، عدساتها من السلوفان الأحمر القاتم .. ونصحني بارتدائها خلال العرض ، لكي أرى مشاهد الفيلم مجسمة ، ودخلت إلى الدار وصدري يجيش بالإثارة والانفعال ، ووجدت كل المشاهدين في القاعة يضعون هذه النظارات الورقية فوق أعينهم ويتعجلون اللحظة التي تبدأ فيها أحداث الفيلم "المجسم" ، وبعد انتظار ثقيل أظلمت القاعة وبدأ العرض .. وتوالت أحداث الفيلم .. ولاحظت من وراء هذه النظارة بالفعل أن شخوص الفيلم يبدون وكأنهم بارزون عن الشاشة وليسوا مجرد صور مرئية متحركة .. وانخلع قلبي حين انطلق القطار بأقصى سرعته فخُيل إلى أنه قد انفلت من إطار الشاشة وسيدهم الحاضرين في القاعة .. وحدث نفس الشيء حين ركب بطل الفيلم سيارته وقادها بسرعة جنونية لينقذ فتاته من الموت ، وصادف في الطريق منحنى خطراً فانحرف بسيارته المنطلقة بأقصى سرعة لينجو من السقوط في الهاوية .. فإذا بالسيارة تقفز بالفعل – أو هكذا خُيل إلى – لتدهم الجالسين في أول بنوار على يسار الشاشة ! ولم يفارقني الفزع عليهم إلا حين نزعت النظارة من فوق عيني .. فرأيت السيارة مازالت داخل إطار الشاشة والجالسين في أول بنوار بخير والحمد لله .. فأعدت وضع النظارة وواصلت مشاهدة الفيلم مسحوراً ومندهشا ً!

 

واستسلمت لهذا السحر العجيب طوال فترة العرض .. وانتهى الفيلم على خير وأضيئت أنوار القاعة .. وخرج المشاهدون يتحدثون ويتعجبون ويتبادلون الرأي حول هذه الأعجوبة الجديدة.

 

لكنها لم تتكرر بعد ذلك كثيراً .. إذ يبدو أن الاختراع لم يحقق نجاحاً كبيراً يغري أصحابه بتعميمه في أفلام كثيرة .. أو ربما حلّت محله أنظمة الصوت الحديثة التي تخيل للمشاهد بالفعل أن ما يراه على الشاشة أقرب للحقيقة منه للخيال! وبالرغم من ذلك فلقد بقيت من ذكريات الصبا ذكرى هذا الرعب المجسم الذي شعرت به خلال مشاهدتي للفيلم .. وذكرى هذه النظارة الورقية القديمة.

 

وفي مواقف كثيرة من مواقف الحياة وجدت هذه النظارة ذات العدسات القرمزية القاتمة تقفز من غياهب الذكرى"لتجسم" لي بعض الأشخاص وتتيح لي رؤيتهم بطريقة مختلفة .

 

فإذا تعاملت مع إنسان عرفت عنه من قبل ميله للشر وإيذاء الآخرين ، وتجرؤه على حرماتهم واغتيابه الدائم لهم .. لم أره بمظهره الخارجي شخصاً باسماً أو وسيماً أو أنيقا ً، وإنما رأيته على الفور بهذه النظارة الخيالية شراً مجسماً قبيحاً ومنفراً .. وقد أفزع منه فزعي من القطار الذي خُيل إلىّ أنه سيدهم المتفرجين .

 

وإذا اقتربت من شخص أعرف عنه التزامه الأخلاقي وطبعه الدمث وخشيته لربه رأيته بنفس هذه النظارة إنساناً ملائكياً بديع القسمات والملامح ولو كان يبدو في أعين الآخرين دميماً قبيح الوجه والخلقة. ولا عجب في ذلك .. لأن النفوس الكريهة لا بد أن تنطبع على وجوه أصحابها بشكل أو بآخر، والنفوس الطيبة لا بد كذلك أن تنطبع على صفحة الوجه بالسماح والاطمئنان .

 

خذ مثلاً ذلك الشخص الكريه الذي يمضي في الحياة شاهراً سيف الأذى يبادر به الغير في كل مناسبة ولا يعفي أحداً من سهام حقده وكراهيته للآخرين حتى يخيل إليك أن قلبه لا يعرف الحب ولو لأبويه وأبنائه وزوجته ، ولا يذكر إنساناً بخير .. ولا يدع لأحد حرمةً دون أن يهتكها بلسانه .. ولا يجد فرصةً لإيذاء الغير دون أن يستغلها حتى لتحسب أنه لو حضرته الوفاة ذات يوم وزاره مسئول يملك النفع والضرر للغير وهو في فراش مرضه الأخير .. لهمس له وهو يغالب سكرات الموت بما يوغر صدر هذا المسئول على أحد من البشر أو يحرّضه عليه .. آملاً في أن يختم حياته "خير ختام" وأن يثبت إخلاصه لشيطان الشر حتى الرمق الأخير!

 

مثل هذا الشخص كيف أستطيع أن أراه بشراً كالبشر .. له خصائصهم وهيئتهم الآدمية حتى ولو كان يظهر بمظهرهم؟ 

إن النظارة القديمة "تجسّمه" لي على الفور إذا صادفته في أي مكان في هيئته الحقيقية، وهي هيئة تمزج بين ملامح الشياطين وأجسام الوحوش الخرافية الضخمة التي انقرضت قبل ملايين السنين، وقد ينتابني نفس الفزع الذي داهمني في مشهد السيارة المنحرفة في دار السينما القديمة .. إذا رأيته مصادفة عن بعد .. فكيف يكون الحال إذا اقترب مني؟

 

وخذ أيضاً ذلك الشخص الذي يجتر أحقاده على الجميع بلا استثناء .. ويخيل إلىَّ أنه يجري حسابه كل ليلة في فراش النوم ليراجع كم من البشر نجح في إيذائهم ذلك اليوم .. ويُعد "خطته" لأذى الغد داعياً شياطينه أن توفقه في النيل منهم والدس لهم واغتيالهم معنوياً .. كيف أستطيع أن أراه إلا في هيئة مماثلة لهيئة تلك الوحوش الخرافية؟

 

وغير هذا وذاك كثيرون قد تراهم حولك وقد تسمع عنهم .. وقد تجبرك الظروف على التعامل معهم فتشعر بحاجتك إلى مثل هذه النظارة القديمة لكي تراهم بها في هيئاتهم الحقيقية .. وتتجنب أذاهم .. وتفر منهم فرار السليم من الأجرب.

 

ولا غرابة في ذلك لأن كل إنسان كما يفكر .. وكما يفعل ويتصرف في حياته، فالتفكير في الخير يجعلك خيّراً، ويضفي عليك سلاماً نفسياً ومعنوياً يرشحك أن تكون من البشر الطيبين الذين عناهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بقوله: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" ويجمِّل صورتك البشرية في عيون الآخرين أو نظاراتهم، والتفكير في الشر يجعلك شريراً ويحكم عليك بالاضطراب النفسي والمعنوي ويفقدك الإحساس بالسعادة الحقيقية والأمان، ويجعل وجودك في الحياة "محنة" لمن هم حولك يشقون بها ويدعون ربهم مخلصين أن يرفعها عنهم.

 

وأن تكون إنساناً خيِّراً مسالماً يأمن الناس أذا ه، ويأمن هو شر نفسه ليس صعباً .. بل لعله أسهل الطرق والاختيارات لمن كان ذا بصر وبصيرة ، فالحياة واسعة وعريضة وتتسع للجميع ، ويمكن لكل إنسان أن يحقق فيها لنفسه ما يأمله دون أن يطأ في طريقه إليه جماجم الآخرين .

 

ولا يتطلب ذلك منك إلا شيئاً واحداً عبر عنه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بكلمة مفردة هي "الإحسان"، ولقد سئل عنه فقال ما معناه : "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

 

ولقد روي عن بعض العارفين أن خاله قد دربه وهو طفل عمره ثلاث سنوات على أن يقول لنفسه في فراشه كل ليلة دون كلام : الله معي .. الله ينظر إلىَّ .. فمضى يفعل ذلك كل ليلة حتى إذا بلغ السابعة من عمره قال له خاله: أمن كان الله معه وينظر إليه أيعصيه ؟ فأجابه بالنفي .. وبفضل هذا التوجيه البسيط أصبح الطفل واحداً من كبار العارفين بالله وهو سهل بن عبد الله التستري ، والمشكلة أنه بعد أكثر من ألف عام على هذا التوجيه .. نشعر أحياناً بأننا نحتاج لأن "نذكر" به بعض "البغال" البشرية الذين يمضون في الحياة وكأنهم وثنيون لا يخشون رباً .. ولا يعرفون إلهاً .. فننبهم من جديد إلى هذه الحقيقة الكونية ، وهي أن الله ينظر إليهم وسيحاسبهم على جناياتهم على الآخرين ذات يوم قريب أو بعيد ، وأن من مصلحتهم هم قبل غيرهم أن يخشوه بعض خشيتهم لرؤساء العلم الذين لا يملكون لهم الضر والنفع في الدنيا !

 

كما يحتاجوا أيضاً لأن نذكرهم بأننا لا نؤذي أحداً في الحقيقة إلا أنفسنا ، وعلى كل إنسان إثم ما يفعل ، فليكثر منه أو فليقلل كما شاء .. فلكل إنسان أن يضع نفسه حيث يراها جديرة به .. ولكل أفعاله ثمن واجب السداد إن لم يحن اليوم فسيحين غداً ..

 

وهذه هي خلاصة التجربة كلها .. لكن من يقرأ ومن يتعلم؟!

 

بل ومن الذي يستطيع أن يقول مع محتشمي زايد بطل رواية "يوم مصرع الزعيم" لأمير الرواية العربية : نجيب محفوظ وهو يراجع حياته ويأمل في رحمة ربه: حسبي أنني لم أقدم الأذى لأي إنسان ؟

 

وترى بماذا سوف يناجي أمثال هؤلاء أنفسهم وهم يراجعون حياتهم في أخريات العمر ويتهيئون للرحلة الأبدي ة؟ هل سيقول أحدهم : حسبي أنني لم أقدم الأذى سوى لبضع مئات من البشر؟!

 

أم تراهم سوف يظلون مخلصين للشر والجحود وهتك الأعراض والحرمات والكرامات حتى الرمق الأخير .. حتى يعجزوا عن كل ذلك بحكم الضعف وانعدام القدرة على الشر في نهاية العمر .. فيكونون كمن ينطبق عليهم قول القائل :

 

لم يتركوا الذنوب حتى هجرتهم الذنوب

 

أي حتى عجزوا عن ارتكابها بسبب الضعف وضياع النفوذ وانعدام الحيلة .. تماماً كما يكف شارب الخمر عن احتسائها لأنه لم يعد يجد ثمنها .. أو لأن الطبيب أنذره بالهلاك إذا استمر في شربها .. وليس صدوعاً لأمر ربه أو اتقاءً لمعصيته .. أو كمن يكف عن السرقة لضعف البصر وليس لأن السرقة حرام!

 

وترى كيف ستكون "هيئاتهم" حينئذ من خلال تلك النظارة الورقية القديمة إذا نظر إليهم أحد بها فرأى سجلهم المخزي من الإذلال والحقد والجحود والتطاول على حرمات الآخرين ، وانتهاك القيم الأخلاقية والدينية "مجسماً" فوق صفحة وجوههم ؟ وألا تشعر أنت بحاجتك إلى مثل هذه النظارة لترى بها حقيقة بعض من يتحركون في الدائرة المحيطة بك



نقلها من مصدرها بكتاب "الرسم فوق النجوم" وراجعها واعدها للنشر

نيفين علي

 

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات