خيوط الأمل .. رسالة من بريد الجمعة 1993

 

خيوط الأمل .. رسالة من بريد الجمعة 1993

خيوط الأمل .. رسالة من بريد الجمعة 1993

 

قرأت رسالة البكاء المكتوم للأم الحزينة لحال ابنها الشاب الذي أصيب فى حادث نتجت عنه إصابته بشلل نصفي , فتوقف عن مواصلة التعليم وكره الحياة واعتزل الأصدقاء , وأصبح يمضي كل أيامه مكتئبا صامتا حزينا يبكي بكاء مكتوما في الليل محاذرا أن يسمعه شقيقه الذي ينام معه في نفس الغرفة , وأريد أن أروي لهذا الشاب الذي اعتبره صديقا لي على البعد قصتي , وفي البداية أقول إنك ربما تتذكرني فأنا الشاب الذي شغلت قصته الرأي العام في مصر في مثل هذه الأيام من العام الماضي حين تعرضت لحادث تصادم مروع في سيارة كنت أستقلها عائدا من الإسكندرية مع صديقي ابن أحد الدبلوماسيين بسفارة دولة عربية بالقاهرة , ولست أريد أن أستعيد الآن تفاصيل الحادث المؤلم مرة أخرى وإنما يكفي أن أقول أني قد أفقت من الحادث فوجدت نفسي سجين الفراش نائما على ظهري لا أستطيع تحريك أى عضلة من عضلات جسمي باستثناء عيني التي لا تقع إلا على سقف حجرة المستشفى لأني لا أستطيع تحريك رقبتي يمينا أو يسارا .. وعرفت حكم الأطباء على حالتي وكان حكما قاسيا وهو أنني قد أصبت بشلل رباعي لا أمل في الشفاء منه أو في تحسينه بسبب قطع غير كامل في النخاع الشوكي , وهكذا تحولت حياتي في لحظة واحدة من حياة شاب مرح ومنطلق يدرس بالجامعة ويحلم بالمستقبل الواعد بكل خير وسعادة إلى حياة مريض لا يرجى شفاؤه سجين في فراشه لا يغادره ولا يستطيع مغادرته وتمتد إليه من حين لآخر يد إحدى شقيقاته بالطعام .. ويد الأخرى بالشراب , وتقلبه أيدي الممرضات على جانبه الأيمن ثم الأيسر بلا حول ولا قوة خوفا من إصابته بقرحة الفراش أما يد أمي فتمتد إلى وجهي تلقائيا لتمسح دموعي التي تنساب رغما عني حزنا على شبابي الضائع ومستقبلي الموعود ودراستي الجامعية التي توقفت .

ورغم حكم الأطباء القاسي على حالتي فإني لم أكف أبدا عن الأمل الغامض الذي يراودني دائما في أن تتحسن حالتي وأستعيد صحتي أو بعضها بطريقة سحرية لا أعرفها وقررت ألا أيأس من رحمة الله وأن أنتظر حكمه وقضاءه العادل في شأني , ومضت علي شهور طويلة طويلة عشتها مستلقيا على ظهري بلا حراك أتيح لي خلالها العلاج بالداخل والخارج .. وبعد العلاج الطويل انتهى بي الحال إلى أن أصبحت قادرا والحمد لله على الجلوس فوق مقعد متحرك بشرط ربط جسمي بالحبال بالمقعد حتى لا أنزلق من فوقه , كما تحسنت رقبتي إلى حد ما فأصبحت والحمد لله أستطيع أن أميل بها قليلا ناحية اليمين وأميل بها وبزاوية أقل ناحية اليسار , وحدث تحسن طفيف في ذراعي فأصبحت والحمد لله أستطيع رفعها قليلا وإن كنت مازلت عاجزا عن تحريك أصابعي , أما نصفي الأسفل فمازال كما هو لم يطرأ عليه أي تحسن , ومازلت أعتمد على الأخرين في الطعام والشراب والنظافة .. إلخ .

ورغم مأساتي الشخصية فإني لم أفقد أبدا أملي الكبير في أن تشهد حالي مزيدا من التحسن بمشيئة الله كما لم أفقد مرحي القديم ويؤكد لي ذلك كل من يعرفني .. صحيح أنني أصاب أحيانا بحالات حزن لا إرادي تنساب خلالها دموعي بغير إرادة مني لكني لا أستسلم لها طويلا وإنما أستعيد نفسي منها سريعا وأعود لأتشبث بخيوط الأمل حتى ولو كانت واهية في أن تشهد حالتي مزيدا من التحسن مع مر الأيام , ويكفيني لكي أستعيد أملي أن أتذكر إنني منذ عام واحد فقط كنت مستلقيا على ظهري بلا حراك بصفة دائمة في حين أني الآن أملي خطابي هذا إليك وأنا جالس على كرسي متحرك وليس بكثير على الله سبحانه وتعالى محيي العظام وهي رميم أن أصبح في العام القادم في حال أفضل من ذلك إن شاء الله .

وأريد أن أقول في النهاية لرفيقي في المحنة بطل قصة البكاء المكتوم ألا ييأس من رحمة الله وإني أرجوه أن يقبل صداقتي لكي نتعاون معا على تقوية إرادتنا وعزائمنا ونستطيع مواجهة محنتنا , فأنا الآن أحوج ما أكون إلى الأصدقاء وأظن أنه كذلك وأرجو أن يجد كل منا في الآخر ما يسد حاجته إلى الصداقة بشرط أن تكون صداقتنا الجديدة دافعة للأمل والإصرار والتحدي في نفوسنا على تخطي المحنة وقهر الألم , وليست باعثة على اليأس والقنوط .. فهل يقبل صداقتي ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولــكـــاتـــب هــذه الـــرســـالــة أقـــول:

 

ومن ذا الذي لا يرحب بصداقة شاب رضي النفس صبور على الشدائد عظيم النفس والروح مثلك .. إن خير الصداقة هو ما يسد حاجة الروح ويكمل نقص الصديق ويعين الطرفين على التواؤم مع الحياة والصمود لآلامها .

وأنتما بهذا المفهوم الإيجابي للصداقة خير صديقين يمكن أن يجتمعا على غاية نبيلة كغاية تحدي اليأس .. والتمسك بالأمل , وهما مع الروح العالية والطمع الدائم في رحمة الله قادران على صنع المعجزات , فأرجو أن تتصل بي كاتبة رسالة البكاء المكتوم مساء الإثنين القادم أو أن تكتب لي بعنوانها لأنظم معها اتصالك بهذا الصديق الجديد , ولأعرض عليها أيضا بعض ما تلقيته من رسائل وتعليقات حول رسالتها بشأن مشكلة ابنها .

أما أنت يا صديقي فتقبل إعجابي الذي بلا حدود بروحك العالية علو السحاب ودعائي لك بأن يتم الله عليك نعمته .. ويحقق لك كل آمالك في الشفاء والسعادة في الحياة . وأرجو أن تكون قد عدت لاستئناف دراستك الجامعية التي اعترضتها هذه المحنة الأليمة , وأن تواصل التقدم في الشفاء والنجاح في الدراسة بإطراد دائم بإذن الله .

وشكرا لك على رسالتك التي تذكر الناسين بالكثير والكثير مما لا يعرف الإنسان قدره وقيمة ما وهب له إلا إذا فقده , والتي تذكر البعض أيضا بما روي عن الحكيم سقراط من قوله إنه لو وضعت مصائب الناس كلها في كومة كبيرة وأتيح لكل إنسان أن يختار منها ما يشاء لأسترد كل إنسان مصيبته .. إشفاقا على نفسه من مصائب الآخرين ونكباتهم . وشكرا لك مرة أخرى على رسالتك المفيدة وروحك الطيبة والسلام.

رابط رسالة البكاء المكتوم

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبراير 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات