إشارة البداية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

إشارة البداية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

                 إشارة البداية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

 

شجعني على أن أكتب إليك تأثري برسالة "الشقيقان" عن قصة الشابين اليتمين اللذين يواجهان الحياة وحيدين بعد رحيل الأب والأم من قبله فلقد أثارت الرسالة إشفاقي الشديد على هذين الشابين وجددت مواجعي ومخاوفي التي سأحدثك عنها بعد قليل.

 فأنا يا سيدي رجل في الثالثة والأربعين من عمري نشأت وتربيت يتيما فقد ماتت أمي وهي شابة في سن السابعة والثلاثين من العمر وتركتنا وراءها ثلاثة من الأبناء الذكور أكبرهم وهو أنا لم يتخط السادسة من العمر , وعشنا مع أبي العامل البسيط في بيت صغير ضيق بإحدى مدن الوجه البحري .. وعرفنا مرارة اليتم وقسوة انعدام الأهل على من لا أهل له , فأمي لم يكن لها أشقاء ولا شقيقات وأبي كذلك بلا أشقاء ولا شقيقات , ونحن أطفال صغار في حاجة إلى من يعني بأمرنا , وقد حار أبي فيما يفعله بنا بعد وفاة أمي فترة طويلة ثم تزوج من أرملة لم تنجب فعشنا معها ست سنوات ثم مات هو الآخر قبل أن يبلغ الخمسين من العمر .. وتركنا وحدنا تماما وعادت زوجة الأب إلى بيت أهلها .. وواجهنا نحن الدنيا القاسية بلا مورد سوى معاش أبي الذي لا يزيد على 430 قرشا .. وقاسينا من شظف العيش ما لا يتصوره أحد، ويكفي أن أقول لك أننا عشنا بضع سنوات لا نعرف "طهو الطعام" ولا توقد في بيتنا نار إلا لعمل الشاي حين تنفرج الأزمة ونشتري تموين الشاي والسكر .. أما معظم أيامنا فنأكل ما يأكله أمثالنا من الخبز والفول والطعمية في أوقات اليسر , أو الخبز والمخللات البيتية الرخيصة وما كان أكثرها , ومع ذلك فلم يتحقق لنا حتى هذا الحد الأدنى من متطلبات الحياة بسهولة أو بلا تضحيات .. فلقد يئس شقيقي الأوسط من مواصلة الدراسة وخرج للعمل ليسد رمقنا ويمنعنا وهو صبي من الموت جوعا .. فتنقل بين المهن ليعود لنا آخر اليوم بما يقيم أودنا .. وكنا نحن نساعده بالعمل في أي مجال خلال الصيف .. وبعد أوقات الدراسة نغسل ملابسه وملابسنا ونرتقها وننظف البيت المبني باللبن ونطارد حشراته.

 ومضت الأيام بطيئة كأننا ندفع بسواعدنا الضعيفة أحجارا ثقيلة لا تريد أن تتزحزح من مكانها .. إلى أن أستطعت الحصول على دبلوم المدارس التجارية .. وتم تعييني عن طريق القوى العاملة في وظيفة بسنترال المدينة الصغيرة .. وتنفسنا الصعداء .. وبدأت ظروفنا تتحسن بعض الشئ وصادف ذلك بلوغ شقيقي الأوسط سن الخدمة العسكرية , فحمدنا الله أن جاء ذلك بعد تعييني حتى لا ينقطع مورد الأسرة الوحيد بأدائه للخدمة , ثم تخرج أيضا شقيقي الأصغر وحصل على دبلوم المدرسة الزراعية وبدأ يعمل .. أما شقيقنا الأوسط الذي خرج للعمل وهو صبي ليحمينا من الموت فلقد مات فجأة خلال فترة التجنيد ورحل عن الدنيا قبل أن يسعد حتى بالتحسن الطفيف الذي شهدته ظروفنا وبكيناه بحرقة وتحسرنا على أنه قد رحل عن الدنيا دون أن يحظى بيوم واحد من الراحة أو السعادة منذ وفاة أبينا.

وخففت الأيام بعد ذلك من أحزاننا قليلا .. ومضت السنوات وأنا أعمل دون أن أفكر في الزواج إذ كيف لمثلي أن يتزوج وهو لا يملك شيئا .. ثم تزوجت بعد ذلك من سيدة فاضلة تقبلت كل ظروفي وقامت هي ووالدتها عني بكل متطلبات الزواج .. وحتى بدلة الفرح عجزت عن توفير ثمنها فأهدتها لي والدتها وهي تؤكد لي أنهما يقدران ظروفي ولا يرغبان إلا في عشرة طيبة بإحسان .. وبدأت ظروفي تتحسن تدريجيا بعد الزواج بفضل زوجتي التي ساعدتني كثيرا في حياتي وأشعرتني بالأمان إلى جوارها .. فقد وهبها الله روحا مطمئنة تشيع السلام والاطمئنان حولها وتتقبل كل شئ برضا وبصدر رحب .. وتعجبت من أنها هي أيضا كأمي الراحلة بلا أشقاء ولا شقيقات .. وقد تنبهت إلى ذلك بشدة حين أنجبنا أول أطفالنا .. ثم توالى الأبناء فأنجبنا ثلاثة أطفال كما كنا نحن ثلاثة إخوة قبل وفاة شقيقنا الأوسط رحمه الله.

وسارت الحياة بنا .. وتزوج شقيقي الأصغر.. وتقدم أبنائي في الدراسة فبلغ أكبرهم السنة الأولى الاعدادية , والثاني الشهادة الابتدائية والثالث سن القبول .. وبدأت أشعر بصعوبة الحياة في البيت المتصدع الصغير الذي نعيش فيه وأفكر في إعادة بناء جزء منه بالطوب الأحمر ليحمينا من برد الشتاء وحر الصيف , وبدأت مع زوجتي ندخر بعض دخلنا استعدادا لهذه المهمة الكبرى وقبل أن نبدأ أولى خطواتها ماتت زوجتي الطيبة فجأة إثر حريق بهذا البيت اللعين في بداية شهر إبريل الماضي .. وفشل كل محاولات إنقاذها ولفظت أنفاسها وهي في السابعة والثلاثين من عمرها .. كأمي حين رحلت عن الحياة .. وتركت وراءها ثلاثة من الأطفال الحيارى .. مثلما كنا نحن حين رحلت عنا أمنا ثم أبونا .. وفوجئت بأن دورة الحياة تكرر نفسها مع أطفالي الثلاثة بنفس البداية .. ونفس الظروف .. فأثار ذلك مواجعي ومخاوفي عليهم .. من أن يكرروا في الحياة رحلة أبيهم وأن يلاقوا ما لاقيناه نحن بعد رحيل أمنا وأبينا ..

إنني أعرف جيدا أن الأعمار بيد الله .. لكن الهواجس تلاحقني وتثير داخلى التساؤلات الحائرة عن مصير هؤلاء الأطفال إذا ما إكتملت الدورة التي شهدت إشارة البداية منذ شهور ورحلت أنا أيضا عن الحياة قبل الخمسين كما حدث لأبي , وأسألك يا سيدي هل هو قدر محتوم على بعض الأبناء أن يكرروا رحلة الشقاء والآلام التي قاساها الآباء من قبلهم ؟

ثم أسألك بعد ذلك بماذا تنصحني أن أفعل بحياتي لأهدئ خواطري وأجنب أولادي هذا المصير .. إنني أقوم لهم الآن بكل شئون البيت وشئونهم قبل أن أذهب إلى عملي وأدعهم في كفالة ربهم ورعايتهم إلى ان أعود إلى البيت المتصدع الذي انهارت أحلامي بشأن تجديده لكي يصبح صالحا للحياة فيه .. فبماذا تشير علي أن أفعل ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولـكــــاتـــب هـــذه الــرســـالــة أقـــول :

 

كل إنسان يتمنى في أعماقه أن يكون حظ أبنائه في الحياة أوفر من حظه فيها .. وأن تكون رحلتهم معها أكثر سعادة وأقل شقاء من رحلته معها , لكن إرادة الإنسان لا تتعلق بتصاريف القدر التي لا سلطان له عليها .. وكل ما يملكه لكي يحقق أمنياته الطيبة لأبنائه هو أن يؤدي واجباته الظاهرة والمستترة تجاههم , ثم يدعو ربه بعد ذلك أن يحفظهم ويجنبهم من اختبارات الحياة ما قاساه هو وتجرع مرارته.

 أما الواجبات الظاهرة فهي أن يرفق بهم في طفولتهم ويهبهم من عطفه ورحمته ما يخرجهم إلى الحياة بشخصيات سوية مبرأة من المرارة والمؤثرات النفسية الضارة وأن يحسن تنشئتهم على القيم الدينية والأخلاقية ويبذل كل ما في وسعه لتعليمهم وتزويدهم بما يستطيعون به الصمود في سياق الحياة ويحميهم من خطر الضياع والانحراف .. فإذا استطاع بعد ذلك أن يؤمن لهم غدهم ببعض المال في حدود قدراته وإمكانياته وبإعتدال فبها ونعمت , فإن لم يستطع فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وحسبه ما هيأه لهم من تعليم وما غرسه في نفوسهم وقلوبهم من أدب الدنيا والدين الذي يؤهلهم لأن يتفادوا أشواك الحياة ويضعهم على بداية الطريق لتحقيق الآمال .

أما الواجبات المستترة .. فهي أن يورثهم خير ما يورثه أب لأبنائه ويسلحهم بأفضل ما يسلح به الأب أبناءه من دروع ضد تقلبات الزمن وغدر الأيام , وهو تقواه واستقامته وإلتزامه بالحياة الجادة الشريفة وبعده عن المظان والشبهات .. فلا يطعمهم من حرام .. ولا يثقل كاهلهم بأذاه للغير أو ظلمه لهم أو اغتصابه لحق أحد , فتكون حياته بذلك التزاما بالفضائل والمثاليات ويتقبل الله منه دعاه لأبنائه ويجعل لهم من أمرهم رشدا أقام بينهم أو رحل عنهم مبكرا .. ولا عجب في ذلك "إنما يتقبل الله من المتقين" لا من العصاة وآكلي الحرام وظالمي الغير.

هذا هو الطريق ولا طريق غيره يا صديقي لكي يأمن الإنسان على أبنائه من بعده ويطمئن إلى أن الله جل شأنه لن يضيعهم .. كما لم يضيعه هو من قبل , وفي ظروفك فلست تملك لهم إلا أن تتحمل أقدارك بصبر ورضا وتواصل أداءك لرسالتك تجاههم بتنشئتهم على الأخلاق والدين وبمواصلة تعليمهم .. إلى أن يحققوا آمالك في الحياة بإذن الله .. وليس معنى رحيل والدتك في سن السابعة والثلاثين عن ثلاثة أطفال حيارى , ورحيل زوجتك في نفس السن عن نفس العدد من الأطفال، أن رحلة حياتك سوف تتكرر بكل تفاصيلها وآلامها مع أطفالك , فالأعمار تتفاوت بين الناس ولا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى وما أكثر من مات عنهم آباؤهم في سن صغيرة فطال بهم العمر وعاشوا أضعاف أعمار آبائهم .. وما أكثر من كان آباؤهم من المعمرين ولم يمهلهم العمر طويلا بعد آبائهم .. أو قبلهم  و"إشارة البداية" هنا ليست قانونا رياضيا لا يقبل الاحتمالات لكنها مجرد مصادفة محزنة تثير في النفس شجونها القديمة وتأملاتها .. ومع ذلك ولكي أهدئ خواطرك فقط فإني قائل لك أنه حتى إذا وقع ما تخشاه لا قدر الله , فلن تكون رحلة أبنائك في الحياة بنفس قسوة رحلتك أنت وشقيقيك فيها , لأن ظروفهم أفضل من ظروفكم نسبيا , فهم وإن كانوا محرومين من الخال والخالة مثلك , إلا أنهم ليسوا محرومين من العم والجدة وأسرة الأم بعكس ظروفك الأليمة السابقة.

ولقد كنتم أنتم محرومين حتى الحد الأدنى من الدخل الذي يكفل لكم أبسط متطلبات الحياة بذلك المعاش الهزيل لكن أبناءك لن يواجهوا بعد عمر طويل بإذن الله نفس هذه الظروف البشعة إذ سوف يكون لهم من معاشك كموظف ما قد يوفر لهم الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية ورعاية الله خير من كل ذلك وأبقى .. بدليل أنكم رغم قسوة ظروفكم وانقطاعكم من الأهل والمال والسند لم تضيعوا في الحياة ولم تنحرفوا أو تفسدوا ونال اثنان منكم برحلة عناء بطولية قسطا طيبا من التعليم هيأ لكم سبيل الرزق وانطوت صفحة ثالثكم قبل أن يلقى من الحياة ما يكافئ تضحيته وإخلاصه رحمه الله وعوضه في السماء عن كل ما حرم منه في الأرض .. فأي دليل أقوى من ذلك على أنه لا خوف على أولادك ولا حق لك في أن تتخوف عليهم !

يا صديقي اطرد هذه الهواجس المزعجة من رأسك ولا تضاعف من بلائك وأحزانك بها فـ

أن البلاء يطاق غير مضاعف

فإذا تضاعف صار غير مطاق

كما قال ابن الرومي وخير لك من أن تدع هذه الخواطر المحزنة تفترسك وتضعف من قدرتك على المقاومة والاحتمال أن تفكر بعد فترة مناسبة في البحث عن أم بديلة لأبنائك وتتخيرها من ذوات الرحمة والرفق باليتامى .. فتنال بعطفها عليهم وحسن تربيتها لهم خيري الدنيا والآخرة .. فهذا أفضل لك كثيرا من اجترار الأحزان والاستسلام للمخاوف وأفضل لأبنائك وللجميع بإذن الله.

 رابط رسالة الشقيقان

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يوليو 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات