المكان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
وبعد وفاة زوجي رحمه الله، بدأت
مشكلتي الحقيقية فقد أصبحت وحيدة تماما في شقة طويلة عريضة وبعيدة جدا عن مساكن
أولادي كما أن أهلي جميعا أو من تبقى منهم يقيمون بإحدى الدول خارج مصر .. وقد عرض
علي أبنائي الإقامة عند أحدهم وفي البيت الذي استريح فيه من بيوتهم لكني رفضت ذلك
وتمسكت ببيتي الذي عشت فيه عمري وحياتي وذكرياتي , فإذا ضقت بالوحدة وذهبت للإقامة
عند أحدهم لمدة يومين أو ثلاثة فإني لا أطيق البقاء أكثر من ذلك ثم أحن لبيتي لما
أجده فيه من راحة وهدوء فإذا جاءت إحدى ابنتي لتمضي معي يومين أو ثلاثة فإنها لا
تستطيع أن تبقى معي أكثر من ذلك وعذرها معها .. وحتى هذا فإنه لا يتم إلا في الصيف,
أما في الشتاء فإن مدارس الأولاد تحول دونه.
وهكذا وجدت نفسي أقضي معظم
أيامي أعاني من الوحدة والخوف والملل .. وأتوجس من أن يصيبني اضطراب الأعصاب
والاكتئاب النفسي .. لهذا فقد فكرت في أن أكتب إليك .. لعل هناك من هي مثل ظروفي
ووحدتي ولا تجد لها مأوى فتفضل أن تقاسمني حياتي كضيفة دائمة عندي وكشريكة وحدة
نتبادل معا الحديث والاهتمام وتناول قهوة الصباح .. وتخفف كل منا وحدة الأخرى ..
أو ربما تكون هناك فتاة يتيمة تدرس بالمدارس أو الجامعة فأتكفل بها من ناحية
الدراسة والمأوى والملبس .. فأنا لدي المسكن المناسب ومعاشي لا بأس به والحمد لله
لكنه ينقصني فقط من تؤنس وحدتي وترد علي "النفس" الذي أتنفسه في الشقة
الخالية الواسعة .. إنني لا أريد "شغالة" وإنما أريد سيدة فاضلة في مثل
سني أو فتاة يتيمة أحنو عليها وانشغل بها .. فهل أجد عندك بغيتي ؟.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـــكـــاتــبة هـــذه الرســالـة أقـــول :
تجدين هذه .. أو تلك في أقرب
وقت ممكن بإذن الله , ولسوف أتصل بك لأعرض عليك ما أتلقاه من عروض ملائمة بهذا
الخصوص إن شاء الله .
إن ارتباط الإنسان بالمكان الذي
عاش فيه معظم سنوات عمره وشهد كل وقائع حياته وذكرياتها ارتباط إنساني مفهوم , وهو
يكاد يشبه غريزة العودة للوطن عند بعض أنواع الطيور المهاجرة التي تعيدها من
هجرتها السنوية في رحلة طولها ألف ميل فوق البحار إلى نفس المكان الذي نشأت فيه
بلا بوصلة ولا خريطة وبغير أن تضل طريقها في هذه الرحلة البطولية , وبيت الإنسان
هو وطنه الصغير الذي لا يطمئن له جانب إلا فيه، حتى وإن عانى فيه الوحدة والخوف
والملل كما تعانين الآن يا سيدتي .. لهذا فإني أفهم تمسكك ببيتك الخالي بالرغم من
امكانية العيش في أي بيت من بيوت أبنائك .. كما أفهم أيضا احتياجك الإنساني إلى من
تشاركك حياتك ووحدتك وتسعدين معها برفقة هادئة تخفف من هجير الحياة على كل منكما ,
ولا بأس أبدا بما فكرت فيه , فلربما يكون الحل الملائم لك ولمن يختارها الله لك
لتقاسمك حياتك .. فانتظري اتصالي القريب وليكن الخير فيما اخترت من حل لمشكلتك ,
إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر