العودة إلى الصداقة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

العودة إلى الصداقة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

العودة إلى الصداقة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

إننا كأشخاص لا قيمة لنا إلا عند من يحبوننا ويحرصون علينا ويتوسلون بالحيل للحفاظ علينا وإن من شقاء المرء أن يزهد في راغب فيه ..ويضيعه من بين يديه فيجيء يوم يتحسر فيه على من أضاعه ..ويتمنى عودته إليه بلا طائل ..أو يقول كما قال الشاعر العربي :
نقمت على عمرو فلمــا فقدتـــــه
وجربت أقواماً بكيت على عمرو
عبد الوهاب مطاوع


أنا مهندسة معمارية عمري 34 سنة ومتزوجة من زميل لي في نفس العمر والمهنة وكان زميل دراسة وزميلاً لي في العمل بعد التخرج لعدة سنوات وقد بدأت قصة زواجنا بداية غريبة بعض الشيء ، فقد كنت مرتبطة بشخص آخر أحببته ، وكان هو أيضاً مرتبطاً بفتاة أحبها منذ فترة طويلة  .. وكان كل منا صديقاً للآخر ويتمني له السعادة مع من يحب .. وكنت أستمع إليه وهو يحدثني عن قصة حبه التي باءت بالفشل وتزوجت فتاته من غيره ، وكثيراً ما فكر في طريقة لإنهاء زواجها لكي يتزوج منها حتى بعد إنجابها من زوجها .. لكنه بعد أن زاد عدد أطفالها صرف نظراً عن الأمر .. أما أنا فقد كنت مرتبطة بغيره وأروي له عنه ثم فشل ارتباطي أنا أيضاً فإذا بصديقي وزميلي في الدراسة والعمل يتقدم إلي طالباً الزواج مني .. وإذا به يقول لي إنه يحبني ويخاف علي وبيننا صداقة قديمة وقد جرب كل منا حباً فاشلاً في حياته .

وأصبحنا جديرين ببعضا البعض .. وترددت في قبول طلبه في البداية لأنه كان صديقاً وأخاً لي ولم أفكر فيه من قبل علي نحو آخر . لكن تكراره لطلبه حرك مشاعري تجاهه وقبلت بالزواج منه وسعد كل من حولنا بارتباطنا .. وبدأنا الكفاح لتحقيق مشروعنا للزواج وكانت المشكلة أنه لا يملك الكثير ولا يدخر من مرتبه شيئاً بسبب إسرافه .. وخلال فترة خطبتنا رحل عن الحياة زوج فتاة خطيبي السابقة ، وشعرت بالقلق من احتمال عودته إليها وسعيه للارتباط بها بعد أن خلا له الطريق.. وحسمت شكوكي ذات يوم بأن خيرته بيني وبينها ونحن ما زلنا في مرحلة الخطبة وقبل الزواج، لكنه سخر من مخاوفي وأكد حبه لي وانصرافه نهائياً عن القصة القديمة ، وبعد عام من الخطبة نجح بصعوبة في حجز شقة بالتقسيط ولأن تسلمها كان سيستغرق بعض الوقت ، فلقد خطرت لنا فجأة فكرة الزواج والإقامة مع أمي التي تعيش وحيدة بعد زواج الأبناء ونفذنا الفكرة علي الفور .. وبدأنا حياتنا الزوجية ولم تسبب لنا أمي أية مشكلة ، بل كانت نعم العون لي خاصة حين أنجبت طفلتي الوحيدة ، فلقد كانت ولادتي خطيرة .. وأشرفت علي الموت خلالها لولا رحمة ربي وأضطر الأطباء لإخراج طفلتي وعمرها 7 أشهر ونصف لإجراء جراحة عاجلة لي بعد انفجار الشريان الموصل بين الطحال والبنكرياس ، ونزفت كل ما في جسمي من دم وخرجت طفلتي ناقصة الوزن وتعاني الاختناق البسيط .. وانتقل إليها من الحضانة ميكروب كاد يسبب لها عاهة مستديمة في قدمها ويدها ، لولا ملاحظتي الدائمة لها وسرعة علاجها وصبرنا علي حقنها في الوريد 6 مرات كل يوم لمدة حوالي أربعة أشهر ، ثم ابتسمت لنا الحياة أخيراً ونجت طفلتنا وبدأنا نسدد الديون التي تراكمت علينا خلال الفترة السابقة .

ولم تواجهنا مشاكل كبيرة في علاقتنا كزوجين وإنما كانت كل مشاكلنا عادية ومفهومة بالنسبة لاختلاف طبيعة كل منا ، فزوجي كتوم ولا أعرف الكثير عن تصرفاته خارج البيت .. وأنا لا أخفي عنه من أمري أي شيء .. وأنا معتدلة في كل آرائي ومواقفي وهو متطرف في بعض آرائه والأمور عنده إما أن تكون بيضاء أو سوداء وهكذا .

ومضت الحياة بلا متاعب حقيقية .. ولم يجد أي جديد إلا حين وجدت زوجي يترك وظيفته ويتفرغ للعمل الخاص بالرغم من أنه مخاطرة كبيرة لأن العمل الخاص غير مضمون ونحن لا نملك آية مدخرات تصلح لمواجهة الظروف الطارئة.

ومع ذلك ، فلقد قبلت الأمر الواقع بعد فترة وتمنيت له النجاح والتوفيق ، وسافر هو إلي الغردقة لتنفيذ عملية صغيرة وتركنا في القاهرة أنا وطفلتي التي كانت قد بلغت من عمرها 3 سنوات ، وأصبح لا يرانا إلا علي فترات متقطعة ولمدة نصف يوم فقط حين يجيء إلي القاهرة لإنهاء بعض الأوراق والمعاملات ، وتحملت مسئولية ابنتي ومرضها المستمر إلي جانب عملي الذي أعود منه في الخامسة مساء، ومن العجيب أن حبي لزوجي وتعلقي به قد تضاعف خلال فترة ابتعاده عنا فأغدقت عليه من حبي وعواطفي بينما ظل هو مستقبلاً فقط " ولا يرسل " ويقول إن لكل شيء وقته .

وبعد عدة زيارات قصيرة منه ، اقتربت العملية التي ينفذها بالغردقة من الانتهاء وأصبحت أحلم بقرب عودته والاستقرار معنا وطلب مني البحث عن شقة أخري لنا بالقرب من مسكن أمي ثم فجأة اختلفت لغة الحوار بيني وبين زوجي وأصبح لا يطيق اتصالي به تليفونياً ولا ينظر إلي إذا رجع في زيارة ويقاطعني مقاطعة تامة خلال وجوده ، ثم عاد ذات مرة إلي عمله .. واتصل بي من هناك لينهي إلي قراراً خطيراً اتخذه ويريدني أن أوافقه عليه .. وهو أن ننفصل بالطلاق ونرجع كما كنا قبل الزواج صديقين وأخاً وأختاً يتعامل كل منا مع الآخر بود واحترام ومراعاة المشاعر .

وصعقت عند سماعي لهذا " القرار " وسألته عن أسبابه وهل هو مرتبط بغيري فأقسم لي أنه لا يعرف إمرأة سواي .. ولكنها كما قال رواسب خلافات قديمة بيننا طفت عليه من الداخل وأقنعته باستحالة الحياة بيننا ، ورجوته ألا يتسرع في اتخاذ أي قرار إلي أن يرجع إلي القاهرة .. وانتظرته علي أحر من الجمر ، وجاء ووجدني منهارة وجلست معه مرات عديدة أسأله عما دفعه للتفكير في هذا القرار فلا يزيد حديثه كل مرة علي أنني كما يقول سامحه الله آذيته كثيراً .. ولم يعد يريد الاستمرار فأبكي وأقول له : وأين الحب .. وأين الطفلة .. وأين .. فلا أجد منه جواباً شافياً .. وتكرر الحديث بيننا دون أن يغير رأيه . واصطحبته ذات يوم إلي أحد الشيوخ الطيبين لكي يقرأ عليه القرآن ويدعو له بالهداية ، فجلس إليه طويلاً وتلا عليه آيات من الذكر الحكيم .. وفي نهاية الجلسة طلب مني الرجل الصالح إقناع زوجي بزيارة الطبيب النفسي ، لأنه في حالة غير طبيعية  ويحتاج إلي المساعدة لكن زوجي رفض فكرة الذهاب إلي الطبيب نهائياً واستجاب لبكائي فأجل قرار الطلاق واكتفي بالانفصال عني والإقامة في بيت والدته . ومنذ ذلك الحين وهو يأتي إلينا من حين لآخر ليصطحبني أنا والطفلة في نزهة خارج البيت ويتصرف معي خلالها بود واحترام ويغدق علينا ويحرص علي راحتنا وإسعادنا ثم تنتهي النزهة فيعيدنا إلي البيت ويذهب هو إلي حال سبيله وتنقطع كل صلة له بنا إلي أن يعود مرة أخري ، مع استمراره في تحمل مسئولياته المادية عنا ، إنني أدعو الله أن يلهمني الصبر والقدرة علي الوقوف إلي جانب زوجي إن كان يعني أي مرض ، كما أدعوه أن يهديه سواء السبيل ويخلصه من وساوس الشيطان ، ولقد نذرت لله صوم يومين من كل أسبوع إلي أن يفرج عني هذا الكرب ، لكن فترة الانفصال طالت وزوجي لا يري فيه بأساً ما دام ينفق علينا ولن يتخلي عنا ، وهو متدين ويخشي الله ويقول إنه لا يعرف إمرأة أخري ، ولو أراد أن يتركني من أجل أخري ، فإنه يؤمن بأن الله سوف ينتقم منه ويعترف لي بأنني زوجة مخلصة ، لكنني حزينة وخائفة وأفتقد زوجي ووجوده إلي جانبي وأطلب منك الرأي والمشورة .. كما أتمني أن تلتقي بزوجي لتسمع منه وتحدثه بحديثك المقنع وأن تكتب له بأن هدم الحياة الزوجية ليس بالأمر الهين .. كما أنني أحبه جداً جداً ولن أكرهه مهما حاول إرغامي علي ذلك .. ووالله ما آذيته ذات يوم ولا حاولت إيذاءه وقد أعلنت اعتزازي عما فعلت وعما لم أفعل وأكدت استعدادي لأي نوع من الإصلاح مهما يكن حجمه من أجل سعادتنا وسعادة ابنتنا الغالية .. فماذا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك لاسترداد زوجي يا سيدي؟

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لم أفهم من رسالتك ما يقصده زوجك بأنك قد آذيته كثيراً وحاولت دائماً إيذاءه كما لم أفهم أيضاً أي خلافات هذه التي طغت رواسبها عليه حتى حالت دون تواصله معك ؟؟

ولماذا الغموض والإبهام في حديثه عن أسباب رغبته في الانفصال عنك ؟؟ ولماذا لا يصارحك بكل ما ينكره عليك .. وبنيته الحقيقية وأهدافه من هذا الانفصال؟؟

إن زوجك يا سيدتي يحتاج إلي أن يكون صريحاً مع نفسه لكي يستطيع بالتبعية أن يكون صريحاً معك .. ويحتاج لأن يواجه نفسه برغباته الحقيقية التي قد يتجاهلها أو يرفض الاعتراف بها خجلاً منها أو إحساساً بالذنب تجاهها، لكي يستطيع بالتالي أن يواجهك ويواجه الآخرين بها ومشكلة كثيرين منا أنهم قد يدركون رغائبهم الحقيقية، لكنهم يخجلون من الاعتراف بها. ويضطرهم ذلك إلي التعمية عليها والدوران حولها بدلاً من مواجهة النفس والغير بها ، وتقديري هو أن زوجك يخفي من أمره أكثر ما يظهره .. وأنه يمارس طبيعته كشخص كتوم حتى في هذا الموقف المصيري الذي يتطلب الصراحة والوضوح.

وإحدى أهم مشاكل الحياة الزوجية في مجتمعاتنا .. وأحد أسباب دهشتنا أمام بعض التحولات العنيفة غير المتوقعة فيها في بعض الأحيان .. هو أننا لا نواجه المشاكل في بداياتها ونفضل في كثير من الأحيان تأجيل حسمها أو حتى مناقشتها إلي أجل غير معلوم، فتبدو الحياة ظاهرياً هادئة وناجحة في حين أنها تمور في باطنها بالدوامات والأعاصير وتبدو المشكلات العارضة التي نواجهها وكأنها مجرد قطع من الثلج طافية فوق سطح البحر يسهل تفادي الاصطدام بها .. فإذا بنا نكتشف فجأة أن ما ظنناه قطعة شاردة يمكن إزاحتها جانباً ، ليست سوي رأس جبل تلبد من الجليد يكفي لإغراق السفينة وتحطيمها إلي أشلاء عند الاصطدام بها وكل ذلك يرجع إلي الخوف من المواجهة في البدايات المبكرة والتظاهر بالرضا عن الحياة علي خلاف الواقع مع أننا لو آثرنا مواجهة النفس والغير بما نشكو منه ونرفضه لأمكن حل كثير من المشاكل وإزالة آثارها من النفوس بغير أن تتحول رواسبها إلي قنبلة زمنية تنفجر حين يظن غيرنا أنها أكثر الأوقات أمناً وسلاماً.

فما الذي أنكره عليه زوجك وشكا منه خلال سنوات زواجكما ، وأيا كان ما أنكره عليك من قبل ألا يكفيه أن تعتذري عنه كما اعتذرت عما فعلت و عما لم تفعلي كما تقولين في رسالتك ؟؟


إن فترة الانفصال الحالية بغير طلاق قد تكون ملائمة لأن يراجع كل منكما سجله مع الآخر .. ويعترف لنفسه بأخطائه في حقه ، ويصلح من نفسه ويتهيأ لبدء صفحة جديدة مع شريك حياته خالية من مرارات الماضي وحماقاته.

وفي كل الأحوال ، فإن حرصك علي زوجك وسعيك لاسترداده وبكاءك بين يديه .. كاف تماما ً لأن يقدره لك زوجك .. ويتسامح مع ما يعتبره هو من أخطاء الماضي.

وليتذكر دائماً أننا كأشخاص لا قيمة لنا إلا عند من يحبوننا ويحرصون علينا ويتوسلون بالحيل للحفاظ علينا وإن من شقاء المرء أن يزهد في راغب فيه .. ويضيعه من بين يديه فيجيء يوم يتحسر فيه علي من أضاعه .. ويتمني عودته إليه بلا طائل .. أو كما قال الشاعر العربي :

 

نقمت علي عمرو فلما فقدته         وجربت أقواماً بكيت علي عمرو

 

ومن المؤسف حقاً أن ينتهي الحب والزواج مثل هذه النهاية لغير أسباب جادة وواضحة ومقنعة للآخرين .. والأكثر إيلاماً هو أن تدفع ثمن هذه الأسباب الغير مقنعة طفلة بريئة تحتاج إلي أبويها معاً. ولم يستشرها أحد في رغبتها للمجيء إلي الحياة قبل إنجابها .. ولم تختر هي أبويها ولم تكن شاهدة علي بداية زواجهما الغير مألوف ، فإذا كان زوجك يعاني اكتئابا عارضاً ، فإنه يستطيع تلمس سبل العلاج لدي الطبيب النفسي.

فإذا كان يخفي عن نفسه وعنك دوافعه الحقيقية للرغبة في الطلاق فمن واجبه أن يكون صريحاً مع النفس ومع الغير. أما "حلمه" بالعودة للصداقة القديمة بينكما بديلاً عن علاقة الزواج فما الذي يمنعه من العودة إليها مع استمرار الزواج وماذا يحول دون أن يصبح كل منكما شريك حياة للآخر وصديقاً وفياً وأخاً له.

ومن الذي قال إن علاقة الزواج  تتعارض في أعماقها مع علاقة الصداقة الحميمة التي تجعل كلا من الزوجين الصديق الأوفى للطرف الآخر؟


إنني علي استعداد لمقابلته والاستماع إلي وجهة نظره ومناقشته فيها.

وفي النهاية ، فإن من واجبك أن تستنفدي كل الوسائل لحماية طفلتك وأسرتك وبيتك من عواقب الانهيار، لكن هناك لحظة فارقة يصبح فيها الاستمرار في بذل هذا السعي دون أية استجابة من الطرف الآخر مذلة للنفس وهواناً لا يرضاهما الإنسان الكريم لنفسه مهما تكن دوافعه للسعي نبيلة ومشروعة ، وكل ما أتمني قوله لزوجك إذا جاء لزيارتي .. هو : حذار من اللحظة التي تشعر فيها زوجتك بالمهانة والمذلة .. وتري أنها قد بذلت كل ما في وسعها لحماية  بيتها بلا طائل .. وقد آن الأوان أن تتمالك نفسها وتأبي عليها الاستمرار في هذا الهوان.!!!

 

  نشرت في جريدة الأهرام سنة 2000 باب بريد الجمعة
شارك في اعدادها / محمد مصطفى محمد
راجعها واعدها للنشر / نيفين علي
                    
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات