تذكرة قطار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا سيدة أبلغ من العمر 30 سنة متزوجة من عامل في شركة حكومية ولي ثلاثة أولاد أكبرهم في المدرسة الابتدائية , وأنا يتيمة الأبوين منذ قرابة العشرين عاما .. ولي ثلاثة أخوة كلهم من البسطاء .. وحين مات أبي كان عمري 10 سنوات وكان أكبرنا عمره 25 عاما فخرج للعمل باليومية البسيطة يوما هنا ويوما هناك .. وتحمل وحده عبء مسئوليتنا وإطعامنا .. ورغم ظروفنا القاسية فلم يحرمني من التعليم وتركني بالمدرسة حتى حصلت على الشهادة الإعدادية ثم جاءني العريس .. وأنت تعرف يا سيدي ماذا يعني عبء الزواج لفتاة يتيمة الأبوين لا تملك ورقه بيضاء ولا عائل لها إلا هذا الأخ المسكين الذي حمل هم الأسرة والدنيا صغيرا .. لكن يكفي أن أقول لك أنه لو كان قد جاءنا الموت , لكان وقعه علينا أهون من هم زواج فتاة لا تملك شربات الفرح.
لقد تحدث أخي بصراحه مع زوجي عن أحوالنا فكان والحمد لله شهما وكريما .. وقال له أننا جميعا على باب الله .. ثم وقف إلى جوارنا وجاء يوم الفرح , ولم يتخل عنا لفقرنا فلم يكن فرحا ولا زفافا , وإنما انتقلت من بيتي إلى بيت أهل زوجي الطيبين بلا فستان زفاف ولا حفلة صغيرة أو كبيرة ولا هدايا , وتقبلوني مرحبين وخففوا عني يتمي وفقري قائلين لي أننا كلنا "غلابة" .. وبعد أيام عشتها في بيت أهل زوجي في بلدتنا البعيدة في أقصى الجنوب , انتقلت مع زوجي إلى حيث يعمل في القاهرة وفارقت إخوتي الثلاثة لأول مرة في حياتي , على أمل أن نتزاور كلما سمحت لنا بذلك الظروف .. وانجبت أطفالي ومضت السنوات بنا وليس بيني وبين إخوتي الذين أحبهم من أعماق قلبي وسيلة للاتصال سوى الخطابات ولم أزرهم أو يزوروني منذ عشرات سنوات تقريبا .. لأنهم لا يملكون ثمن تذكرة القطار إلى القاهرة، ولا أنا أستطيع السفر إليهم والاطمئنان عليهم لنفس السبب , وقد بقي شقيقي الأكبر حتى الآن بغير زواج , وكلما شجعته على ذلك في الخطابات أجابني بأنه ليس من حق أمثاله أن يتزوجوا حتى لا يظلموا بنات الناس معهم بضيق رزقهم !
والشئ الذي يحز في نفسي كثيرا هو أن خطابات إخوتي الثلاثة تحمل لي دائما أعتذارهم عن "تقصيرهم" في حقي وعن عجزهم عن الحضور إلى زيارتي و"تشريفي" أمام زوجي , كما كان ينبغي للإخوة الرجال أن يفعلوا مع أختهم.
والحق أقوله لك يا سيدي أنهم لا يغيبون عن خاطري يوما واحدا وأتحدث عنهم كثيرا بحب وإشفاق واستعيد ذكريات أيامنا القاسية في بيتنا بعد وفاة أمي وأبي .. وأتذكر الحب الصافي الذي كان ومازال يجمع بيننا كما أتذكر دائما عطفهم علي ودموعهم يوم سافرت من بلدتي إلى القاهرة كأنما كانوا يحسون أنه لن يكون لنا بعد ذلك لقاء , وكلما رأيت عروسا في فستان الفرح بكيت على حال شقيقي الأكبر الذي أصبح عمره 40 سنة ولم يتزوج حتى الآن , ولا يستطيع الزواج بعد أن ضحى من أجلنا وحمل همنا وهو في سن الشباب .
إن لي أمنية غالية يا سيدي هي تذكرة قطار ذهاب وعودة من القاهرة إلى بلدتي البعيدة لكي أرى أخوتي الأحباء هؤلاء , وأسعد بالبقاء معهم بضعة أيام والاطمئنان على أحوالهم بطريقة أخرى غير الخطابات وأيضا لكي أشعرهم بأنني لست "زعلانة" منهم لأنهم لم يزوروني كل هذه السنين .. وإنما "زعلانه" عليهم وعلى ظروفهم وأدعو لهم جميعا بالسعادة في الحياة .. كما أدعو أيضا في النهاية أن يحفظ الله لكل ابن وابنه أباه وأمه حتى لا "يتبهدلا" في الحياة بعدهما كما "تبهدلنا" .. فهل تستطيع مساعدتي في تحقيق هذه الأمنية ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكــاتبــة هـــذه الـــرســالــة أقـــول :
أهجت مشاعري يا سيدتي بهذا الحب الأخوى الصادق الذي يجمع بينكم .. وبهذا التطلع الإنساني الحزين إلى زيارة إخوتك والإلتقاء بهم بعد انقطاع عشر سنوات لكي تسعدي بهم وترفعي عنهم حرج عجزهم عن زيارتك و"تشريفك" أمام زوجك .. ولتؤكدي لهم أيضا بقلب مفطور على الحب العائلي النبيل أنك لست عاتبة عليهم انقطاعهم عنك كل هذه السنوات .. وإنما حزينة من أجلهم وعلى ظروفهم القاسية التي تعجزهم عن زيارتك.
يا إلهي كم من إخوة لا يعجزهم نقص الإمكانيات عن التزاور , ومع ذلك فهم لا يتزاورون إلا قليلا , وكم من إخوة يتزاورون ولكنهم لا يحملون لبعضهم بعض ما تحملينه لاخوتك ويحملونه لك من مشاعر عائلية حميمة ؟
بل وكم من إخوة يتزاورون ويتراسلون ولكنهم لا يترددون عن اغتنام أية فرصة لاغتصاب حقوق إخوتهم المادية والتنكر لهم بغير أن تطرف لهم عين أو يتردووا لحظة كأنما لم يقترفوا إثما سوف يحاسبون عنه أمام من لا تميل موازينه سبحانه وتعالى أشد الحساب وأقساه يوم الحساب.
صحيح يا سيدتي أن الفقر الحقيقي هو فقر الروح وخلوها من المشاعر الإنسانية النبيلة وهو أيضا جفاف منابع الحب والعطف والحنان والإيثار فيها , واستسلامها لرغباتها الأنانية الحقيرة ولو كانت على حساب كل القيم الدينية والأخلاقية المتعارف عليها .. لكن هذا حديث آخر .. فتفضلي بزيارتي وسوف يتكفل "بريد الأهرام" بتحقيق هذه الأمنية الغالية لك بشكل كريم .. وبما يحقق لك هدفك من الزيارة وما هو أكثر منه إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يوليو 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر