أكتب إليك بعد صراع مرير مع نفسي وأرجو أن تسمعني وأن تؤجل حكمك علي إلى النهاية .
أنا سيدة متوسطة العمر نشأت في أسرة فقيرة .. وقاسيت مرارة الحاجة وحين بلغت سن
الزواج لم أفكر في الزواج من شاب مثلي لأني كنت في حاجة إلى زوج جاهز يوفر لي
المسكن والملبس والمأكل ولا يكلفني شيئاً وقد وجدت هذا الزوج في شخص مطلق له أولاد
وعنده شقته ولديه إمكانات الحياة، بل ولا أكذبك إذا قلت لك أني فرحت به بالنسبة
لظروفي التي شرحتها لك وهكذا تزوجته.
واعتزمت أن أحافظ عليه وعلى حياتي الجديدة ..
وكان هو أيضاً سعيداً بي .. لكن شيئاً ما في داخلي كان يدفعني دفعاً لإساءة معاملة
أطفاله – رغم أنهم أبرياء- ولتعذيبهم.. تسألني لماذا أقول لك لا أعرف .. هل أساءوا
إليك أقول لك أنهم أطفال صغار حرموا من أمهم وفرحوا حين وجدوا أما ترعاهم لكن
النفس الأمارة بالسوء كانت تدفعني دفعاً لتعذيبهم .. ولم يخف الأمر طويلاً على
زوجي .. فلقد أحس- بقلب الأب- بعذاب أطفاله .. ولم يكن هناك ما يربطني به سوى حسن
العشرة فلم أنجب منه أطفالاً .. لذلك لم يجد صعوبة في التخلص مني وطلاقي، فعدت إلى
الوحدة وإلى معاناة ظروفي الاجتماعية بعد فترة قصيرة من الاستقرار معه.
وحاولت أن أجد مخرجاً من ظروفي فعملت في إحدى الشركات ومن خلال عملي التقيت بتاجر
كبير يتعامل مع الشركة له بنات وأبناء متزوجون كان أرمل توفيت زوجته .. ولفت نظري
إليه بحديثه الدائم .. عن زوجته الراحلة وأبنائه الذين يتحدث عنهم بحب شديد ..
ووجدت نفسي أميل إليه رغم كبر سنه وأتمنى أن أتزوجه .. وشاءت الأقدار أن تتحقق
أمنيتي بعد فترة قصيرة إذ فاتحني برغبته في الزواج مني وسعدت بطلبه جداً وسارعت
بالموافقة .. وبارك أبناؤه زواجي من أبيهم لكي يجد من ترعاه في وحدته .. ، وشهدوا
جميعاً مراسم الزواج وأحاطوا بأبيهم سعداء بسعادته وقال قائلهم أن الحياة لابد أن
تستمر وأن من حق أبينا أن يجد من يؤنس حياته بعد زواجنا جميعاً وانشغالنا بأسرنا ،
وزففت إليه في حفل عائلي صغير وخرج الأبناء وهم يودعون أباهم بالقبلات ويودعونني
بحرارة والبنات يقبلنني ويثنين على جمالي الهادئ وأناقتي ويقلن أنهن فخورات بي .
وأحسست أن هذه الأسرة يجمعها الحب الصادق بين أفرادها .. وحمدت الظروف التي جعلت
مني واحدة منهم ، وانتويت أن أستمتع بحياتي .. وأن أكسب حب زوجي وأولاده ، ومضت
الأسابيع والشهور سعيدة والجميع يعاملونني بحب واحترام.. وكنت قد تركت عملي وتفرغت
لأسرتي الجديدة ووجدت فيها كل ما أحتاج إليه ، لكني يا سيدي بدأت أغار شيئاً
فشيئاً من حب زوجي لأولاده وأحفاده .. وبدأ هذا الشيء يتحرك من جديد .. وبدأت أضيق
بحديث زوجي عن ذكرى زوجته الراحلة وباهتمامه بأمور أبنائه وبناته ، فإذا أردت أن
اشتري فستاناً قال لي زوجي اشتري لأولادي معك .. وإذا فكرت في شراء شيء جديد للبيت
قال لي اشترى معه لأولادي .. حتى وجدت نفسي فجأة أكره أولاده وبناته بلا سبب ..
وأريد أن أبعد هذا الزحام عن زوجي لكي أنفرد به وباهتمامه .. وبدأت أشكو لزوجي من
أبنائه .. وفي البداية لم يكن يسمع لي .. ثم بدأ يسمع ولا يعلق . . ثم بدأ يسمع
ويتعاطف معي ببعض الكلمات .. ثم بدأ يسمع ويعبر عن سخطه ببعض الكلمات القاسية ..
ثم بدأ يتغير تجاههم تدريجياً .. وأنا لا أدع له فرصة للتراجع ولم يمض سوى عامين
حتى كان يكره أبناءه وأحفاده وأنا "أتلذذ" "لذة" الانتصار
عليهم !
تسألني مرة أخرى لماذا وسأقول لك لا تسألني لأني لا أعرف سوى أني أردت أن أبعد كل
هذا الحشد عن زوجي وأن يخلو لي وحدي .. وأن طبيعتي غلبتني كأني نسيت كل ما جرى في
زواجي الأول ونسيت طلاقي وعودتي للعمل ومعاناتي للحرمان مرة أخرى.
وبعد أن انفردت بزوجي انقطع الأبناء والأحفاد عن زيارتنا ولم يعد يدخل بيتنا أحد..
وفي هذه الأيام بدأ زوجي بإيحاء وضغط مني يبيع أملاكه لكيلا تكون هناك أشياء واضحة
يمكن أن ينازعني فيها أحد ..
والحق أن أبناءه لم يهتموا بذلك بقدر ما حزنوا لمقاطعة أبيهم لهم وحرمانهم منه ..
وفي إحدى المناسبات انفجرت ابنته الكبرى فيَّ باكية ودعت الله أن يحرمني من
"نظري" كما حرمتها وأخوتها من أبيهم وبدلاً من أن أغضب أو أجزع وجدت
نفسي أضحك سعيدة بالانتصار عليهم ..
وتفرق الأبناء .. وبدأوا يهاجرون كل إلى بلد مختلف .. فهاجر بعضهم إلى البلاد
العربية وهاجر البعض الآخر إلى أوروبا، حتى البنات هاجرن وراء أزواجهن بعد أن سلمن
أمرهن لله في أبيهن .
وخلت الدنيا تماماً من حولنا .. وبدأت أستمتع بالهدوء مع زوجي .. لكنه لم يطل
كثيراً .. فلقد توفي زوجي بعدها بعام وفوجئت به وهو في لحظاته الأخيرة يهتف بأسماء
أبنائه وبناته وقد كنت ظننت أنه قد نسيهم ..فاندفعت أقول له أنا بنتك وزوجتك وأمك
وكل شيء لك في الدنيا ، لكنه لم يحفل بي وفارق الحياة ولسانه يهتف بأسماء أبنائه
وعيناه تبحثان عنهم في ضيق ويأس.
وانتقل زوجي إلى العالم الآخر .. وحزنت عليه لأني وجدت معه الحياة التي أردتها..
لكني تماسكت ودبرت كل أموري بحكمة وكانت كل ثروته تحت يدي أموالاً سائلة فانفردت
بها وحرمت كل أبنائه وتجاوزت الأزمة بسرعة .. وعشت حياتي مطمئنة للمستقبل فعندي
الشقة التي نقل زوجي عقدها باسمي وعندي أموال في البنك لكن الأبناء لم ينازعوني في
الشقة ولا في غيرها وعشت عامين هادئين .. أحيا حياة أرملة ثرية احتاطت للمستقبل
باحتياطات عديدة .. عندي سيدة ترعى شئون بيتي وأشغل وقتي بزيارة الصديقات اللاتي
تعرفت بهن في السنين الأخيرة أو أستقبل بعضهن في الصباح ونروح نتحدث في أمور
الدنيا..وأتفرج على التليفزيون ، وأفلام الفيديو كل يوم ، وبدأت أفكر في استئجار
شقة للمصيف أمضي بها الصيف في الإسكندرية .
وأسرفت في التفرج على أفلام الفيديو حتى بدأت أحس بزغللة بسيطة في عيني ونصحتني
صديقة بأن أعمل نظارة تحفظ نظري .. فذهبت إلى أكبر طبيب عيون لعمل النظارة ،
واخترت نظارة أنيقة زادت وجهي شياكة وأنا أرتديها.. واستعدت راحتي في التفرج على
الفيديو لكن النظارة الجديدة لم تلبث شهرين حتى بدأت تزغلل عيني من جديد فعدت إلى
طبيب العيون الذي استبدلها لي بأخرى جديدة ، واستعدت اطمئناني سريعاً .. لكن
النظارة لم تلبث أن ضايقتني فاستشرت صديقتي فنصحتني بالذهاب إلى طبيب آخر وذهبت
إليه ففحصني بدقة ثم نظر لي طويلاً وقال : يا مدام إن القرنية عندك تضمر منذ زمن
.. وقد تأخرت كثيراً في بدء العلاج!
فصرخت فيه : ماذا تعني ؟ فقال : كل شيء بأمر الله! فغامت الدنيا أمام عيني ..
وتركت العيادة وأنا لا أرى الطريق وفي طريق عودتي إلى البيت مر شريط حياتي أمام
عيني .. من الفقر والحرمان إلى الزواج الأول .. إلى الطلاق والحرمان.. إلى الزواج
الثاني إلى الراحة والاطمئنان والمال .. ثم فجأة قفزت إلى مخيلتي صورة ابنة زوجي
الكبرى وهي تدعو الله أن يحرمني من بصري كما حرمتها من أبيها وتسمرت في مكاني ..
وسألت نفسي بفزع هل يكون هذا هو النذير؟
لا .. لن يكون إن معي مالاً .. وهناك أطباء .. وسأصرف آخر قرش معي في علاجي.
وبدأت الرحلة المريرة ..وطفت على الأطباء ومراكز العلاج .. وبت ليالي تعسة أنتظر
نتائج الفحوص .. وكل يوم يمضي تظلم عيناي فيه قليلاً عن اليوم الذي سبقه .. وتوقفت
عن مشاهدة التليفزيون والفيديو وقراءة المجلات ..
وأمضيت أياماً قاسية معصوبة العينين .. ثم انسحب آخر ضوء من عينين منذ أسابيع
وتحولت الحياة إلى ظلام قاتم أيكون هذا هو العقاب الذي توعدتني به ابنة زوجي يا
سيدي ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
إن رسالتك هذه يا سيدتي من الرسائل القليلة التي لا أجد في نفسي أي
ميل للتعليق عليها لأن ما تقوله كلماتها لا يدع زيادة لمستزيد إذ ماذا يمكن أن
أقول أنا أكثر مما قلت أنت في هذا الاعتراف ؟ وأي كلمات يمكن أن تحذر من ظلم
الأبرياء وأنانية الإنسان ووساوس النفس الأمارة بالسوء " أردع" من هذه
الخاتمة المفزعة لرسالتك؟
إن كارثة البعض هي أنهم يتصورون أنهم لن يسعدوا أبداً إلا بهدم الآخرين ولن
يرتفعوا إلا فوق جثث الضحايا.. ولن يرتووا إلا بحرمان الظمأى من ماء الحياة مع أن
الكرة الأرضية تتسع للجميع ويستطيع كل إنسان لو أراد أن يحقق لنفسه السعادة بغير
إيذاء الآخرين وأن يجد الأمان بغير أن يشرد غيره وأن يعيش في سلام ويدع الآخرين
يعيشون حياتهم في هدوء .. لكن ذلك يبدو صعباً إلا على من يتقون الله فيجعل لهم
مخرجا.. ويغرس القناعة والطمأنينة في نفوسهم.
إنك تتساءلين أهو العقاب! نعم يا سيدتي هو العقاب بل هو العدل الإلهي الذي يغيب عن
أنظار البعض في قمة اندفاعهم لإشباع أهوائهم .. حين يتصورون أن الدنيا بين أيديهم
وأنه لا عقاب ولا حساب .. كما ضحكت أنت مثلاً بشماتة وابنة زوجك لا تملك إلا دعاء
العاجزين !
الآن انتهى وقت الضحك يا سيدتي .. وجاء وقت الحساب.. ووقت الضعف البشري ، والتماس
العفو ممن قسونا عليهم وظلمناهم .. والظلم شر القبائح كما كان يقول أبو العلاء
المعري .. وما أعجب الإنسان في جبروته .. وما أضأله في ضعفه ! لكني لن أطيل عليك
في ذلك لأنك قد عرفت الآن كل ذلك وبثمن غال تهون معه كل أموال الدنيا أعانك الله عليه
وشفاك منه فأما أبناء زوجك فإني أدعوهم للعودة إليك واستعادة حقوقهم التي طابت
نفسك لأن تؤديها لهم الآن ، وأما دعوتي لأن أكون شاهداً وشهيداً على ذلك فإني
ألبيها مرحباً بأن أسهم في مثل هذا العمل الخير لعله يكون طريقك إلى العفو ممن
يملك العفو والمغفرة أما عفو أبناء زوجك عنك فأمره مردود إليهم إن شاءوا فعلوا وهو
أكرم وأكثر قربى إلى الله وإن شاءوا أبوا حتى بعد استرداد حقوقهم ، فلا جناح عليك
في ذلك ولا جناح عليهم لأنك لا تطلبين "جائزتك" منهم وإنما تطلبينها ممن
يملك منح الجوائز .. وأكبرها شأناً أن يقبل توبتك ويغفر لك ويفرج كربتك ويغرس
الطمأنينة في قلبك .. سبحانه وسعت رحمته كل شيء .. وهو على كل شيء قدير.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر