الشرائط الملونة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994


الشرائط الملونة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

الشرائط الملونة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

إن تجارب الحياة تعلمنا كل يوم انه فيما عدا الاستثناءات الخارجة على مألوف الحياة على قدر العطاء يكون الولاء وعلى قدر التخلي والأنانية تكون المرارة والحسرة وجمود المشاعر.
عبد الوهاب مطاوع

قرأت رسالة تحت المائدة، وتأثرت كثيرا بقصة هذا الشاب المكافح الذي تخلى عنه أبوه في طفولته وتجرع ألوانا من العناء والهوان في بيت جده لأبيه وجدته وعماته وهم أهله، وصنع نجاحه بكفاحه الشاق ثم جاء أبوه في نهاية المشوار ليطلب مساعدته كأنما لم يتخل عنه ولم ينكره وهو في اشد الحاجة إليه وأريد أن أروى لأصحاب القلوب المتحجرة التي لم تأخذها الشفقة بهذا الشاب في طفولته البائسة ممن بقي منهم على قيد الحياة قصتي أنا مع سيدة من نوع آخر

 

فلظروف قاهرة انفصل أبي عن أمي ونحن في طفولتنا وكنا ثلاثة من الأبناء أكبرنا وهو أخي في الحادية عشرة من عمره ثم أختي وعمرها 6 سنوات وأنا وكنت طفلة عمری عامان ونصف عام فقط وقد ضمتنا أمي لها بالطبع ثم تزوج أبي بعد فترة قصيرة فأرسلتنا لنعيش معه وتتزوج هي أيضا من إنسان آخر وانتقلنا إلى بيت أبي لنعيش في كفالة سيدة لا نعرفها ولم تلدنا ولا ندري كيف سيكون مصيرنا معها، رغم بعد الذكرى وصغر سني وقتها فإن ذکریاتی عن طفولتي البعيدة لا تحمل لها الا صورا غائمة لسيدة باسمة.. تغسل أجسامنا في الحمام بهمة ونشاط وتصفف لنا شعرنا بصبر وتحيك لنا ملابس صغيرة جميلة وننام أحيانا إلى جوارها في فراشها وخاصة أنا، كما نحمل لها صورة أخرى

وهی ساهرة بجوارنا حين أصبنا جميعا بمرض الحصبة تعطينا الدواء وتطعمنا بيديها. ثم بلغت سن دخول المدرسة فاشترت ملابسها الجميلة والحذاء والجوارب والحقيبة وشرائط الشعر الملونة واصطحبتني إليها في اليوم الأول للدراسة وفعلت ذلك نفسه مع شقيقتي وشقيقي، وفي كل امتحان كانت تصطحبنا إلى مقر اللجنة وتنتظرنا في الخارج لتقدم لنا المرطبات في فترة الاستراحة، ولأسباب لا تعيها ذاكرتي الآن تعثرت شقيقتي الكبرى لعامين متتالين في إحدى سنوات الدراسة وكاد أبي يمنعها من استكمال تعليمها يأسا من نجاحها.. لكن أمنا الطيبة لم تستسلم لهذا اليأس وذهبت بغیر مشورة أبي إلى المدرسة ودفعت لها رسوم الالتحاق بفصول الخدمات وأصرت على أن تتعلم فتخطت هذه العثرة وواصلت تعليمها، وعندما كانت تظهر نتائجنا وتنجح كانت تستقبل الخبر بالزغاريد وتوزع الشربات على الجيران .
وهكذا ظلت تفعل حتى وقفنا جميعا على أقدامنا وحصلنا على مؤهلاتنا واختار شقيقي طريق العمل الحر، ثم بلغنا أنا وشقيقتي سن الشباب وبدأ الخطاب يطرقون أبواب بيتنا فكان لها الرأي الراجح فيهم.. وحين استقر الاختيار جهزتنا أحسن جهاز ممكن ووقفت يوم زفافي تستقبل المدعوين بسعادة وتعد لهم الطعام بيديها وتنظر إلي وأنا إلى جوار عريسي في الكوشة والدموع في عينيها ثم حان موعد انصرافنا إلى عش الزوجية ونهض زوجي واقفا فنهضت معه لكني لم أتجه معه إلى الباب ولكن اتجهت إلى هذه السيدة العظيمة التي وقفت تبكي لمغادرتي بيت أبي وانحنيت على يدها اقبلها واحتضنتني هي باكية وداعية لي بالسعادة والتوفيق مع زوجي، وكذلك فعلت مع شقيقتي الكبرى ومع شقيقي اللذين تزوجا قبلي، ولم ينته دورها معنا بزواجنا وخروجنا من بيتها بل كانت تزورنا في المواسم والأعياد حاملة لنا الهدايا لتشرفنا بها أمام أزواجنا. وكنا نذهب إلى بيتها لنلد أطفالنا في بيتها وعلى فراشها فترعانا في فترة الولادة ومازال بيتها هو حصننا وأماننا ونزهتنا التي نقضي فيها أجازاتنا مع أطفالنا وأزواجنا.

 

 وأرجو ألا يقول لك احد إنها ربما فعلت ذلك معنا لأنها كانت محرومة من الأطفال. لقد رزقها الله من أبي بثلاثة أبناء أكبرهم الآن في مرحلة التعليم الجامعي وأصغرهم في المرحلة الإعدادية.. وهم إخوتنا وسندنا في الحياة ولا يختلفون عنها في طباعها وأخلاقها.. ولقد أردت أن اكتب لك عن هذه السيدة العظيمة لأنها مثالا أمام زوجات الأب الظالمات لکی يرعين الله في أبناء أزواجهن ويعرفن أن العمل الطيب ثمرته الحب والوفاء .. فنحن نحب هذه السيدة ولا نقدم على شئ هام في حياتنا إلا بمشورتها ونحب أبنائها لأنهم أبناؤها قبل أن يكونوا أبناء أبي وإخوتنا ونحب أبي لأنه كافح بشرف للإنفاق علينا وإسعادنا ولأنه أيضا قد أحسن اختيار من وضعنا بين أيديها ونحن أطفال صغار والسلام عليكم ورحمة الله.

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

لا عجب يا سيدتي في كل ما تقولين فالرحمة في القلوب وليست في صلة الدم وحدها .. وأصحاب القلوب النبيلة يستشعرون دائما مسئوليتهم الأخلاقية والدينية عمن يتحملون الأمانة عنهم فينهضون لأدائها بما جبلوا عليه من رحمة وعطف مؤمنين بأنهم إنما سيسألون عنها أمام خالقهم قبل أي إنسان آخر.

إنها الفطرة الطيبة والوجدان السليم والإحساس الديني التلقائي بالواجب الإنساني الذي قد يعجز بعض أصحابه أحيانا عن تفسيره، لكنه يؤدي دوره في حياتهم فيخفف من عناء الحياة على الآخرين ويرقق من قسوتها.

. إننا ندفع دائما ثمن أفعالنا في الحياة ولهذا فمن العدل أيضا أن ننال جوائزها إذا استحققنا عنها الجوائز. وجائزة من يتعاملون مع الحياة بهذه الفطرة الطيبة ويقدمون الحب والعطف والرعاية للضعفاء الذين وضعتهم الأقدار تحت رحمتهم هو أن تفيض قلوب هؤلاء حين يشبوا عن الطوق بكل هذا الحب الآسر والعرفان الغامر لهم.

فبذرة العطاء لا تثمر إلا هذه الثمرة الطيبة إذا صادفت أرضا صالحة خيرة .. ولقد لاحظت يا سيدتي أن رسالتك قد خلت من أية إشارة إلى أمك "الطبيعية"، منذ أن أرسلتكم لتعيشوا مع أبيكم عند زواجها، فأين کانت من حياتكم طوال هذه السنين .. ولماذا لم تشير رسالتك إليها بعد ذلك أبدا حتى عند وصفك لليلة زفافك ومغادرتك لبيت أبيك إلى عش الزوجية؟

لابد أن دورها معكم كان باهتا أو قاصرا لهذا فلم استشعر من رسالتك وجودا مؤثرا لها في حياتكم ولم أر بعين الخيال خلال سطور رسالتك سوى وجه زوجة أبيك الوديع العطوف

أليس هذا أيضا من عقاب السماء لمن يتخلون عن أبوتهم أو أمومتهم تجاه من يتحملون مسئولية المجيء بهم إلى الحياة؟ .

وهل يكون غريبا بعد ذلك أن نقول أن هناك أمهات حقيقيات، لم يلدن أبناءهن لكنهن ملكنهم بالحب الصادق والعدل معهم والرعاية الأمينة لهم.. وأمهات طبیعیات أنجبن ابناهن لكنهن خسرنهم بالتخلي والأنانية وضعف الإحساس بالمسئولية الأخلاقية عنهم، وكذلك الحال مع بعض الآباء؟

إن تجارب الحياة تعلمنا كل يوم انه فيما عدا الاستثناءات الخارجة على مألوف الحياة على قدر العطاء يكون الولاء وعلى قدر التخلي والأنانية تكون المرارة والحسرة وجمود المشاعر ورسالتك قد أكدت لنا هذا الدرس مرة أخرى من خلال هذه الصورة الإنسانية الجميلة فشكرا لك عليها.

رابط رسالة تحت المائدة 

نشرت في يناير 1994
نقلها من أرشيف جريدة الأهرم وراجعها / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات