البكاء المكتوم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا سيدة في الثانية والأربعين من عمري تزوجت منذ 23سنة بالطريقة التقليدية من رجل فاضل وارتبطنا سويا بروابط المودة والاحترام وزاد من ارتباطنا أننا رزقنا بولدين أصبح أكبرهما الآن في الثانية والعشرين وأصغرهما في التاسعة عشرة .. وولدي الأخير هذا هو مشكلة حياتي الآن يا سيدي .. فقبل عيد ميلاده السادس عشر بأسبوع منذ 3 سنوات كان يقود السيارة فأصيب في حادث نتجت عنه اصابته بالشلل التام في ساقيه وفشلت كل محاولات علاجه فأصيب بحالة نفسية مؤلمة وظننت في البداية أنها حالة مؤقتة وسوف يتأقلم بعدها مع حياته الجديدة لكنها استمرت حتى الآن وازدادت سوءا، فلقد رفض بإصرار الخروج من البيت نهائيا منذ سنتين ولو لزيارة الطبيب وابتعد عن كل أصدقائه وأصبح يمضي ليله ونهاره جالسا صامتا ولا يأكل إلا بعد إلحاح شديد ولا يتكلم مع أي إنسان وإذا تحدث مضطرا ففي أضيق الحدود , كما رفض منذ البداية الذهاب إلى المدرسة لاستكمال تعليمه بعد الحادثة حتى لا يراه الآخرون قعيدا, ولست أدري هل أخطأنا حين لم نقس عليه ونجبره على مواصلة التعليم أم لا .. لكن كيف كان يمكن أن نقسو عليه في مثل ظروفه هذه؟
لقد استشرت طبيبا نفسيا في حالته فقال أنها فترة مؤقتة وسوف تنتهي ونصحني بأن نعامله معاملة طبيعية تماما , وقد حاولت ذللك فثار وغضب فقد أصبح شديد الحساسية .. فإذا عاملناه كإنسان طبيعي غضب وثار وإذا عاملناه كمريض غضب وثار أيضا , ومما يزيد من تعقيد المشكلة أن ابني الأكبر يعيش معه في نفس الغرفة وهو من هواة الرياضة وفاز بأكثر من ميدالية في المدرسة والنادي والجامعة وعنده كثير الأصدقاء .. لكن ابني الأصغر لا يتكلم معه نهائيا بل ولا يتكلم مع أى إنسان ويظل دائما صامتا حزينا وصمته وحزنه يقتلانني .. وأنا حائرة لا أعرف كيف اتصرف معه ولا استطيع أن أنام الليل وقلبي ينزف دما عندما يثور لأي سبب ويقضي الليل بطوله يبكي ويحاول أن يكتم بكاءه حتى لا يسمعه شقيقه ويبلغنا به.
لقد أشار علي زوجي بأن ننصحه باللجوء لأحد مراكز التأهيل المهني حتى يتأقلم مع ظروفه لكني واثقة أنه سيرفض وسيثور ثم يمضي الليل كله في بكاء مكتوم يمزق أوتار قلبي .. فماذا أفعل معه يا سيدي !
ولكـــاتـــبة هــذه الـــرســـالــة أقــــول:
أخطأتم بكل أسف يا سيدتي خطأ بالغا حين استجبتم لقنوطه ويأسه عقب الحادث ورفضتم إجباره على الذهاب للمدرسة أو استكمال تعليمه بأي طريقه أخرى كالدراسة في البيت والتقدم للامتحانات وأعتقد أن بداية طريق النجاة من سجن الروح الذي يعيش داخله هي أن يجعل لنفسه هدفا يسعى إليه .. وأهداف الحياة عديدة ومختلفة وليست كلها مرتبطة بالتعليم النظامي وحده إذ ما أكثر المجالات التي يستطيع أن يمارسها من فاته قطار التعليم النظامي بل إن هذا القطار نفسه لم يفته نهائيا بعد فهو يستطيع إذا أراد أن يستكمل دراسته من البيت , ويستطيع أيضا أن يدرس دراسات حرة في أى فرع من فروع المعرفة النظرية أو العملية كالكمبيوتر مثلا أو اللغات أو الأشغال الفنية الصغيرة .. ويستطيع أن يصنع الكثير، لأن الإنسان لا يمكن تحطيمه إلا إذا استسلم هو لليأس والقنوط والعجز المعنوي .. فعجز الروح يا سيدتي أخطر من عجز الجسد .. وهو يعين الظروف القاسية على الإنسان ولا يعين الإنسان عليها , والحياة تطالبنا دائما بأن نكيف أوضاعنا مع ظروفنا الجسدية والاجتماعية ومع الواقع الذي نعيشه .
ولابد لابنك المعذب هذا لكي يخرج من قوقعة عجز الروح هذه أن يسلم أولا بما حدث وبأنه لا ذنب لأحد فيه اللهم إلا مسئوليته هو شخصيا عن قيادة سيارة في سن السادسة عشرة , وبالتالي فلا مبرر لعقاب الآخرين بالانقطاع عنهم ولا عقاب النفس عما جرت به المقادير بالانكفاء على الذات واجترار الأحزان إلى ما لانهاية ولابد له من أن يؤمن بنفسه وبجدراته بالحياة وبأن لكل إنسان مهما كانت ظروفه قدرات خاصة يتميز بها عن كثيرين .
ويستطيع أن يستغلها ويستفيد منها ويفيد بها الحياة من حوله ولابد أيضا أن يؤمن بالحياة وبالناس لكي يستطيع أن يتواصل معهم ويتعاون معهم .. ويعينهم بقدراته ويقبل معاونتهم له.
فلقد كان الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري يقول عن نفسه أنه "مستطع بغيره" أي قادر أن يفعل المبصرون بمساعدة الآخرين له ولا عجب في ذلك لأن الحياة تتكامل بقدرات البشر المختلفة , ولاشك أن لدى ابنك قدرات يمكن أن يستفيد بها الآخرون كما يستفيد هو من قدراتهم .
ومشكلته الحقيقية هي أنه يفتقد الدافع لاخراج قدراته والكشف عنها .. ولو امتلك هذا الدافع لجرت دماء الحماس في عروقه وتكيف مع ظروفه وخرج إلى الحياة فوق كرسي متحرك كما يفعل كثيرون غيره يتواصلون مع الحياة ويضيفون إليها .. بل إن أعظم عالم فيزياء نظرية في القرن العشرين بعد ألبرت اينشتين , وهو العالم البريطاني ستيفن هوكينج مصاب بضمور العضلات الكامل وقد حقق أعظم انجازاته وهو يقبع فوق كرسي متحرك بجسم نحيل لا يتحكم في حركته ولا يزيد وزنه على 50 كيلو جراما ورأس لا يستطيع التحكم فيه أيضا فيتدلى على صدره .. وبصوت خافت لا يميز حروفه إلا قلة من البشر ومع ذلك فهو أعظم الأمثلة على اعجاز الذكاء البشري في العالم .. ولا يفعل شيئا سوى أن يفكر ويهمس بأفكاره المبتكره .. فيتلقفها العلماء ويخضعونها للتجربة العلمية .. وهو فوق كل زوج سعيد لسيدة صحيحة الجسم تحبه وترعاه وانجبت له عدة أطفال سعداء .
فلماذا لا يحاول هو أيضا أن يقهر عجزه كما قهر الآخرون عجزهم؟
إن الطريقة الصحيحة للتصرف معه هي ما نصحك به الطبيب النفسي فعلا وهي تجاهل حالته الخاصة والتعامل معه بطريقة طبيعية وبحب متزن وفهم عطوف لكل ظروفه ولكن بغير استجداء لحديثه أو كلماته لكي تتحرك دوافعه هو للحديث وطلب الإيناس ممن حوله .
كما أني أتفق مع رأي أبيه في ضرورة ذهابه إلى أحد مراكز التأهيل المهني لبضع ساعات كل يوم أو كل بضعة أيام لكي يعينه خبراؤه على التكيف مع ظروفه واكتساب خبرات جديدة تجعل منه إنسانا إيجابيا ومنتجا .. ومن ناحية أخرى فإن دور الأصدقاء جوهري أيضا في اخراجه من عزلته فإن كان قد هجرهم بسبب ما يعانيه من آلام فمن واجبهم ألا يتخلوا هم عنه وأن يتحملوا بعض جفائه في البداية إلى أن تهدأ نفسه ويستجيب للصداقة بالتدريج كما أنه من المهم أيضا أن يتخفى شقيقه قليلا ببطولاته وهواياته الرياضية عن شقيقه المعذب فلا يتحدث عنها كثيرا أمامه إلا إذا خاطبه هو فيها وأن يحرص على عدم انقطع الخيوط بينهما مهما تحمل من عناء .. فالحق أنه مشكلتكم جميعا ومشكلة نفسه قبل الآخرين ولابد أن تتعاونوا معا على مواجهتها .. بالحب .. والصبر والفهم .. ولكن بلا ضعف يعجزكم عند الضرورة عن اتخاذ ما يراه المختصون في صالحه وقد يأباه هو بتأثير حالته النفسية المريرة وظروفه المؤلمة .. اعانه الله عليها واعانكم معه.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر