قرأت
رسالة تحت المائدة، وتأثرت كثيرا بقصة هذا الشاب المكافح الذي تخلى عنه أبوه في
طفولته وتجرع ألوانا من العناء والهوان في بيت جده لأبيه وجدته وعماته وهم أهله،
وصنع نجاحه بكفاحه الشاق ثم جاء أبوه في نهاية المشوار ليطلب مساعدته كأنما لم
يتخل عنه ولم ينكره وهو في اشد الحاجة إليه وأريد أن أروى لأصحاب القلوب المتحجرة
التي لم تأخذها الشفقة بهذا الشاب في طفولته البائسة ممن بقي منهم على قيد الحياة
قصتي أنا مع سيدة من نوع آخر
فلظروف
قاهرة انفصل أبي عن أمي ونحن في طفولتنا وكنا ثلاثة من الأبناء أكبرنا وهو أخي في
الحادية عشرة من عمره ثم أختي وعمرها 6 سنوات وأنا وكنت طفلة عمری عامان ونصف عام
فقط وقد ضمتنا أمي لها بالطبع ثم تزوج أبي بعد فترة قصيرة فأرسلتنا لنعيش معه
وتتزوج هي أيضا من إنسان آخر وانتقلنا إلى بيت أبي لنعيش في كفالة سيدة لا نعرفها
ولم تلدنا ولا ندري كيف سيكون مصيرنا معها، رغم بعد الذكرى وصغر سني وقتها فإن
ذکریاتی عن طفولتي البعيدة لا تحمل لها الا صورا غائمة لسيدة باسمة.. تغسل أجسامنا
في الحمام بهمة ونشاط وتصفف لنا شعرنا بصبر وتحيك لنا ملابس صغيرة جميلة وننام
أحيانا إلى جوارها في فراشها وخاصة أنا، كما نحمل لها صورة أخرى
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لا عجب
يا سيدتي في كل ما تقولين فالرحمة في القلوب وليست في صلة الدم وحدها .. وأصحاب
القلوب النبيلة يستشعرون دائما مسئوليتهم الأخلاقية والدينية عمن يتحملون الأمانة
عنهم فينهضون لأدائها بما جبلوا عليه من رحمة وعطف مؤمنين بأنهم إنما سيسألون عنها
أمام خالقهم قبل أي إنسان آخر.
إنها
الفطرة الطيبة والوجدان السليم والإحساس الديني التلقائي بالواجب الإنساني الذي قد
يعجز بعض أصحابه أحيانا عن تفسيره، لكنه يؤدي دوره في حياتهم فيخفف من عناء الحياة
على الآخرين ويرقق من قسوتها.
. إننا
ندفع دائما ثمن أفعالنا في الحياة ولهذا فمن العدل أيضا أن ننال جوائزها إذا
استحققنا عنها الجوائز. وجائزة من يتعاملون مع الحياة بهذه الفطرة الطيبة ويقدمون
الحب والعطف والرعاية للضعفاء الذين وضعتهم الأقدار تحت رحمتهم هو أن تفيض قلوب
هؤلاء حين يشبوا عن الطوق بكل هذا الحب الآسر والعرفان الغامر لهم.
فبذرة
العطاء لا تثمر إلا هذه الثمرة الطيبة إذا صادفت أرضا صالحة خيرة .. ولقد لاحظت يا
سيدتي أن رسالتك قد خلت من أية إشارة إلى أمك "الطبيعية"، منذ أن
أرسلتكم لتعيشوا مع أبيكم عند زواجها، فأين کانت من حياتكم طوال هذه السنين ..
ولماذا لم تشير رسالتك إليها بعد ذلك أبدا حتى عند وصفك لليلة زفافك ومغادرتك لبيت
أبيك إلى عش الزوجية؟
لابد أن
دورها معكم كان باهتا أو قاصرا لهذا فلم استشعر من رسالتك وجودا مؤثرا لها في
حياتكم ولم أر بعين الخيال خلال سطور رسالتك سوى وجه زوجة أبيك الوديع العطوف
أليس هذا
أيضا من عقاب السماء لمن يتخلون عن أبوتهم أو أمومتهم تجاه من يتحملون مسئولية
المجيء بهم إلى الحياة؟ .
وهل يكون
غريبا بعد ذلك أن نقول أن هناك أمهات حقيقيات، لم يلدن أبناءهن لكنهن ملكنهم بالحب
الصادق والعدل معهم والرعاية الأمينة لهم.. وأمهات طبیعیات أنجبن ابناهن لكنهن خسرنهم بالتخلي
والأنانية وضعف الإحساس بالمسئولية
الأخلاقية عنهم، وكذلك الحال مع بعض الآباء؟
إن تجارب
الحياة تعلمنا كل يوم انه فيما عدا الاستثناءات الخارجة على مألوف الحياة على قدر
العطاء يكون الولاء وعلى قدر التخلي والأنانية تكون المرارة والحسرة وجمود المشاعر
ورسالتك قد أكدت لنا هذا الدرس مرة أخرى من خلال هذه الصورة الإنسانية الجميلة
فشكرا لك عليها.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر