الشقيقان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


الشقيقان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

الشقيقان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

أنا شاب لم أكمل بعد الثامنة عشرة من عمري ، نشأت في بيت سعيد ، وأذكر منذ نشأتي أنني كنت طفلاً محبوبًا من أبي وأمي ولي شقيق يصغرني بعامين ، كان رفيقي في وحدتي بالشقة .. فأمي موظفة بشركة قطاع عام وأبي موظف بإحدى الهيئات ، وقد فرضت عليهما ظروف الحياة وطلب الرزق أن تعود أمي للعمل بعد انتهاء أجازة العام لرعاية المولود .. وأن يغلقا علينا باب الشقة بالمفتاح ، ويبعدا عن أيدينا كل ما يمكن أن نؤذي به أنفسنا ، ثم تعود أمي ملهوفة عند الظهر فتجدني ألعب في أمان مع أخي .. أما أبي فلقد كان الحنان كله لي ولشقيقي ولأمي ، فهو يعود بعد الظهر فيسألني عما فعلنا خلال غيابه .. ويأكل معنا ويستريح قليلاً ثم يصطحبني أنا وشقيقي إلى قطعة أرض خلاء قريبة من بيتنا ليلعب معنا الكرة .. أو يراقبنا ونحن نلعب مع الأطفال ساعتين أو ثلاثًا بلا ملل منه أو استعجال ، ويقول إنه يفعل ذلك لكي يعوضنا عن حبسنا في الشقة طوال النهار .. أما في المناسبات فلقد كان أبي يصحبنا جميعًا إلى السينما أو الأهرامات أو الحدائق ، ونركب معه سيارته القديمة جدًا ، والتي عرفت من أمي أنه باع نصف الفدان الوحيد الذي يملكه ليشتريها وليستكمل أثاث بيتنا .

ولم يضربنا أبي مرة واحدة في حياته .. فقد كان يكفيه أن ينظر إلينا غاضبًا أو في عتاب حتى نعترف بخطئنا ونطلب صفحه .. أما أمي فلقد كانت تضربنا برفق أحيانًا إذا أخطأنا .. فإذا بكينا أسرعت بالبكاء أكثر منا وصالحتنا بعد قليل ..

وفي جو هذه الأسرة الصغيرة نشأتُ وأدركت رغم صغر سني كم تحب أمي أبي وتعتز به .. وكم يحبها أبي ويقدرها ، لكني أدركت أيضًا من ناحية أخرى أننا على عكس أصدقاء المدرسة ، ليس لنا أولاد أعمام أو خالات نزورهم ويزوروننا .. وسألت أمي عن سبب ذلك فعرفت أن أهل أبي أو من تبقى منهم يعيشون في أقصى الجنوب على بعد مئات الكيلومترات ، ولم يبق منهم سوى أبيه العجوز وشقيقته المتزوجة هناك ، والتي يعيش الأب في رعايتها من تجارة بسيطة .. أما أمي فإن أسرتها تعيش في مدينة ساحلية في دمياط وبقي لها منها شقيقة متزوجة هناك ..

ومضت الحياة وادعة جميلة والتحق شقيقي بنفس المدرسة التي دخلتها وتلازمنا ليلاً ونهارًا .. لكني لاحظت بعد فترة أن أمي مرهقة دائمًا ، وتعجز أحيانًا عن تنظيف البيت وإعداد الطعام ، وفسّر لي أبي ذلك بأنه قريبًا سوف يكون لنا شقيق ثالث أو شقيقة تشاركنا اللعب .. وبدأت أساعد أمي في أعمال البيت ، لكن إرهاقها تزايد وأصبحت تقضي اليوم كله في الفراش . وجاءت خالتي من بلدها لتزورها وكذلك عمتي .. وبدأت أرى أبي وهو يغسل لنا الملابس ويطهو الطعام ويخرج إلى الطبيب ويعود محملاً بالأدوية . ثم اقترب موعد الولادة ودخلت أمي المستشفى .. ولازمها أبي فيه ، ووجدت نفسي أنا وشقيقي وقد بلغت العاشرة وحيدين ، كما كنا قبل ذلك في الشقة الخالية ، وطال غياب أمي في المستشفى ، وتوقفنا عن الذهاب إلى المدرسة يومين لم نغادر الشقة خلالهما ..

وقد وعيت نصائح أمي بألا نقترب من البوتاجاز وأكياس الكهرباء وألا نفتح الباب لأحد مهما كان .. لكن طرق الباب اشتدّ حتى تملكنا الهلع وبكى شقيقي الصغير من الخوف .. وسمعت صوت جارتنا التي تقيم أمامنا تناشدنا أن نفتح لها الباب ، فتجرأت وفتحته ودخلت منزعجة ، ثم دعتنا للذهاب معها إلى شقتها وجمعت ملابسنا وكتبنا المدرسية واصطحبتنا معها .. وأدخلتنا الحمام وخرجنا لنجد طعامًا ساخنًا ، فأكلنا بشهية بعد يومين لم نأكل خلالهما سوى الخبز والجبن . وفي الصباح اصطحبتنا مع طفلتها إلى المدرسة وعادت في الظهر فتسلمتنا ، ثم فوجئت بأبي ومعه زوج جارتنا يدخلان علينا واجمين وكأنهما عائدان من سفر ، وعدنا إلى شقتنا مع أبي .. فسأله شقيقي عن ماما فأجابه أبي بأنها مازالت في المستشفى .. وأحسست رغم صغر سني إحساسًا غامضًا بأن هناك شيئًا ما يخفيه أبي عنا .. ولم تعد أمي الجميلة الطيبة من "المستشفى" بعد ذلك أبدًا . وخلت شقتنا الصغيرة منها ومن حنانها وصوتها الجميل ، وحين أدركنا الحقيقة القاسية بعد أسابيع .. لم أبكِ طويلاً رغم افتقادي لها لأني لست كثير البكاء وأكتم مشاعري . أما شقيقي فقد سالت دموعه كالنهر الجارف ، وهو سريع البكاء دائمًا .. ولأي سبب .. ومضت بنا الحياة . وتعلمت في سن الثانية عشرة تنظيف البيت ومساعدة أبي في غسل الملابس وطهو الطعام . وأصبح أبي يعود إلى البيت من عمله فلا يفارقه حتى اليوم التالي .. وإذا خرج إلى مشوار ضروري اصطحبنا معه ، وطالبنا دائمًا بأن ننجح في دراستنا لكي نسعد أمنا في العالم الآخر ، ولم نخيِّب ظنه .. فتقدمنا في الدراسة عامًا بعد عام بغير دروس خصوصية إلا مساعدة أبي لنا . وفي الصيف كان يصطحبنا لزيارة خالتنا وأولادها في المدينة الساحلية ولزيارة عمتنا وجدنا في أقصى الجنوب ، وفي إحدى هذه الزيارات سمعت – عرضًا – حوارًا بين أبي وجدي ، يسأله فيه جدي لماذا لا يتزوج مرة أخرى ليجئ لنا بمن ترعانا . وسمعت أبي يقول له بأنه قد رضي عن نصيبه من الحياة بعد أن سعد سنوات من عمره بصحبة أمنا ، ولن يُدخل على أولاده من لا يضمن حنّوها عليهم ، وقد يفكر إذا طال به العمر في الزواج بعد أن يشتد عود أولاده ويلتحق أصغرهم بالجامعة !

ورغم ذلك فقد لاحظت عليه أنه قليل الضحك كثير الصمت ، ورأيته أكثر من مرة يبكي وهو يصلي ، فرجوته أن يروِّح عن نفسه ويخرج في المساء ليلتقي بأصدقائه ويتسلى معهم .. فنظر إليّ طويلاً ثم قال لي : إنه ليس متضايقًا من بقائه في البيت معنا ، وأنه يريد أن يتفرغ لنا هذه السنوات القليلة القادمة حتى أحصل على الثانوية العامة وألتحق بالجامعة .. ثم يدعني لنفسي مطمئنًا إلى قدرتي على مواصلة الطريق ويركز بعد ذلك على شقيقي إلى أن يحصل على الثانوية العامة أيضًا .. وحينذاك سيحس بأننا قد وضعنا أقدامنا على أول الطريق ، وسوف يلتفت بعض الشيء إلى حياته بغير خوف علينا من الانحراف ، لأننا والحمد لله متدينان ونؤدي الفرائض في وقتها .

وقد حافظنا على عهدنا لأبينا ، فواصلنا التقدم في الدراسة ، واتسم سلوكنا دائمًا بالأدب والاحترام . وعلّمنا أبي حب الناس واحترام مشاعرهم ومجاملتهم في مناسباتهم المختلفة ، وكثيرًا ما اصطحبنا لأداء واجب العزاء معه لزملائه وأصدقائه وجيرانه . وكان يأمرنا إذا حدثت حالة وفاة في العمارة التي نقيم فيها أو في العمارات المجاورة أن نقف طوال النهار في خدمة أهل المصاب ، ونحمل الكراسي ونلبي أي طلب يطلب منا حتى ينتهي العزاء ويعود آخر الليل معنا راضيًا عنا . وأقسم على أحد جيراننا توفيت زوجته – رحمها الله – أن يستضيف ابنه عدة أيام بعد الوفاة وأمرنا ألا نفارقه ونخفف عنه ، واحتضنه مودعًا إياه حين جاء أبوه ليستعيده والدموع في عينيه .

وفي كل عام حين تأتي ذكرى رحيل أمنا ، كنا نقف جميعًا في المطبخ لنطهو اللحم والأرز ونحشو بهما الأرغفة ونوزعها على الفقراء في حيّنا ، ونقرأ الفاتحة على روحها الطاهرة . أما في المناسبات السعيدة للجيران فلقد كنا نحمل إليهم زجاجات الشربات وصناديق المياه الغازية ونوزعها على المدعوين ، ونرحب بأداء أي خدمة ونكنس الشقة بعد انتهاء المناسبة مع أصحابها وهم يشكروننا ويثنون على شهامتنا ، وأبي فخور بنا ويحثنا على بذل المزيد من الجهد لأن الناس "لبعضها" ولابد أن يكون المرء في عون أخيه . ووصلت إلى الثانوية العامة وضاعفت من ساعات مذاكرتي وأحاطني أبي بحبه واهتمامه وأعفاني من أعمال البيت ، وكلّف بها شقيقي الذي سأرد له الجميل في ثانويته العامة بإذن الله .

ومضى شهران من بداية العام الدراسي ثم صحوت يوم جمعة متأخرًا فلم أجد أبي في الصالة كعادته ودخلت عليه غرفة النوم ، فإذا بي أجده جالسًا على مقعده المفضل بجوار السرير يمسك بالصحيفة في يده وقد مال رأسه إلى الوراء .. وفارقت روحه هذه الدنيا الفانية . ولا تسألني يا سيدي عن حالي وحال شقيقي الأصغر حين عرفنا فجأة أن أبانا وسندنا الوحيد في الحياة قد رحل هو الآخر عنا . فلقد جرى ما جرى بعد ذلك وكأنه يحدث لشخص آخر غيري أتفرج عليه وأكاد لا أشارك فيه إلا بالبكاء المكتوم .. ولا يزعجني فيه إلا عويل شقيقي الصغير الذي انهار وولول كثيرًا وله عذره ، لأنه رأى آخر حصن لنا ينهار أمام أعيننا بهذه البساطة .

وأمضينا اليوم محاطين بالجيران والأصدقاء .. حتى أكاد لا أذكر في بيت من منهم تناولنا الغداء .. وفي بيت من منهم أمضينا ليلتنا ، فلقد أقسم الجميع على دعوتنا لبيوتهم ، وجاءت عمتي وجدي وخالتي وبعد فترة عادت خالتي وعمتي إلى بلديهما ، وبقي معنا جدي لبعض الوقت وجلس يبحث معنا مستقبلنا فطمأنته إلى أننا نستطيع الاعتماد على أنفسنا وأن جيراننا يقومون بإجراءات المعاش ، وأننا سنتكيف مع حياتنا فجلس مهمومًا وهو يرى نفسه عاجزًا عن الحياة معنا لأن تجارته الصغيرة في أقصى الجنوب ، وعاجزًا عن ضمّنا إليه لأن مدارسنا هنا ، لكني هوّنت عليه بالأمر وطمأنته ، فأصرّ على أن يترك لنا بعض النقود ، وجاء موعد سفره وخرجت معه لأوصله إلى محطة السكة الحديد ، ففوجئت به يتوقف أمام باب شقة جيراننا المقابلين الذين لم يتركونا لحظة منذ الوفاة وطرق بابهم فخرج إليه جارنا وجارتنا الفاضلة ودعياه للدخول فاعتذر ، وقال إنه فقط يريد أن يشكرهما على "تحنان" قلبيهما على هذين "الولدين اليتيمين" ويدعو لهما بالصحة وحسن الجزاء ، ثم يطالبهما بأن يكملا جميلهما بالسؤال عنا كل فترة .

وبكى وهو يقول ذلك فسالت دموع جارتنا وتوارت خلف الباب ، وأكد له جارنا أننا أمانة في عنقه أمام الله وطمأنه كثيرًا ، فانصرف داعيًا له ومضى يصافح كل من يلتقي به على السلم ويوصيه بنا خيرًا ، ثم سافر مصحوبًا بالسلامة إلى بلده .

وامتثلنا لما جرت به إرادة الله وواجهنا حياتنا الجديدة .. وأصبحت أعيش مع شقيقي وحدنا في الشقة ، نذهب إلى المدرسة معًا ونعود معًا ولا نغادر البيت بعد ذلك إلا نادرًا ، ولم يتركنا الله وحدنا ففي كل حين يدق علينا الباب جار من جيراننا أو صديق يسأل عنا ، وجارتنا الفاضلة تصر على أن تغسل ملابسنا مع ملابس أبنائها رغم أننا كنا نغسلها بأنفسنا طوال عمرنا ، وفي كل يوم جمعة لابد أن يدعونا والد أحد أصدقائنا بالمدرسة أو الجيران للغداء عنده وقضاء بعض الوقت . ونحن نعيش على معاش كما كنا نعيش في حياة أبي ، وقد بيعت السيارة القديمة ووضع ثمنها في شهادات باسمنا ، وجارنا المقابل صديق أبي يقوم عنا بكل الإجراءات ، ويراقب تصرفنا في النقود ويثق فيّ ويعتبرني مسئولاً عن أخي ، ولا أحد يتأخر عن مساعدتنا في أي خدمة نحتاج إليها . وقد فوَّضت أمري إلى الله وبدأت أحاول التعود على الحياة بلا أب ولا أم .. وأهزّ رأسي بشدة حين تطوف بي ذكرى أبي الطيب وأنا أذاكر كأني أطرد الذكريات الجميلة حتى لا تشوش على تركيزي في المذاكرة .

لكن شقيقي لا يساعدني على ذلك يا سيدي لأنه كثير البكاء كل يوم ودائم المخاوف والهواجس . وقد انصرف عن المذاكرة عدة أسابيع بعد الوفاة ، فساءت نتيجة امتحانه الشهري ، وتوسلت إليه ألا يخيب رجاء أبيه فيه فعاد للمذاكرة من جديد – وكلما طمأنته وشجعته .. لا يستجيب لي ويحدثني عن خوفه من المستقبل ويقول لي كل يوم إن الحياة قاسية .. وسوف نضيع فيها وحدنا وسوف نواجه أيامًا صعبة في المستقبل ، ثم يسألني أسئلة لا أستطيع أن أجيبه عنها .. فيقول لي فجأة وهو يبكي : ماذا نفعل حين يموت جدنا .. أو ماذا فعلنا من ذنب حتى "نتلطم" في الحياة وحدنا بلا أب ولا أم ولا خال قريب منا ولا عم .. ولا أمل ولا مستقبل ، حتى بدأ هو يخيفني بدلاً من أن أطمئنه أنا .

لقد كان أبي يقرأ لك دائمًا وكثيرًا ما أشركنا معه في قراءة ما تنشره من هموم الناس ويقارنها بحالنا ، ويقول لنا إن حالنا أفضل من غيرنا ، وقد طلب مني ذات يوم أن أقرأ قصة الشاب الذي فقد أباه المحامي وأخته الصغيرة – وكانوا كل أسرته – في حادث سيارة ، وهم في طريقهم لزيارته يوم عيد ميلاده في الإسكندرية حيث يدرس بالجامعة ، وقال لي بعد أن قرأتها إن هذا الشاب سوف يواجه الحياة وحيدًا وسوف ينجح ويحقق أمل أسرته فيه . ولهذا أريدك أن تكتب لأخي وتصبره وتشجعه وتطمئنه إلى أن الحياة ليست قاسية كما يعتقد ، وأننا يمكن بوجودنا معًا أن يحمي كل منا الآخر ونشق طريقنا بنجاح في الحياة .

 

إن شقيقي طيب وحنون ويشفق على الناس والحيوانات ، ويطعم القطط الشاردة ويضع لها الماء .. وأقول له إن هذا من الإيمان وسوف يجزيك الله عنه خيرًا .. لكنه بدلاً من أن يتجاوب معي في ذلك يصدمني ويقول لي نحن كهذه القطط لا أهل لها وسوف نتشرد في الحياة مثلها !

إنني أرجوك أن تكتب له وتقوي إيمانه وعزمه لكي أستطيع أن أتفرغ للمذاكرة بتركيز خلال الفترة القصيرة الباقية على امتحان الثانوية العامة ، وأن تؤكد له أننا لن نضيع في الدنيا لأننا لم نفعل شيئًا سيئًا في حياتنا .. وإنما نصلي ولا نؤذي أحدًا ، وقد جاءت ذكرى رحيل أمنا منذ أسابيع فطهونا معًا اللحم والأرز ووزعنا الطعام كما كنا نفعل كل سنة رغم تغير الظروف وسوف نفعل ذلك أيضًا في ذكرى أبي حتى ولو حرمنا أنفسنا من الطعام عدة أيام .. فلماذا سنضيع في الحياة كما يعتقد ، وهل الحياة قاسية إلى هذا الحد فعلاً يا سيدي كما يقول شقيقي ؟ 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

الحياة قاسية فعلاً ولكن على من نكب بسوء الخلق الذي ينفر منه الآخرون ويسد دونه أبواب قلوبهم .. ويشل أيديهم عن إنهاضه إذا تعثر .

كما أنها قاسية أيضًا على من يعجز عن التواصل معها ومع الآخرين ومن يستسلم إلى فشل الروح والتشاؤم والوساوس والهواجس ، ويفتقر إلى الإرادة والحماس والقدرة على الكفاح وتحقيق الأهداف . وأنتما والحمد لله قد ورثتما عن أبيكما الراحل – رحمه الله – خير ما يرثه ابن عن أبيه وهو حسن الخلق ، فكأنكما بذلك قد ورثتما عنه الدين كله لأن "الدين حسن الخلق" كما جاء في الحديث الشريف ، كما ورثتما عنه أيضًا حب الناس واحترام مشاعرهم وخدمتهم والقدرة على التواصل معهم ، فتفتحت لكما قلوبهم ، فإذا أضيف إلى كل ذلك استقامتكما وجديتكما في الحياة وحرصكما على أداء الواجب بروح المسئولية والنضج المبكر .. فكيف يفشل مثلكما إذًا في الحياة ؟ أو كيف ينهزمان أمام أية صعوبات جديدة .. بل أي صعوبات يمكن أن تواجهاها في المستقبل أقسى من اختبارات الحياة المؤلمة التي صمدتما لها بشجاعة وإيمان خليق بالكبار حتى الآن . لا يا صديقي العزيز ، لن يكون الغد أسوأ من اليوم أو الأمس بالنسبة لكما بأي حال من الأحوال بإذن الله ، فلقد أديتما ضريبة الألم مضاعفة خلال عمركما الصغير .. ولابد أن يأتي دوركما ذات يوم قريب لكي تفتح أمامكما أبواب السعادة والأمان والنجاح في الحياة . إذ لمن يكون النجاح والسعادة إذًا إن لم يكونا لأمثالكما من الأبناء الطيبين المكافحين الصابرين الملتزمين في حياتهم بالنهج القويم وتفيض نفوسهم فوق كل ذلك بكل هذه القيم الخيرة ؟

لقد أكسبت الظروف الأليمة التي واجهتماها ، شقيقك الصغير نظرة تشاؤمية تجاه المستقبل ، وإني لألتمس له بعض العذر فيها بالنظر إلى ظروفه وتكوينه النفسي في ظروف الحرمان المبكر من الأم الذي يسلب الصغير قدرًا كبيرًا من إحساسه بالأمان ، لكني فقط أدعوه لأن يثق في أن الله لن يضيعكما أبدًا بإذنه تعالى ، ويثق في نفسه وفي قدراته ويعرف أن الإنسان لا يمكن تحطيمه أبدًا إذا امتلك شعل الإرادة والقدرة على الكفاح لتحقيق الأهداف الشريفة والتزام الطريق القويم في حياته .

إذ ليس عدلاً مع النفس لمن عانى مثلما عانى شقيقك أن يفسد يومه لحساب غدٍ بظهر الغيب ، ولا يستطيع أن يجزم بما إذا كان يحمل له خيرًا أو شرًا . فإذا كان الأمر كذلك "فليتمسك بيومه" كما يقول المثل الروماني ، ويعرف أن خير وسيلة للاستعداد للمستقبل هي أن نركز أنظارنا وجهدنا على عمل اليوم لأنه مفتاح الغد . وعمل اليوم بالنسبة إليه هو أن يكون جديرًا باسم أبيه ويحقق النجاح والتفوق في دراسته ، فيحقق خطوة لها اعتبارها على طريق المستقبل ، وليسترجع كلما راودته المخاوف قصة ذلك اليتيم العظيم الذي غيّر مجرى التاريخ ، ووجده ربه يتيمًا فآوى ووجده عائلاً فأغنى ووجده ضالاً فهدى ، وهدى به الأمم ، وليراجع كتب التاريخ بعد نجاحه في امتحان هذا العام بإذن الله ؛ ليعرف كم من العظماء وصناع التاريخ والأدباء والفنانين الخالدين ورجال المال والصناعة والاقتصاد الكبار قد بدأوا حياتهم كما بدأها هو ، وربما في ظروف أشدّ قسوة وصلت ببعضهم إلى ملاجئ الأيتام في بعض مراحل عمرهم ومع ذلك فلقد صمدوا لأعاصير الحياة .. وحققوا نجاحهم وغرّدت طيور السعادة في أعشاشهم أو قصورهم .

إن شقيقك يا صديقي رقيق العاطفة سريع التأثر وسوف يحتاج دائمًا إلى دعمك النفسي له ، فلا تملّ من طمأنته دائمًا وتشجيعه واحتمال هواجسه وميله الغريزي لتوقع المخاطر – فهو فتى طيب القلب حمّلته الحياة ، وهو في هذه السن الصغيرة ، ما قد ينوء بحمله بعض الكبار فاصبر عليه ولا تملّ من تشجيعه وتذكيره دائمًا بأن في السماء ربًا لا يغفل عن عباده ، وأن أمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له كما جاء في مضمون الحديث الشريف ، ولا تكف عن تذكيره أيضًا بأن موعدكما السعادة في المستقبل القريب بإذن رب العالمين وليس الشقاء أبدًا ، لأنكما قد استوفيتما كل نصيبكما منه ، وإذا احتجت إلى مساعدة نفسية متخصصة لبث الطمأنينة في نفس شقيقك الصغير ، فإنه يسعدني أن أرتب ذلك لك بلا أية أعباء مادية بعد انتهائه من امتحانه ، كما يسعدني أن ألتقي بكما وأسعد بالتعرف عليكما في أي وقت تراه مناسبًا لذلك إن شاء الله . وأرجو أن أكون أول المهنئين لشقيقك بالنجاح في عامه الدراسي الحالي ولك بالنجاح والتفوق في الثانوية العامة بإذن الله .. ولا تتردد في الاتصال بي إذا رغبت في أي خدمة من أي نوع لك ولشقيقك .. وشكرًا لك مقدمًا إذا فعلت والسلام .

رابط رسالة إشارة البداية تعقيبا على هذه الرسالة

نشرت في مايو عام 1993 بجريدة الأهرام

نقلها وراجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات